بصفتي صديق عمر لسورية، وباحث متخصص في شؤونها، أعرب عن حزني وانزعاجي من الحملة على الحريات المدنية التي تشهدها سورية الآن، وبصورة خاصة من الاجراءات القاسية التي لا مبرر لها والتي يتعرض لها عشر شخصيات من المعارضة، ترعاهم منظمة العفو الدولية، وتؤكد أنهم من "سجناء الرأي". وإن اعتقال هؤلاء، ومحاكمتهم، والأحكام بالسجن المؤبد التي صدرت في حق اثنين منهم، والأحكام القاسية التي من المنتظر أن تصدر في حق الآخرين، لن تؤدي في نهاية المطاف إلا إلى اغضاب الرأي العام داخل سورية واحباطه، وإلى تشويه سمعة سورية في الخارج. من المتوقع أن تصدر محكمة أمن الدولة العليا في 26 من الشهر الجاري حكمها ضد رياض الترك، الأمين العام للحزب الشيوعي - المكتب السياسي، البالغ 73 عاماً، والذي قضى في السجن الانفرادي 17 عاماً، من دون أن توجه إليه أي تهمة ومن دون أن يحاكم. إن الجناح الذي يتزعمه في الحزب الشيوعي ليس له وزن كبير في سورية، ولكن معارضة رياض الترك المبدئية المنفردة للممارسات القمعية أثارت انتباه الرأي العام العالمي واعجابه. لم يلجأ إلى العنف، ولم يُحرض على استخدامه، وهذا ينطبق على المعارضين السياسيين الآخرين: انهم لم يتآمروا لقلب نظام الحكم، كل ما في الأمر، أنهم نشطاء من أجل المجتمع المدني، وينادون باحترام الحقوق الإنسانية، وبحق المعارضة في إبداء رأيها. إنهم لا يشكلون خطراً على أمن الدولة، مهما جنح بنا الخيال. إن جريمتهم الوحيدة هي اصرارهم على ممارسة حقوقهم، كما نصت عليها المواد 25 و38 و39 من الدستور السوري، والمطالبة بمشاركتهم في الحياة السياسية، وبحقهم في التعبير عن رأيهم بحرية في النقاش السلمي والحيوي الذي يدور في سورية حالياً. ومن المؤكد أن سورية قوية ومنيعة بدرجة كافية، مما يجعلها قادرة على تحمل مثل هذه الآراء المعارضة. وفي قناعتي، ان الرئيس بشار الأسد، الذي يعمل من أجل ارساء دولة حديثة معاصرة، يعلم أن النقاش الحر ليس ترفاً، انه ضرورة من الضرورات التي لا غنى عنها. لقد تحدث، في كلمته التي ألقاها في مجلس الشعب، في شهر حزيران يونيو عام 2000، عن الحاجة إلى النقد البناء، وعن اطلاق سورية على طريق الاصلاح، وكان المحرض الأول على بدء مرحلة الانفتاح والتحرر التي شهدتها سورية، منذ ما يقارب السنة، والتي اطلق عليها، في مناخ من التفاؤل والحماسة، اسم "ربيع دمشق"، إذ ازدهر الحوار السياسي، وظهرت نوادي المجتمع المدني. ولكن يبدو اليوم أن المعارضين "يعاقبون" لأنهم استجابوا دعوة التحرر والانفتاح، وتحركوا على هدى أقوال الرئيس. لقد صفق العالم حين اطلق مئات السجناء السياسيين من الذين قضوا فترات طويلة في السجون، بعد صدور قرارين رئاسيين بالعفو، أحدهما في تشرين الثاني نوفمبر 2000 والآخر في كانون الأول ديسمبر 2001. وعلى الرئيس بشار، اليوم، أن يستخدم صلاحياته الدستورية لاطلاق معتقلي الرأي العشرة الجدد، فهناك - كما يعرف الجميع - معارضون آخرون أكثر سوءاً وخطراً، لم تتعرض لهم أجهزة الأمن ولم يحالوا على المحاكم. سورية بحاجة إلى أصدقاء أجانب من مصلحة سورية أن يتحسن سجلها في ملف حقوق الإنسان، ليس فقط لأسباب أخلاقية معنوية، وإنما لأسباب ذرائعية أيضاً. إن سورية بحاجة ماسة إلى أصدقاء من الخارج، لأنها موجودة في منطقة اقليمية في غاية الخطورة. إن العنف الذي يتصاعد في إسرائيل والأراضي المحتلة بدأ يخرج من حدود السيطرة، مع ما يحمله من نتائج كارثية تصيب المنطقة بكاملها. ويبدو أن إدارة الرئيس جورج بوش المنقسمة على نفسها في واشنطن، تفتقر إلى الوضوح في الرؤية، وإلى الإرادة السياسية الحازمة مما يجعلها عاجزة عن تسوية الصراع العربي - الإسرائيلي على أسس العدالة والانصاف. وتمارس الولاياتالمتحدة، في الوقت ذاته، ضغوطاً قاسية على سورية لطرد المنظمات الفلسطينية التي اتخذت من دمشق مقراً لها، ولاتخاذ قرار بنزع سلاح "حزب الله" الذي تحدث عنه الرئيس بوش. ثم أن حرب الولاياتالمتحدة الشاملة على الإرهاب، بعد هجوم الحادي عشر من أيلول سبتمبر، تهدد بشكل جدي سيادة العديد من الدول العربية، العراق أولاً. وقد يأتي دور سورية بعدها مباشرة. وفي مثل هذه المناخات الساخنة المتوترة التآمرية تتخذ "صورة" البلد المستهدف أبعاداً خاصة، والدولة التي "لها صورة سيئة" لسبب من الأسباب، تُصبح أكثر تعرضاً لعدوان غاشم مستهتر، وإذا ما هو صمت، فقد لا يتحرك أحد لنجدتها أو مد يد العون لها. وقد يكون من واجبنا أن نعلم زعماء سورية أنهم قد فشلوا في ايصال رسالتهم إلى الرأي العام الدولي. كما فشلوا في اعطاء صورة حسنة عن بلادهم إلى الغرب، بالإضافة إلى القيود التي فرضتها سورية على الصحافة العالمية، و"الشح" في تصدير المعلومات الحقيقية عن الوضع في سورية، باستثناء التقارير التي تنشر من الخارج عن التعسف في موضوع حقوق الإنسان، وأخبار الكوارث التي تحدث فيها، كأخبار تهدم سد زيزون، وما رافقه من فواجع إنسانية. إن الاعتقال التعسفي لنشطاء الحقوق المدنية، وسحق المعارضين المسالمين، ومحاولات تطويع الرأي العام بالقوة، والاجراءات القمعية الأخرى، هذه كلها تعطي صورة سلبية وخاطئة عن سورية إلى العالم الخارجي، كما تسيء إلى الديبلوماسية السورية. وفي محكمة الرأي العام العالمي لا يوجد حالياً مَن يدافع عن إسرائيل، وعن سجلها في موضوع حقوق الإنسان. وعلى رغم الجهود الجبارة التي تبذلها هذه الدولة لتحسين صورتها في الخارج، فإنها تخسر الكثير، بسبب انتهاكها المستمر لحقوق الإنسان، وبربريتها في معاملة الفلسطينيين. إن منظمة العفو الدولية، وهي المنظمة المدافعة عن حقوق الإنسان في العالم، والتي يعمل بها أكثر من مليون عضو من 140 دولة، قد انتخبت امرأة مسلمة، رئيسة لها، للمرة الأولى في التاريخ، انها السيدة ايرين خان، المولودة في دكا، والبالغة من العمر 45 سنة، وقد درست الحقوق في بريطانياوالولاياتالمتحدة، وقضت أكثر من 20 سنة من حياتها وهي تعمل في مفوضية الأممالمتحدة لشؤون اللاجئين. وتسعى هذه السيدة الآن، مع السيدة ماري روبنسون، رئيسة مفوضية الأممالمتحدة لحقوق الإنسان، ونساء أخريات، إلى إبراز موضوع حقوق الإنسان وجعله في صدارة الحوارات الدولية، والتركيز على سلوكية الدول في عالم مضطرب تتجاذبه الصراعات والانقسامات. وقد يكون من المناسب أن يبادر الرئيس بشار الأسد إلى دعوة السيدة خان لزيارة سورية، وإقامة علاقات عمل مع منظمتها المهمة وذات التأثير البالغ في العالم. لقد سمحت السلطات السورية عام 1990 لمنظمة العفو الدولية بارسال أربعة وفود لتقصي الحقائق إلى سورية: في كانون الأول ديسمبر من عام 1992 وأيار مايو 1993 وتشرين الأول اكتوبر عام 1993 وآذار مارس 1997، ولكن السلطات السورية، منذ ذلك الوقت، على رغم المحاولات المتكررة، لم تعد تسمح لوفود منظمة العفو الدولية بزيارتها. وحاول مندوب المنظمة أن يحضر محاكمة رياض الترك كمراقب، ولكنه منع من الحضور، ولم يسمح له بالمجيء إلى سورية. ضحايا "ربيع دمشق" نقترب اليوم من الذكرى الأولى للبدء بحملة الاعتقالات التي وضعت حداً لما يسمى ب"ربيع دمشق"، أي من شهري آب اغسطس وأيلول سبتمبر 2001، فقد اعتقل مأمون حمصي 45 عاماً، وهو عضو مستقل في مجلس الشعب، في 9 آب، واعتقل رياض الترك في 7 أيلول، واعتقل رياض سيف 54 عاماً، وهو عضو آخر في مجلس الشعب والمسؤول الأول عن جماعة تدافع عن الديموقراطية وتسمى "منتدى الحوار الوطني"، في 6 أيلول. واستتبع هذه الاعتقالات، القيام بحملة اعتقالات أخرى بين 9 و12 أيلول شملت الاستاذ عارف دليلة 59 عاماً، وهو استاذ علم الاقتصاد في جامعة دمشق، وطبيبين هما وليد النبي 38 عاماً وكمال اللبواني 44 عاماً، ورجل أعمال من طرطوس هو حبيب صالح 52 عاماً وحسان سعدون، استاذ متقاعد من القامشلي، وحبيب عيسى الخام 66 عاماً وفواز تللو، مهندس. لم يرتكب أي واحد من هؤلاء العشرة أي عمل اجرامي، وتم احتجازهم جميعاً في سجن عدرا بالقرب من دمشق. على أن اثنين منهم، مأمون حمصي ورياض سيف، دعيا إلى الإصلاح السياسي والاقتصادي وشجبا الفساد والسلطات غير المحدودة الممنوحة لأجهزة الأمن والمخابرات، وقد احيلا إلى محكمة الجنايات وحكم عليهما بالسجن خمس سنوات في آذار مارس ونيسان ابريل من عام 2002. واحيل الثمانية الآخرون إلى محكمة أمن الدولة العليا، وهي محكمة انشئت عام 1968 للنظر في قضايا أمن الدولة، والقضايا السياسية العاجلة، تحت غطاء قانون الطوارئ لعام 1963، الذي ما زال ساري المفعول حتى اليوم على رغم مرور 40 عاماً على صدوره. وما زالت محاكمة هؤلاء الثمانية مستمرة، بعدما وجهت إليهم اتهامات عدة مثل: محاولة تغيير الدستور بالقوة وبالطرق غير المشروعة أو التحريض على العنصرية والطائفية أو نشر المعلومات الكاذبة. لقد اعتمد المدعي العام على أقوال مجتزئة ومقتطعة عن سياقها أدلى بها المتهمون أثناء المناقشات واللقاءات في نوادي المجتمع المدني، أو محاضرات التيت، أو مقالات نشرت في الصحف، وقد يعاتب المتهمون - حسب مرافعة الرأي العام - بالسجن حتى 15 عاماً، ووجهت إلى ثلاثة من المتهمين في الأسبوع الماضي تهمة جديدة هي "المس برئيس الدولة والنظام القائم"، ويؤكد محامو الدفاع أن التهمة الجديدة تعتمد على تسجيلات سرية وغير قانونية لأحاديث ومناقشات جرت بين المتهمين داخل زنزاناتهم. قلائل هم الذين يعتبرون محكمة أمن الدولة العليا مؤسسة مستقلة أو حيادية، لأنها تمارس نشاطها خارج نظام القضاء الجنائي العادي، وهي مسؤولة حصراً أمام وزير الداخلية اللواء علي محمود، ويرأسها منذ عشرين عاماً فايز النوري، وهو عضو في اللجنة المركزية لحزب البعث العربي الاشتراكي - وهذه مخالفة صريحة للقانون السوري الذي يمنع الجمع بين عضوية الهيئة القضائية والانتساب إلى تنظيم أو حزب سياسي - ومعروف أن أحكام هذه المحكمة قطعية، ولا يحق لمحامي الدفاع الاستئناف. ويُقال ان المعاملة التي يخضع لها المعارضون المعتقلون لا تخضع للمعايير الدولية المقبولة، فقد وضعوا، في الأيام والأسابيع الأولى من اعتقالهم، في زنزانات انفرادية، وحظر عليهم الاتصال بالعالم الخارجي، كما حرموا، أحياناً كثيرة، من العناية الصحية الضرورية. ومعروف ان السيدين مأمون حمصي ورياض الترك يشكوان من مرض السكري، كما يشكو الترك من مصاعب في القلب استدعت اخضاعه للعمل الجراحي عام 1999، ويشكو، فوق هذا، من اصابات في الأذن والرقبة والظهر، هي من أثار التعذيب الذي تعرض له في سنوات سجنه الأولى. ويشكو عارف دليلة من خثرة دموية خطيرة في اوعيته وشرايينه، لم يسمح له بأن يعالجها. وأفاد طاقمه الدفاعي انه قد وضع في زنزانة انفرادية في الأشهر الثلاثة الأولى من اعتقاله، وأنه قضى الشتاء بكامله، ونافذة زنزانته مفتوحة من دون تدفئة. وبعد أربعة شهور من اعتقاله نقل الى المستشفى لمعالجة قلبه ففرض عليه ان يبقى مقيداً في فراشه قرابة خمسة أيام، وفي مكان وصفه محاموه بأنه "حظيرة لا تليق الا بالحيوانات"، ولأنه لم يستطع أن يتحمل هذا الوضع كثيراً طالبه بأن يعاد الى زنزانته. وتؤكد مصادر موثوقة بأن السجناء محرومون من قراءة الصحف أو الكتب، ومن الاستماع الى محطات الاذاعة، ويسمح لهم بالزيارات العائلية مرة كل اسبوعين، ولمدة نصف ساعة فقط، وقد تمنع هذه الزيارات، بعض الأحيان، لأسباب مجهولة. حينما افتتحت محاكمة رياض الترك في 28 نيسان ابريل، سمح لرجال الصحافة بدخول صالة المحكمة، ولكن بعد الاستماع الى افادات دليلة وصالح وعيسى والبني، منع الصحافيون والديبلوماسيون وعائلات السجناء واصدقاؤهم من حضور جلسات المحاكمة باستثناء مندوب وكالة "سان" وهي الوكالة السورية الرسمية للأنباء. انني أروي هذه التفاصيل، وقلبي مثقل بالحزن، ومحبتي لسورية عميقة لا تحتاج الى اثبات. سورية معروفة بتزعمها الدفاع عن حقوق الانسان، وبرفضها الاستسلام للضغوط الخارجية هذا هو السير الذي دفعني الى دراسة تاريخها المعاصر، والى كتابة السيرة السياسية لرئيسها المرحوم حافظ الأسد. ولكن لا يجوز لأية دولة، مهما كانت كبيرة أو صغيرة، ان تغلق حدودها، وان تتجاهل أحكام الرأي العام العالمي. وفي قناعتي انه من مصلحة سورية العليا أن يأخذ مسؤولوها توصيات منظمة العفو الدولية بعين الجد والعناية. وهذه التوصيات تطالب باطلاق سراح كل سجناء الرأي، وبمعاملة المعتقلين معاملة حسنة ولائقة تتفق مع المقاييس الدولية، وبالسماح لهم بمقابلة افراد أسرهم ومحاميهم وأطبائهم، بشكل منتظم، وفوق كل شيء آخر يتوجب على المسؤولين احترام حقوقهم المشروعة في حرية التعبير والاجتماع والحوار من دون تعقيدات ولا قيود. وأملي أن يطبق الرئيس بشار الأسد الاصلاحات التي يدعو لها، وأن يجنب بلاده الادانة الدولية، وأن يحميها من مؤامرات اعدائها واختلاقاتهم الكاذبة. وأهم من هذا كله ان لا يولو خيبة أمل لدى شعبه. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط.