كل الدروب تؤدي الى الطاحون، كذلك فإن كل العوامل في الشرق الأوسط تؤدي الى مزيد من العنف. أما عملية التفجير في تل ابيب، يوم 1/6/2001، فلا تقدم ولا تؤخر من حيث سيرورة العنف المندفعة الى أمام، من حيث كم العنف وعدد ضحاياه. وقد كشف في اسرائيل ان هذه العملية ربما أجلت، على نحو معكوس، ضربات عسكرية كانت مقررة في وقت سابق لاتاحة الفرصة أمام الجيش لتعديل خططه باتجاه زيادة عدد الأهداف ومضاعفة طاقة التدمير. من الواضح ان حكومة شارون - بيريز معنية باستثمار العملية واخراجها مشهدياً بحيث تستدعي التعاطف في المرحلة الأولى، والسكوت عن الجريمة الاسرائيلية المناوبة في المرحلة الثانية. لكن اسرائيل تمرّ حكومة وشعباً بمرحلة من تطور الصراع مع الفلسطينيين والعرب عموماً تعيد فيها انتاج خطابها في الهواء وعلى الأرض كأنها قامت للتو. وهي مستعدة في هذا الاطار لفعل كل شيء. وقد تعصى سلوكياتها على خيالنا الشرقي المجنح، فقد تهدأ الامور لأسبوع أو شهر أو اكثر إلا ان العنف سيظل بفعل حال المجتمع الاسرائيلي سيد الأحكام في الفترة المقبلة، ايضاً. الصراع الاسرائيلي - الفلسطيني والإسرائيلي - العربي عموماً هو صراع هويتين قوميتين في أساسه وليس "صراع حدود" كما بدت لنا الأمور في السنوات الأخيرة. وعليه، فله سماته وسيرورته الموزعة على مراحل متفاوتة العدد لدى طرفي الصراع. فالمقهور المهزوم يمر وفق نظرية صراع الهويات في أربع مراحل: أولها، فقدان الثقة بالذات والخنوع وضياع البوصلة والتماهي بالآخر، وآخرها الوعي للذات وامكاناتها، وللآخر وسبل التعاطي معه ومع الذات بثقة واعتزاز ونقد، وامتلاك القدرة على تثبيت الرواية التاريخية والفوز باستحقاقاتها. بين هذين الوضعين يتأرجح المقهور بين بدايات اكتشاف ذاته والآخر المرحلة الثانية، وبين نزعته الى مثلنة الذات الجماعية ورغبته في حل مطلق لصراعه مع الآخر المرحلة الثالثة. أما المسألة في الطرف المقابل، أي لدى المنتصر/ القاهر اكثر تعقيداً وإشكالية. فهو يمر وفق النظرية ذاتها في ست مراحل، أولها، التنكر للمقهور ولما اقترفت يداه بحقه ولا أنسنته، وصولاً في السادسة، الى وعي وإدراك تأمين لما حصل واعتراف بحق المقهور وبالاستعداد لمصالحة تاريخية معه بصيغة متفق عليها بالتفاوض والتوجه الايجابي. وبينهما أربع مراحل أبرزها المرحلة الثالثة حيث يحاول المنتصر ان يبرر قهره وعنفه وشرعية غياب العدل والإنصاف. فينصرف الى تثبيت روايته عبر استثمار كامل امكاناته ومقدراته. وقد تطول هذه المرحلة وتصير كأنها الوضع النهائي لتطور القاهر ومواقفه. ونعتقد ان المجتمع الاسرائيلي يتخبط في وحل هذه المرحلة. فبعد ان دفعته مغامرات تصفية القضية الفلسطينية ومن ثم الانتفاضة في أواخر الثمانينات الى التفكير ملياً بما صنعت يداه، انبرى يفكر بجدوى "سيطرته على شعب آخر". أما البدء بمناقشة رواية الطرف الفلسطيني واكتشاف استحقاقاته فقد دفعه من جديد الى التمترس في خندقه أو "حصنه" أو "هويته"، منها يهاجم وفيها يدافع عن ذاته وروايته المزعومة مؤجلاً كل حوار مع الفلسطيني الا الذي يكسبه منفعة ويضيف الى رصيده النقاط. في المرحلة الثانية، وفق هذا النمط التحليلي، انشغل المجتمع الاسرائيلي بسؤال "ما العمل؟" و"كيف نقيم التوازن بين ما ندعيه من اخلاقيات وبين ما نرتكبه بحق الآخر؟". وقد بدأت في السبعينات وتواصلت حتى انطلاق مؤتمر مدريد وتوقيع اتفاق اوسلو وما تلاه. أما المرحلتان الرابعة والخامسة، اذا ما وصل المنتصر القاهر اليهما، فتتسمان بالبحث عن تسوية اخلاقية وعن بداية الاعتراف باستحالة استمرار الوضع على ما هو: غياب العدل بصيغتيه المطلقة والنسبية/ المعقولة. من الطبيعي ان يتغذى الوضع في جانب منه في الجانب المقابل، فكل مراوحة لطرف في مرحلة من مراحل تطور الصراع يستدعي ردود فعل في الطرف المقابل. فبقاء المجتمع الاسرائيلي حيث هو الآن من اعادة انتاج عنفه ومشاريع التصفية لا التسوية سيعيد الطرف الفلسطيني الى خانة الحل المطلق الذي لا يمكن تحقيقه الا بغياب الآخر أو تغييبه. هذا في حين ان الاسرائيلي هو الذي غيب الفلسطيني وشتته في أصقاع الدنيا! ومن شأن هذا ان يديم العنف سنوات اخرى. ولا يمنع حصول هذا السيناريو تدخل دولي. فرغم تحول العالم بأسره ومحاوره كلها الى حاضنة حنونة لاتفاقات اوسلو الا انها تداعت لننتبه في أي موقع ينشط شمعون بيريز احد مهندسيها وعن أي سياسة يدافع!. لأن تخبط المجتمع الاسرائيلي في وحل "المرحلة الثالثة" من صراع الهويات أفضى الى انكفاء نحو "الدفاتر العتيقة" تستحضر منها الوصفات التي جرى تجريبها مرات من قبل لتخفق على صخرة تطور الهوية الفلسطينية وأدائها في المتراس المقابل. إن مذهب "صراع الهويات" قد يفسر هذا الاصطفاف الحاصل في الجانبين الاسرائيلي والفلسطيني. ففي الجانب الاسرائيلي، ضاعت الحدود الواهية اصلاً بين يسار ويمين. عاد اليسار الى "البيت الصهيوني" أو "القومي" المهدد في روايته وكيانه واصطف في موقع اليمين. وغاب الاخلاقيون من أوساط الاكاديميين والمبدعين والكتاب. وغابت المشاريع التسويوية دفعة واحدة كأنها لم تكن أصلاً ليحضر الرجل القوي، ارييل شارون، بمشروعه الواحد والوحيد: العنف والبطش واللجوء الى القوة لحسم الصراع مع الفلسطينيين وعبرهم مع العرب وذلك بدعم غالبية ساحقة من الاسرائيليين - سوى يسار راديكالي محدود القواعد! ف"طبيعي" ان يتراءى لنا الأمر في الجانب الاسرائيلي على انه عود على ذي بدء، على نسق "قصة ابريق الزيت"، الخطاب ذاته والممارسات ذاتها، والأهم السلوك الجماعي ذاته! فكيف نفسر حقيقة ان شارون المدان اسرائيلياً، قبل حوالى العقدين، لضلوعه في مجزرتي صبرا وشاتيلا يحظى ويحظى مشروعه العنفي الآن بدعم المجتمع ذاته الذي يوقع له بأصابعه العشرة على سياساته النكوصية! انها ليست سخرية القدر، ولا مسألة غيبية، بل افرازات المرحلة الثالثة العصيبة من تطور المجتمع الاسرائيلي المنعكسة ناراً وكبريتاً على الصراع الاسرائيلي - العربي عموماً. سيرورة تطور الهوية الفلسطينية محكومة تماماً للأمل والتطلع الى حياة أفضل، الى تحقيق حلم أو بعض منه. وقد وصلت الأمور عند الجانب الفلسطيني الى نقطة اللاعودة عن المراهنة على ذاته بالأساس. ولا يضر تعاطف أو دعم عربي أو دولي. اما تطور الجماعة في الجانب الاسرائيلي فمحكوم للخوف من الآتي على المستويات كافة. وعليه، ليس صدفة ان تحاول اسرائيل جاهدة ايقاف عقارب الساعة كنهج استراتيجي سار عليه حكام اسرائيل منذ انتصارهم في حزيران 1967. فهم مستفيدون من الراهن يتمتعون فيه بالتفوق والسيطرة. وكل تغيير أو مجرد جريان للوقت يفزعهم ويقض مضجعهم حتى من دون ان يشهد هذا الجريان الوقائع والاحداث. وللخوف الاسرائيلي أسبابه الحقيقية الموضوعية، وتلك المفترضة المبنية على تخيل وتوهم. لكن كلها مجتمعة تخلق حالة خوف جماعي حقيقي وان كان مبنياً على فرضيات خاطئة موهومة. وأحد أسباب هذا الخوف بل ومنبع أسباب اخرى هو حقيقة قيام اسرائيل بالقوة والحديد والنار في مكان شعب آخر وليس بالعدل بفعل تطور طبيعي. وفاقد الشرعية في عمق وجوده يظل خائفاً من فلسطين عائد يطرق باب بيته أو آخر يبرز "كوشان" أرضه. ولعل أشد ما أثار الهلع لدى المجتمع الاسرائيلي في السنوات الأخيرة هو طرح مسألة عودة اللاجئين. هنا توحد المجتمع الاسرائيلي على نحو لم يحصل في أي مسألة اخرى ولا حتى في مسألة القدس، ليقول: "كل شيء الا هذا"! حتى زيارات المهجرين في وطنهم الى اطلال قراهم المهدمة يثير ردود فعل حادة في الشارع اليهودي لأن المسألة في مدلولها تقوض الرواية اليهودية الصهيونية من أساسها وتعيد القضية الى "نقطة البيكار"! إن خوف المجتمع اليهودي من اهتزاز ريشة في مساحة الزمن، وهو مصيره المحتم في فلسطين، يجعله في المحصلة "يعيش على حربته"، كما تنص المقولة التوراتية، أو على قنبلة نووية كما في النص الراهن! ويدفعه دفعاً الى المضي نحو مزيد من العنف لتثبيت وجوده غير الشرعي أو تعزيز هذا الوجود أو درء ما يعتبره تهديداً. وقد تحول هذا الخوف الى حال عصاب جماعي سرعان ما ينزلق الى عدوانية جارفة أو حتى الى هستيريا. ومن هنا أرى باستهجان الى الضغط العربي على الفلسطينيين ان يخضعوا، ان يقبلوا، ان يرضوا، وعلى عرفات المهزوم جزئياً ان ينهزم نهائياً! المفارقة في كل هذه المسألة ان العرب، والفلسطينيون منهم بشكل خاص، ضحايا هذه الحالة، هم هم المطالبون بفك عقدة هذا الوضع المشحون. هم، ضحية العنف الاسرائيلي، وهم هم القادرون على إبطال مفعول عوامله! هم المقهورون وهم هم المكلفون بتحرير قاهرهم من عصابه! والأمر في رأينا ممكن مع توافر شرطين. الأول - حزم عربي يقوم على التنسيق والشراكة بين الحد الأقصى من الأطراف العربية وفي رأسها ذوو العلاقة، الفلسطينيون والسوريون واللبنانيون، وذلك في وجه اسرائيل وفي وجه المحاور الدولية لا سيما الادارة الاميركية. والثاني، مشروع تسوية عربي صاغته عقول عربية يطرح على الاسرائيليين قيادة وشعباً أو قفزاً فوق رأس القيادة ملخصه: "قياداتكم تقترح عليكم وعلينا مشروع موت ونحن نقترح على الجميع مشروع حياة". ويكون ذلك مرفقاً بخطوات على الأرض لتأكيد حسن النية لقطع الطريق على قيادات اسرائيلية تعيش على الخوف أو تذكيه لتعيش عليه! فمن المقلق ان يظل العرب فريسة متاهات رد الفعل على "خطوات" أو مبادرات" أو اعتداءات تأتي بها اسرائيل وقياداتها. يحسن العرب فعلاً لو بادروا لطرح أفق الخروج بلغتهم وبإرادتهم. وسيكون خروجاً لنا وخروجاً للآخر. * كاتب فلسطيني، الناصرة.