رحنا نقطع معاً، طريقاً جانبياً وعراً وموحلاً، تتعارك عند عتبات مداخل بيوته الواطئة، أعداد كبيرة من القطط والكلاب وبنات آوى الرخوة المداهنة، فيما راحت تتحرك تحت أقدامنا، قوالب طوب، وُضعت - للسابلة - بطريقة عجيبة ومدهشة دفعت الماء المتطاير، يتصاعد تحت - وطأة دهسنا - على استقامته. وبزاوية تحول دون وصول قطرة واحدة الى ملابسنا أو أجسادنا. يعود الماء الى الهبوط بعدها ثانية، بالزواية نفسها وعلى استقامته، غير أني لاحظت، وعلى ضوء لمبات شحيحة وواهنة تتدلى من فوقنا، اسفل حبل يمتد من السلك بطول الطريق، لاحظت ان ظلالاً للماء المندفع لم تتوقف عن التراقص اثناء اختراقنا المكان فوق قوالب الطوب هذه، لحظة. قالت: اتعبتك معي. كان العراك لا يزال دائراً عند المداخل، عراكاً شرساً وطاحناً، تساقطت خلاله بعض الأبدان بلا حراك، وتعالى النباح والعواء والصراخ، وتناثر الدم ملوناً زجاج لمبات الطريق الشحيحة الواهنة. لم يكن الأمر - بالنسبة إليّ - كما تخيلت هي، فكثيراً ما أبديت استعدادي لتقديم أية مساعدة تريدها. مرحباً، وأكدت ذلك. قلت: لا تعب بالمرة. كنت حريصاً على ان تظل بيني وبينها - طوال سيرنا - مسافة، حاولت قدر استطاعتي الاحتفاظ بها، خشية أن يظن بي الظنون، واصبح - لسوء فهم يراوده - موضعاً للشك والريبة. قالت: يصطادونها له. واستدارت ناحيتي ساحبة من كيس تحمله، كيساً آخر، معبأ الى حافته تقريباً بضفادع صغيرة خضر، حاول بعضها جاهداً، الخروج - عبر فتحته - قافزاً، لكنها أفلحت في إحكام قبضة أصابع كفها على الفتحة، قاطعة على الضفادع طريق هروبها، الأمر الذي دوت على اثره فرقعة عظام تتكسر، واستدارت ثانية وهي تلعق بطرف لسانها لوناً غامضاً كان يزين شدقها فيما راحت تكسو ملامح وجهها المسحوب قليلاً الى الخارج، ابتسامة واسعة، لونت عيونها. قالت: يحاسبني على الواحدة. كانت ريحاً لافحة، تشبه ريح حلق مريض بالحمى، نتنة وداهمة، قد هبت فجأة، راح شالها الداكن - خلالها - يحلّق من فوقها. قلت: علَّها الأبواب. وواصلت سيري لم أكن قد رأيته مطلقاً، غير أن حكايات كثيرة كانت تقولها، اثناء جلسات تجمعني بها وحدنا دعتني للتساؤل عن السبب الذي يدفعها الى البقاء معه. كنا على مشارف انحناءة تقاطع جانبي لطريق آخر، أكثر ضيقاً ووعورة، ولا نقطة ضوء واحدة. قالت: علَّك تنجح معه. اضاءت مصباحاً صغيراً رأيت في انعكاس أشعته الصفراء بوابة حديداً مجنزرة، عليها قفل نحاسي كبير، من ذلك النوع المدموغ بعلامة مميزة، يجمع نهايات حلقات سلسلة ضخمة وملفوفة. قالت: هنا. وأمالت رأسها ناحيتي، راجية ألا أثيره، وقبلتني، فأصابتني برودة جلدها بالوجل. * كاتب مصري.