أصدر كنعان مكية قبل عقد أو يزيد كتابه المعروف "جمهورية الخوف"، وهو الكتاب الأكثر تداولاً في عراق اليوم، وعلى نحو يفوق كل الاصدارات التي كتبها عراقيو الخارج. ومع خطورة تناقل هذا الكتاب إلا أن عمليات استنساخه وتوزيعه ما زالت جارية، وتلك مفارقة تشير الى حال العراقيين في جمهورية الخوف نفسها. فالخوف هو الحقيقة الثابتة التي لم تتغير في حياة العراق طوال الثلاثين عاماً المنصرمة. هذا الخوف الذي يتقاسمه الصغار والكبار، أبناء السلطة ومعارضوها، الأقربون الى الرئيس والأبعدون. الخوف الساكت، المكتوم، الساكن بين طيات الجلود وتحت الأظافر، وفي قشعريرة اللحظة المحذوفة من هستيريا الهتافات وقصائد المداحين وأغنيات الحرب. يفزع العراقيون من فكرة أن تكتشف السلطة خوفهم، مع أن استراتيجيتها تقوم على تصنيع الخوف وتعميمه، فهم يعرفون أنها خائفة من خوفهم، وأن كوابيسها تشبه كوابيسهم. لكن هذا الخوف العجيب الذي يعز على الوصف، يبقى الحقيقة الثابتة في حياة الحاكم والمحكوم، والمستقبل الذي يحدد نوع العراق وهيئته وطبيعة مجتمعه، ويحكم علاقاته بجيرانه وبالعالم أجمع. فالخوف لا يخطف فقط أفئدة المسوقين الى غرف الموت أو التعذيب كل يوم بل كل ساعة ودقيقة في العراق، بل هو الذي يظهر في وجه مذيع التلفزيون الصارم الذي يشبه وجه رجل الأمن، وفي خطوة المفاوض العراقي المبعوث من لدن حكومته، وهو يسير الى غرفة المفاوضات. والوزير الذي يصغي الى الرئيس منكس الرأس وهناك أثر ارتعاشة تحت جفنيه، والقائد العسكري الذي يؤدي طقس التحية تخذله قدماه، فيقف متشنجاً أمام صدام خوف أن يكتشف خوفه. هو الخوف الذي يدفع الرئيس الى اطلاق النار من بندقيته أمام كاميرات العالم، ثم يعود بعدما يحشوها ويرمي بها ثم يرمي الهواء، كمن يستنفذ خوفاً قديماً يسكن فؤاده. هو الخوف، هذا الذي أبقى الجواهري مستيقظاً كل ليلة على أصوات دقات وهمية يسمعها من وراء جدران كل الغرف التي سكنها في براغ ولندن ودمشق وعمان. الخوف هذا الذي عندما كتبته حياة شرارة، الأديبة والأكاديمية، أعدت العدة كي تنتحر خوف العقاب. فبعدما أنهت عملها "إذا الأيام أغسقت" كان الخوف قد أخذ من روحها مأخذاً، فأقفلت الأبواب والشبابيك وفتحت أنابيب الغاز وماتت مع ابنتها الشابة، خوف أن تترك الفتاة وحيدة مع خوفها. كتاب حياة شرارة وثيقة عن الخوف العراقي ليس إلا، وثيقة كتبتها هذه المرأة الاستثنائية في شجاعتها والخائفة الى حد الهروب من الموت والعذاب الى الموت نفسه. لعل موتها الذي لم يحرك ساكناً عند كتاب العرب المنادين بحريتهم وكرامتهم وحدهم، لا حرية العراق وكرامته، لعل هذا الموت يترجم كل التراجيديا العراقية التي تُباع وتُشترى في سوق النخاسة العربية. كتب سعدي يوسف قبل أيام فقط ما تجاهله واستثناه من قصيدته طوال عقود، وهو المشهد الذي يراه صبح مساء. "لكنني أسمع في الليل الليل، دوي الغارات/ بقارات تتراءى مائجة في لجج وأعاصير وأدخنة/ أسمع زخات رصاص/ والصوت السري لاطلاقة كاتم صوت/ أسمع أبواباً تخلع في أحياء الغرباء/ وأسمع أحياناً صرخة طفل". كان مظفر النواب يكرر لسنوات طويلة على سامعيه محاولة خطفه وتخديره من قبل السفارة العراقية. وفي بلغاريا منتصف الثمانينات انتحر كاتب شاب كان يُعد من الطلاب النابهين في قسم الفلسفة، ألقى بنفسه من نافذة شقته العالية، بعدما أمضى سنته الأخيرة يطارد أشباح رجال الأمن التي تظهر له في كل مكان. انه العراق المتعب، العراق الهارب من جغرافيته وجلده. العراق الذي تُرفع صور جلاده فوق هامات المظلومين في فلسطين. العراق الذي يهدد الكويتي سليمان أبو غيث أميركا به. العراق الذي استيقظت شهرزاد الاميركية على صباح ضربه. هذا هو عراق الرعب، فأي السبل نسلك إليه؟