كنا أكدنا هنا وفي غير مكان وزمان ان ليس للفلسطيني متسع لتعدد الإرادات أو المرجعيات لا سيما بعدما تحولت منظمة التحرير على فصائلها الى سلطة وطنية تمارس نوعاً ما من السيادة على أرض الوطن. من المتفق عليه ان تطوير الإرادة الجماعية في مسيرة التحرر وبناء الذات الجمعية وسيادتها شرط أساسي لتحقيق التطلع والحلم. وهو فعل لازم لانتاج عنوان ومرجعية للجماعة تدير الصراع باسمها مهما يكن المسار، عسكرياً أو حوارياً، عنفياً أو تفاوضياً. ولسنا بحاجة الى كثير ذكاء لنخلص الى أن مشاريع التحرر القومي لم تكن تتم من دون بناء المرجعية والإرادة الواحدتين، ولو لفترة من الزمن. ويصير الأمر لازماً أكثر ألف مرة عندما يكون التحرر مواجهة مع مجموعة قومية أخرى تسعى من جانبها الى تحقيق "تحررها" و"استقلالها"! ومن هنا فإن عملية بناء الإرادة الجمعية مسألة خطيرة بل في منتهى الخطورة. فغيابها يعني الفوضى القومية والنزعات القومجية أو ما اسماه اريك هوبسباوم "القومية الشعبوية" وهي مشاعر قومية حقيقية تجيش في الصدور وتطن في الرؤوس، لكن بغير القدرة على ترجمتها الى مشروع سياسي سيادي واضح أو الى تطلع محدد يمكن تسميته وتعريفه ورسم ملامحه. والمسألة غير متعلقة بالأداء الاسرائيلي الذي لا نستطيع اتهامه بأنه يضمر الخير للجانب الفلسطيني. بل هو في صلب حيثيات الملف الفلسطيني الداخلي، في صدر البيت والقنطرة التي تحفظ وجوده. وعلينا أن نقر بأنها ليست حيثيات مطمئنة لا في الماضي ولا في الراهن. فالعمليات الانتحارية المتواصلة رداً على الاجتياحات الاسرائيلية وما أحدثته من تدمير، ومهما يدعي مناصروها، تنسف أول ما تنسف قنطرة البيت وصدره، وليس الباصات على من فيها. وإذا ما دققنا النظر في الرد الاسرائيلي على هذه العمليات لرأينا انها تتمحور منهجياً، يوماً يوماً، على الانتقاص من المرجعية الواحدة والإرادة الواحدة وتستثني بوضوح كل حيثية في البيت الفلسطيني، وكل حركة من شأنها أن تحقق الأمر ذاته. وهنا تلتقي النقائض في الانقضاض على قنطرة البيت. ينبغي الإقرار علناً ومن قبيل الاستقامة ان ضعضعة الإرادة الجمعية الفلسطينية الآن، على نقاشنا مع أدائها، تجعل مسألة استقلال الدولة الفلسطينية أمراً غير مفروغ منه، بمعنى انه غير حتمي كما يظن الحتميون واليقينيون. هذا ما نخلص إليه من قراءة عاقلة للوقائع على الأرض. فاسرائيل الرسمية، على الأقل، جادة في تخريب مشروع المدينةالفلسطينية للمرة الثانية مستغلة عملية هنا وعملية الآن وثالثة، غداً. ويمكننا أن نرى أنها تستثمر تفوقها العسكري لتحقيق أمرين على الأقل، تدمير القدرات القيادية للشعب الفلسطيني كما تجسدها السلطة الوطنية ورموزها عبر التصفية أو الاعتقال أو المحاصرة أو الإبعاد وقد يتطور الفعل الأخير بسرعة!، وتدمير البنية التحتية والموارد الثقافية والرمزية والروحية في المدن الفلسطينية، أو في الفضاء الفلسطيني الذي اكتسب ملامح وألواناً وآفاقاً منذ عودة القيادات الى الوطن، أو الى المساحة المتاحة منه. والتدمير في كلا المستويين يستهدف نسف هياكل الانتظام الفلسطيني والبنى التي تجسد أسس الكيان الآتي لا سيما القدرات القيادية والرموز الوطنية. وتقديرنا هو ان الاجتياحات الاسرائيلية الأخيرة أعادت الوضع الى ما كان عليه، في هذا الباب، قبل عقد ونصف العقد، هذا في حين ان الفعل المقاوم غير المحسوب أعاد بدوره المجتمع الاسرائيلي الى شرنقته التي تحصن فيها حتى النصف الأول من الثمانينات. طبعاً، لا يمكننا أبداً أن نعزو ما حصل للمجتمع الاسرائيلي بالكامل الى هذا الفعل، لكن يخطئ من يظن أن الأفعال غير المحسوبة لم تقع مواقع معكوسة لدى الطرف الاسرائيلي. ويكفي أن نشير الى حقيقة ان على المقهور، وهنا هو الفلسطيني، أن يناور ويداور حتى يظل عنفه حافزاً للقاهر أن يفكر بجدوى قهره، أن يلتفت الى الشأن الفلسطيني والحق الفلسطيني. وهذه التجربة خاضتها كل الشعوب والمجتمعات التي خضعت للقهر. إذ كان عليها أن تضبط عنفها/ مقاومتها على نحو لا يدفع القاهر الى الجنون أو الى هستيريا العنف التدميري، كما هو حاصل الآن من الجانب الاسرائيلي. وعلينا أن نقر في هذا السياق ان الفعل المقاوم المتجسد في ظاهرة الانتحاريين تجاوز خانة المقاومة الى خانة الانتقام وعبر حدود اقامة "توازن الرعب" مع "العدو الاسرائيلي" الى خانة اقامة "توازن الدماء" معه. وفي هذا، عملياً، الغاء للمسافة بين القاهر والمقهور، بين القوة الأخلاقية في لائحة الاتهام الفلسطينية الموجهة الى اسرائيل والى الأسرة الدولية والى شعوب العالم. وفي هذا أفدح الخسارات للطرف الفلسطيني المحتاج الى كل ذرة مناصرة أو تفهم أو دعم. ليس سهلاً على أحد أن يشطب الفارق بين قاهر ومقهور، بين جيش احتلال وقمع وبين المقاومة وناشطيها، إلا أن الفعل الانتحاري على شكله الذي رأيناه يفعل ذلك بيسر وفي لحظات، بل يقلب المعادلة على ظهرها، بحيث يصير الفلسطيني معتدياً ولاسرائيل حق الدفاع عن مواطنيها وعن نفسها! أما الترجمة الحرفية لهذا الحق، فهو اطلاق يدها تدميراً وعبثاً في حيوات شعب ومقدراته ومشاريعه. وليس خافياً على أحد ان العمليات، على الخسائر التي تلحقها بالطرف الاسرائيلي، إلا أنها تتحول في مساحة الصراع العامة الى كنوز وموارد تستثمرها اسرائيل الى أقصاها، في الحلبة الاعلامية وعلى الأرض، أيضاً، وهو الأخطر. فهي، من خلال مشاهد الباصات المتشظية، تصوغ تسويغات لجريمتها المقبلة. وإذا شئنا أن نقسو ونتشدد لقلنا ان مقابل كل "مشروع شهادة" انتحاري، هناك مشروع احتلالي جهنمي. هناك من يعتقد وهماً بأن الخوف الذي تشيعه العمليات الانتحارية في نفوس الاسرائيليين سيدفعهم الى الرحيل أو الى تعديل مواقفهم. بل ذهب كثيرون أبعد من ذلك بادعاء، ها هم الاسرائيليون يتداعون أو ينهارون ودلالة على ذلك المؤشرات المقلقة للاقتصاد الاسرائيلي. لكن، في نهاية الأمر، لم يقم اليهود "بيتهم القومي" عنوة وبثمن تشريد وتقتيل شعب وسرقة وطنه كي يرحلوا عنه أو يتركوه. وهم في الحالة العادية قد يهاجرون من اسرائيل، لكنهم، كأي جماعة تبني هويتها، لن يسمحوا لأنفسهم أن يفعلوا ذلك هرباً. وهذا من حكمة عزة النفس عند الجماعات في صراع! ما يحدث الآن ينتج الهوية الاسرائيلية / اليهودية من جديد على أسس أكثر شوفينية وعدوانية. بل قد يكون في ما يحدث من فعل عنيف غير محسوب موجه ضد الاسرائيليين عاملاً مبلوراً لروح الجماعة على هدى رؤى اليمين وجنونه. فإذ بالبوست صهيونية التي جسدتها بعض الظواهر في المجتمع اليهودي تنكفئ الى "ما قبل صهيونية"، أي الى البدايات، الى صراع مطلق، "اما نحن واما هم"! على أي حال، أخطر ما في الأمر هو ان الفعل المقاوم غير المحسوب، يأتي، ليس فقط انتقاماً من الآخر الاسرائيلي بل انعكاس لمزايدات بين فصائل وقوى فلسطينية، فيما الذي يدفع الثمن هو القيادات وعلى رأسها أبو عمار الذي تستهدفه هو، أيضاً، هذه الأفعال. فهي تقصد الاستئناف على مرجعيته وسلطته وادارته وأدائه بالقول، انه غير قادر على فرض السيادة بالتعامل أو فرض الإدارة الجمعية في المناطق التي يشرف عليها... وكلما حصل شيء من هذا القبيل نرى اسرائيل بآلياتها العسكرية والاعلامية والسياسية، تضغط على عنق عرفات ورفاقه، لا على قيادات "حماس" أو "الجهاد الاسلامي"... وهنا، علينا ان ننتبه الى خطورة الموقف، الى حقيقة ان كل عملية انتحارية، هي مناسبة اسرائيلية تمارس فيها طقوس صيد الساحرات ضد عرفات ومقربيه، ضد هيبته ومكانته وقدرته على تمثيل القضية وإعلاء شأن المطلب الحق للشعب الفلسطيني. وقد يكون لنا نقاشات لا حصر لها مع القيادة العرفاتية وأدائها، لكن لا يمكن، بأي حال من الأحوال، تمكين اسرائيل من عنقه، ليس في المستوى الجسدي، بل في المستوى الرمزي، فيما يمثله الرجل من إرادة أو تجسيد لإرادة الجماعة، فقط بسبب هذه الاختلافات وفقط لأننا نرى أنفسنا ظل الله على الأرض. كما لا يمكن أن تكون "ثقافة المزايدة" لدى الطرف الفلسطيني الثغرة التي ينفذ منها المعنيون بضعضعة البيت الفلسطيني. وفي الذاكرة نتف من عواقب هذه الثقافة على الساحة الفلسطينية، والعربية عموماً. شارك أحد أقاربي في العمليات العسكرية ضد أهداف صهيونية في الثلاثينات الاخيرة. وكان قائد الفصيل الذي انخرط فيه يستنفر العناصر بالقول، سنذهب اليوم الى احدى المستعمرات لطرد "أولاد الميتة" منها، وهي كناية فرويديانية اطلقت على اليهود في ذلك الوقت. وكان الجميع ينتظم استعداداً للهجوم. يمترسون على بعد ألف متر وأكثر، يطلقون من بنادق محدودة المدى والتصويب، أما القائد فكان يصوّب ناظوره يساعده خيال أو اثنان في رصد رد فعل العدو، ولما كانت تطلق الرصاصة الأولى من المستعمرة، كان يأمر جنوده بالانسحاب الفوري ما استطاعوا اليه سبيلا! كان هذا هو الأداء العسكري قبالة من تمت تسميتهم ب"أولاد الميتة"، وعليه، ليس صدفة أن يفلح هؤلاء في نهاية الأمر، في الاستيلاء على فلسطين وترحيل شعبها عنها ومنها. فالكنية هنا، دلالة على تعاط خاطئ بل قاتل مع الآخر، وهو اثبات على بؤس القراءة الفلسطينية لحال الجانب الاسرائيلي ولحال الداخل الفلسطيني، ايضاً. فالمراهنة على خوف الاسرائيليين قد تتضح خطأ تاريخياً آخر، بل قد تنقلب على رأس الفلسطيني وبالاً لعقود أخرى. فالحكمة الآن ليس في الانتحار الفردي أو الجماعي، بل في الضبط والانضباط، في سد كل ثغرات البيت كي نحمي القنطرة الفلسطينية من التداعي. قد نستطيع أن نرمم ما يدمره الاحتلال في الممتلكات، لكننا قد نشقى حتى نستطيع مواجهة فقدان القيادات والادارة الجماعية وروح الجماعة، ويكفي ما تفعله اسرائيل في هذا الباب، وليس للفلسطيني متسع ليجازف هو برأي هذه القيادة وبالإرادة ومؤسساتها مستنداً الى "حتمية" انتصار المقاومة ورحيل المحتل. وإذا كان الاحتلال بوحي من الفلسفة الاسرائيلية، قد فقد كل كوابحه وفرامله وقيوده، فإنه يتوجب على الفلسطيني، مهما يكن، ألا يفقد انسانيته، والا يضيع بوصلته وتوازنه! فكل قتيل للمدنيين بعملية انتحارية، وكل نسف للحافلات باسم المقاومة انتقاص من انسانية الفلسطينيين وحقهم... وهنا، لا أحد يضمن ألا يتحول مثل هذا الفعل المطلق في دمويته الى عملة متداولة داخل البيت الفلسطيني، ايضاً، رحل الاحتلال أم لم يرحل. قد نفهم أن يموت المقاومون خلال فعل المقاومة، لكن لا نفهم أن يقاوموا حتى يموتوا! وقد نفهم أن تقع الأخطاء والخطايا فيموت المدنيون خلال الصراعات، لكن لا يمكن، من حيث المبدأ، أن يصير قتل المدنيين الاسرائيليين، هو هدف الفعل الصراعي. الفوارق دقيقة لكن لا يعقل ألا نقيمها، ألا نرسمها بالخط الأحمر، بالكلمة المدوية حتى يظل الفلسطيني قادراً على تحويل قضيته وحقه ومعاناته الى مشروع سياسي ترعاه قيادة تعبر عن الإرادة الجمعية الأساس الذي تقوم عليه سيادة الشعوب. * أكاديمي فلسطيني - دالية الكرمل.