مشهد يستحق الذكر. الزعيمان القبرصيان التركي رؤوف دنكطاش واليوناني غلافكوس كليريديس مجتمعان في حضور الأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان ومبعوثه الفارو دي سوتو في منزل المفوض الاممي في الجزيرة البولندي زبيغنيو ويلوسوفيتش. يتقدم انان باقتراح يأمل أن يحصل من خلاله على نتيجة ملموسة لزيارته التاريخية للجزيرة، مفاده أن يوقع الطرفان القبرصيان بياناً عن استعدادهما للتوصل الى اتفاق حل قبل نهاية حزيران يونيو. يرفض دنكطاش قائلا إن ذلك لا يناسبه، فيطرح انان موعداً آخر هو نهاية السنة الجارية. لكن كليريديس يرفض هذه المرة، فيتدخل دي سوتو مخاطباً انان: سيدي أعلنا سابقاً أن المفاوضات يجب أن تسفر عن حل قبل نهاية حزيران والكل في الخارج ينتظر شيئاً في هذا السياق. عندها تهوي قبضة دنكطاش على الطاولة مدوية ومعلنة رفضه تدخل دي سوتو وانتهاء اللقاء. هذا المشهد الذي شهدته الجزيرة القبرصية أثناء زيارة أنان في منتصف أيار مايو الماضي، هو احد المواقف التي تظهر مدى تقارب وجهتي نظر الأممالمتحدة والطرف القبرصي اليوناني، وحساسية دنكطاش من هذه المواءمة التي تصل احياناً حد التوأمة بين الطرفين. الا ان من الصعب القول ان الزعيم القبرصي التركي كان مستاء من زيارة الأمين العام وما جرى بينهما من مفاوضات، بل على العكس من ذلك يمكن القول ان دنكطاش حقق للمرة الاولى تقدما يحسب في صالحه بفضل دعم انان وهو ما لم يكن يتوقعه احد. وكانت زيارة انان لقبرص تاريخية بكل ما في ذلك من معنى بالنسبة الى الجانب التركي، اذ انها قلبت بعض المفاهيم السائدة التي رافقت 27 عاماً من المفاوضات، فهي المرة الاولى التي يجتاز فيها أمين عام للامم المتحدة الخط الاخضر الى الشمال ويزور دنكطاش في قصره الجمهوري، وهو في حد ذاته انجاز يحسب للجانب التركي على صعيد مساعيه للحصول على اعتراف دولي لسيادته على جزء من الجزيرة، وذلك على رغم تقليل الجانب اليوناني من أهمية هذه المسألة. كما تجب الاشارة هنا الى عدم اعتراض الجانب اليوناني على هذه الزيارة رسمياً، وهو تطور آخر مهم وان جاء من باب عدم الظهور في صورة الطرف المتعنت أو الذي يريد قطع الطريق على المفاوضات، خصوصاً أن كليريديس كان قبل دعوة دنكطاش على العشاء في منزله للمرة الاولى بداية السنة الجارية. الا أن اهم ما حققه دنكطاش في هذه الجولة هو نجاحه في تأجيل تاريخ الوصول الى حل نهائي للقضية القبرصية من حزيران الى نهاية السنة من خلال وضع اطار جديد للمحادثات، يرتكز على التوصل الى حلول وسط لقضايا تقاسم الاراضي وعودة المهجرين والتملك، وتأجيل القضايا الاصعب والاهم وهما السيادة وآلية ضمان الاتفاق الى نهاية السنة، اضافة الى نجاحه في تعديل مسمى "قضية التعديلات الدستورية" الى "قضية شكل الحكم في الجزيرة" وهو ما يعد انجازاً كبيراً للجانب التركي. اذ ان الصيغة القديمة كانت تدعم ما يطرحه الجانب اليوناني من أن جمهورية قبرص موجودة فعلاً، وأن الحل يكمن في اجراء تعديلات دستورية تحفظ للاتراك حقوقهم كطائفة، فيما تتخطى الصيغة الجديدة ذلك الى الاشارة الى احتمال تغيير صيغة الحكم في الجزيرة واجراء تعديلات جذرية عليه قد تخرجه من صيغة الجمهورية الى صيغة فيديرالية أو ما شابه. وبالاشارة الى استباق كليريديس زيارة انان باعلانه ان حل القضية القبرصية يكمن في اجراء عدد من التعديلات الدستورية وضم شمال الجزيرة بما فيها من اتراك الى الجمهورية القبرصية التي يترأسها، يمكن استيعاب التقدم الذي حققه دنكطاش. هذه النتائج جاءت بعد جهد ديبلوماسي مكثف قامت به أنقره لدى حليفتها واشنطن قبيل زيارة انان، اذ ان التقرير الخاص بقبرص الصادر عن الاممالمتحدة قبل اسبوع من الزيارة دعا الجانبين، وبخاصة التركي، الى بذل المزيد من الجهد وابداء مرونة أكبر في المفاوضات، ما شكل مؤشراً حذر الاتراك من أن الزيارة قد تتلخص في القاء اللوم مجدداً على دنكطاش وممارسة ضغوط قوية عليه. الا أن الديبلوماسية التركية عرفت كيف تستغل رصيدها الجيد لدى واشنطن والذي أخذ في الازدياد بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر. الا أن ذلك كله لا يعني أن الجانب التركي لن يضطر في المقابل الى تقديم تنازلات مؤلمة في ما يتعلق بالقضايا الثلاث التي ستبحث حتى نهاية حزيران وهي تقسيم الاراضي وعودة اللاجئين والملكية. من جانبه يرى الطرف التركي أنه قدم الكثير من التنازلات "ويكفي أننا لا نزال على طاولة المفاوضات حتى الآن على رغم اننا اشترطنا سابقاً الاعتراف بجمهوريتنا في الشمال وعلى رغم اننا كنا مصرين على حل فيديرالي، ونطرح الآن كل شيء للتفاوض مع اننا الطرف الذي كسب الحرب على الارض عسكرياً. فماذا قدم الطرف اليوناني في المقابل؟". هكذا يتساءل ممتاز صويصال مستشار دنكطاش والنائب في البرلمان التركي، والمعروف كأحد صقور القضية القبرصية في تركيا. ويعزو صويصال رفض الاتراك تحديد موعد التوصل الى حل للقضية القبرصية بنهاية حزيران بأن الجانب اليوناني والاتحاد الاوروبي يسعيان الى ضم قبرص سريعاً الى الاتحاد واعلان تاريخ انضمامها رسميا هذه السنة، وهو ما يشكل عنصر ضغط على الجانب التركي الذي يطالب بالحصول على قدر مساو من السيادة على جزء من الجزيرة بغض النظر عن كون الاتراك اقلية عددية في الجزيرة. ويبدو من المفاوضات الاخيرة أن الجانب التركي مستعد للتفاوض على كل الملفات المطروحة ما عدا موضوع السيادة، فهو يرى ذلك حقاً مشروعاً لا فصال فيه، والتنازل عنه يخل بالتوازن الاستراتيجي للجزيرة. اذ أن الطرح التركي يقوم على القول ان الجمهورية القبرصية قامت على اساس المساواة سياسياً بين الاتراك واليونانيين، إذ كان للاتراك حق تعيين نائب الرئيس واستخدام الفيتو، وأن اليونانيين حرموهم من حقوقهم هذه بعد ثلاث سنوات فقط من اعلان الجمهوية في محاولة لالحاق الجزيرة باليونان، ولذلك فان الموقف التركي يطالب بعودة هذه المساواة من خلال اقامة دولة شراكة بين الطرفين تقوم على المساواة، تكون فيها لكل طائفة اراضيها وقوانينها الخاصة، فيما يتنازل كلا الطرفين عن سيادتهما لمجلس موحد يمثل دولة قبرص خارجياً يكون محدود الصلاحيات، يتقاسم الاتراك واليونانيون فيه المسؤولية والحقوق، ويطرحون لذلك مثالاً النظام الموجود في سويسرا أو بلجيكا أو حتى الاتفاق الذي وقع أخيراً بين صربيا والجبل الاسود. فيما يرفض الجانب اليوناني طرح مسألة السيادة للتفاوض، على أساس أن الاتراك هم من قام بالعصيان والتمرد على الجمهورية القبرصية التي عدلت دستورها عام 1963، ولا تزال قائمة حتى الآن وهم يمثلونها دولياً، وأن الامر يجب أن يحصر في ترك الجيش التركي للجزيرة وضم الشطر الشمالي الى الجمهورية بسكانه الاتراك مع اجراء تعديلات في الدستور تضمن حقوقهم كطائفة، من دون القول ان الاتراك سيكونون اقلية في الجزيرة، اذ يترك كليريديس الامر الى طبيعة الديموقراطية التي تستند في حكمها على الأكثرية العددية. واستناداً الى ما تقدم، على الجانبين أن يصلا الى حل وسط بين هذين الطرحين قبل نهاية السنة. الا أن ملف السيادة لا يعتمد فقط على موقف الطرفين وانما للاتحاد الاوروبي دوره ايضاً، اذ أن الجانب التركي قد يبدي مرونة في موقفه من هذه المسألة في حال لحاق تركياوقبرص بعضوية الاتحاد، اذ حينها يتنازل الجميع عن سيادته لرئاسة الاتحاد الاوروبي، ولذلك تسعى تركيا بكل طاقاتها الى تأجيل الفصل في قضية قبرص الى حين تحديد موقفها بوضوح مع الاتحاد الاوروبي والحصول على ضمانات أكيدة بقبول عضويتها خلال فترة محددة. وتأمل أنقره بالحصول على هذا الموعد خلال قمة كوبنهاغن نهاية السنة الجارية، من خلال تحديد موعد بدء المفاوضات المباشرة والنهائية على عضوية تركيا. فيما يشترط الاتحاد الاوروبي حل القضية القبرصية أولاً اضافة الى بعض "الواجبات السياسية" مثل حل القضية الكردية والغاء عقوبة الاعدام قبل الدخول مع تركيا في صفقة جديدة. الا أن مسألتي قبرص والعضوية في الاتحاد القبرصي بدأتا تأخذان بعداً جديداً مع تدهور صحة رئيس الوزراء التركي بولنت أجاويد وانتشار الدعوة الى اجراء انتخابات مبكرة واستحواذ القوميين على الحكم في غيابه. اذ أن اللجوء الى انتخابات مبكرة هذا الخريف في تركيا، وهو احد الاحتمالات المطروحة، سيطرح القضية القبرصية جانباً ويهمشها بالنسبة الى الأجندة السياسية التركية. بل ان مقاطعة الاتحاد الاوروبي ووقف المفاوضات القبرصية قد يتحولان شعاراً انتخابياً للقوميين في هذه الانتخابات، وعندها ستذهب آخر الفرص المتاحة لحل القضية القبرصية والى الابد. ولذلك تولي الاوساط السياسية التركية أهمية بالغة لمتابعة أجاويد قيادته للحكومة على رغم مرضه لما يعرف عنه من ميله الى تحقيق حلم تركيا بضمها الى الاتحاد الاوروبي، وكأن التاريخ الذي يحمل أجاويد مسؤولية تدخل الجيش التركي في قبرص، يطالبه الآن بحل هذه القضية مهما كانت الظروف قبل أن يودع الحياة السياسية.