الفارق شاسع بين الأماكن التي سبق لها معاينتها وبين تلك التي نتخيلها في صور لها مستمدة من حكايات أو قصائد وربما مشاهد مصورة. حدث لي ان قرأت قصيدة للشاعر الكردي بيكه سي عن امرأة كردية قتلها أقاربها واستعادوا "شرفهم"، ورموا بجثتها في بحيرة دوكان القريبة من مدينة السليمانية في شمال العراق. القصيدة تبدأ بالجملة التالية "بالأمس ليلاً سقط القمر في بحيرة دوكان، دون ان ينتبه لرجة الماء أحد". بالنسبة إلي لم تكن قصيدة عادية، وليس مرد ذلك لأسباب شعرية، ثم انني طالما سمعت عن جرائم الشرف التي يرتكبها اكراد وغير أكراد، ولكنها وكما هي حال الجريمة الأخيرة، كانت تحصل في بلاد بعيدة، ولا يبقى من أثرها في داخلي سوى ذلك الأثر العابر الذي يصيبنا عندما تتناهى إلينا حكايات فظاىع بعيدة. إذاً لم يكن الشعر نفسه ولا مادته ما أثارا فيَّ، ما أثارته القصيدة. في الليل راحت ضفاف بحيرة دوكان العارية، ومياهها الثقيلة تبعث فيّ قشعريرة خفيفة. صار الحدث الشعري حدثي الخاص، ورحت أتخيل مآل الشابة الكردية. الأرجح انني سبق ان زرت البحرية، وتعرفت على أهلها البحيرة في مكانٍ ناء... وأهلها هناك في السليمانية يحيطون بالسيد جلال الطالباني. البحيرة اصطناعية، وهي جزء من مشروع متعثر لتوليد الطاقة الكهربائية، وعلى إحدى التلال المطلة على البحيرة، ثمة منزل صيفي للسيد طالباني، سبق ان تناولنا الطعام فيه، عندما نزلنا ضيوفاً عليه نحن وعراقيون غامضون وعنيفون. البحيرة ليست مكاناً للشعر، فهي اصطناعية الى حد كبير، وعارية، وتلفها طرق ترابية وأقنية غير منجزة، والقول بأن الهدف من افتعالها، توليد الطاقة الكهربائية يضاعف من وظيفتها غير الشعرية. وربما ما أثار فيّ هذا الشعر في تلك الليلة التي قرأت فيها القصيدة، هي وجوه الأكراد التي تلاشت في ذاكرتي بعد كل الوقت الذي مر على زيارتي لبلادهم. رحت أستعيد اشكالاً غير حقيقية للعشائر الكردية، ولأدائها الرائع والصامت في الليل. كيف يقتل هؤلاء بناتهم... راح الشيطان ينوب عني في إرسال الصور والأفعال. فأنا معجب جداً بصمت الأكراد. الأرجح ان القاتل لم يغضب لفعلة شقيقته او ابنته، ظهر لي وهو يقتلها اثناء نومها لكي لا تشعر بالألم، ولكي لا يزعج سكان المنزل المجاور. فعل ذلك تماماً كما يفعل الأكراد عندما يقضون حوائجهم بصمت وحياد. لكن القصيدة تقول ان من قتل المرأة، هم رجال العشيرة، وليس رجل بعينه! يمكن لمجموعة أكراد ان يقوموا بذلك من دون ان يتبادلوا كلمة واحدة. الهواء بارد قليلاً والليل حالك، والقرية بعيدة من بحيرة دوكان. هذا ما حصل كما تخيلته، وتخيلت ايضاً انهم نقلوا الجثة بسيارة "بيك آب"، وأن الرجال كانوا حزينين ولكنهم لم يبكوا وأن العار الذي غسلوه لم يكن عارهم. سقطت المرأة في بحيرة دوكان، ولسبب ما لم يكن الجدار الذي أُسقطت من فوقه مرتفعاً. لا وجه للمرأة ليغرق، فهي حين قتلها اهلها كانت بلا وجه. غرق جسم دافئ في ماء البحيرة البارد. الحدث كان منعشاً بالنسبة إلي في أوقات استعادتي لحظة سقوط الجسم في الماء، كان جسمي يتقمص جسم المرأة، وكان ماء البحيرة المتجمع من قناة نهر الزاب يغمرني حتى أذني. الماء البارد، والأكراد الصامتون، والمرأة القتيلة، كل هذا لم يبعث فيّ سوى دفء غريب. احساس بأن الحكاية ليست حقيقية، وأننا هنا بصدد صورٍ عن جريمة شرف، ولسنا بصدد جريمة شرف حقيقية. لاحت لي الحادثة بصورتها لا بمعناها، حدثاً شعرياً خالصاً. موت الكردية الذي لا ينتبه إليه احد، مرادف معنى ما لصمت الأكراد ولعيشهم في الجبال. إنه مادة روحهم الوحيدة التي لا يمكن هجاؤها حتى لو خرجت على شكل امرأة قتيلة. وبحيرة دوكان كما مدينة السليمانية والكثير من قرى التجميع التي بناها الجيش العراقي وأسكن فيها اهل الجبال قصراً، لا تشبه الأكراد. العشيرة التي قتلت المرأة سبق ان وطنها الجيش بعد ان سد نبع الماء الذي يجاور جبلها بكتلة اسمنت بنية. فكيف للأكراد ان يعيشوا في المدن، وأي مدن، السليمانية، مدينة النص والشوارع المسماة بأسماء رؤساء دول بعيدة ومباني الأنماط المتشابهة والسوق اللزج الذي يغور تحت المدينة خجِلاً. أشعر الآن بفعلة المرأة الرائعة. خيانة للعشيرة، يعقبها موت شاعري، لتنتهي الحكاية دوائر متعاقبة وخفرة على سطح ماء بحيرة دوكان التي اعرفها، والتي زرتها بدعوة من جلال طالباني، وأكلنا في حينه "كباب عراقي" قام السيد جلال نفسه بالإشراف على شوائه، وألقى شاعر مصري قصيدة مديح بالمناسبة. واليوم وبعد انقضاء نحو سنتين على الواقعة قام اكراد من السليمانية بقتل ابنتهم ورموا جثتها في البحيرة نفسها.