يقول الكاتب الكردي عارف قرباني «تعال واشترك في دبكتنا... لتفهم كيف نفكر!»... والدبكة الكردية في جوهرها نسخة عن مئات الرقصات الشرقية التي تكرس روح الجماعة، لكنها تتميز في جبال اقليم كردستان العراق، بأنها ليست مجرد فولكلور اجتماعي موسمي يحفظ الذاكرة الجمعية، بل انها في صميمها تعبر عن بطاقة هوية لها صلة وثيقة بفهم طريقة تفكير هذا الشعب ونمط حياته وحتى قراءة أسلوب عمل سياسييه. مناسبة الحديث مرور الذكرى ال 22 لأحداث الأنفال ذات البعد المأسوي والأسى الذي نما في صميم وعي أكراد العراق الحديث وعلاقتهم بسطوة وربما قسوة بغداد، حيث هنالك حاجة مستمرة الى تفهم ما جرى وما يجري. في حديث مع سياسي كردي رفيع بعد أيام من إعلان نتائج الانتخابات وما ارتبط بقراءات حول تفكك الجبهة السياسية الكردية التي كانت تضم حزبي جلال طالباني ومسعود بارزاني وتوسعت لتشمل أحزاباً جديدة منافسة، تحدث بثقة عن «توحد الأكراد في بغداد على رغم خلافاتهم الداخلية». تلك الإجابة كانت وكأنها غير مرتبطة بمنطق السياسة أو التاريخ، فالتنافس الشديد داخل الإقليم سواء بين الحزبين الرئيسين أو مع الأحزاب الأخرى ومع بروز تحدي تيار «التغيير» بقيادة نيوشروان مصطفى، فرض واقعاً جديداً لا يمكن إهماله. وجهة النظر التي يتيحها السياسي لتفسير هذه الظاهرة هي الإحالة الى التاريخ ومأساة حلبجة والأنفال والبحث عن الهوية، فيما يحيلها المثقف الى الدبكة نفسها حيث تستتر اللغة خلف تفاعل الجسد ومخاوفه. ضبط ايقاع السياسة في الدبكة الكردية يجتمع عدد كبير من الرجال والنساء والشباب والكهول وحتى الأطفال على شكل شبه دائرة متحركة يؤدي أفرادها حركات محددة على إيقاع عاطفي في الغالب يروي على غرار أغنية ناصر رزازي «برزي» غزلاً بسيدة طويلة ترقص فيزهر الجبل بمفاتنها. كل صباح جمعة تأخذ عائلة آوات محمد معداتها وتجتمع بعدد من عائلات أقاربها لتنصب مخيماً على تلة خضراء بالقرب من بحيرة دوكان الى الشمال من مدينة السليمانية، والأصل ان المدن الكردية تصبح في أيام العطل شبه فارغة لحرص الجميع على التوجه الى الجبل وقضاء اليوم هناك. ما ان تضع الرحلة أوزارها حتى تبدأ طقوس الدبكة ولا تتوقف طوال ساعات الا لتناول طعام الغداء وهو في الغالب «كباب» يتولى الرجال وليس النساء شواءه. اشتراك عربي قادم من بغداد في هذا الطقس ليس يسيراً، فعلى العربي قبل ان يدخل دائرة الرقص الكردية ان يكون مهيئاً للفهم، فهنا مجتمع محافظ في النهاية يتعامل مع الاختلاط بين الجنسين بالعقلية نفسها التي تتعامل فيها المجتمعات الشرقية الأكثر محافظة، الا ان حلقة الرقص شيء آخر، فهي خارج حسابات المحافظة والانفتاح الاجتماعي، وقبول الغريب داخلها يتطلب جهداً يقع على عاتقه خصوصاً لجهة اتقان الحركات والتناغم مع الايقاعات وقبل ذلك إبداء حسن النية. لا يتحدث آوات او أي من أفراد عائلته عن السياسة خلال حفلة الشواء والدبكات، بل هو شخصياً لا يفضل الحديث في السياسة في اي وقت، لكن حين تستفزه بسؤال عن مستقبل إقليم كردستان في ظل التناحر الحزبي يحدثك عن مسلمتين الأولى ان «الأحزاب فاسدة وهي بحاجة الى اصلاح»، والثانية ان «فساد الأحزاب شيء وتوحدها لحماية تجربة الإقليم من «بغداد» شيء آخر». آوات الرجل البسيط الذي لم يكمل الدراسة الإعدادية يتحدث بنفس منطق رجل السياسة الكردي اللامع الذي حصل على شهادته الأكاديمية من جامعة أوروبية. يقول البعض ان الخوف من بغداد مرتبط بالأحداث الجسام التي عاشها السكان عبر قائمة قمعية طويلة لا تبدأ بأعمال التهجير التي مارسها النظام السابق ضد القرى الكردية ولا تنتهي عند استخدام السلاح الكيماوي ضد أهالي حلبجة ومن ثم مأساة الأنفال. لكن القلق الكردي الذي يعبر عن نفسه في مناسبات مختلفة يعود الى ابعد من حقبة نظام صدام ويرتبط بحلقات تاريخية ومظالم كرست هذا القلق ليتحول بدوره الى مدخل الى الهوية هو الآخر. في الحياة تصبح الدبكة مناسبة لتجاوز الضغائن وإمساك يد الخصوم، وفي السياسة يصبح توحد الأهداف في بغداد مناسبة لترك الخلافات تأخذ مداها في اربيل والسليمانية ودهوك. وفي الحياة تكون الدبكة واجباً وليست اختياراً، فالكردي لا يصبح كردياً من دون حضورها، وفي السياسة تقدم الأحزاب المتناحرة تنازلات أمام بعضها بعضاً وتعلن مرشحاً وحيداً لرئاسة الجمهورية وقائمة مطالب موحدة. البحث عن الدبكة يروي الكاتب خالد سليمان المتحدر من بلدة «كلار» رواية ريفية قديمة تتحدث عن رجل ريفي صادفه عربي باكياً وهو يستمع الى أغنية كردية حزينة، فسأله عن معنى كلمات الأغنية باللغة العربية فكانت حكاية تقليدية عن فراق حبيبين، فما الذي يستدعي البكاء اذاً - سأل العربي - أجاب الكردي بحيرة «كاكا كنت أتمنى لو تستمع الى الأغنية ككردي لكنت بكيت». اللغة باعتبارها ذاكرة اذاً عائق أمام الفهم وهي مدخل ايضاً الى سوء الفهم. واللغة الكردية في الأغنية وفي الدبكة واحدة في مفرداتها، بل ان الموسيقى والإيقاع يغلبان اللغة ويتفوقان عليها. ومع هذا كان القلق على اللغة حاضراً بدوره لدى الأكراد العراقيين على رغم انهم كانوا اكثر حظاً من أكراد الدول المجاورة في الاحتفاظ باللغة بلهجاتها المحلية. وفكرة ان تكون مهدداً بلغتك وتقاليدك وأصولك وهويتك ووجودك في محيط يغلبه سوء الفهم، تذكر بالدبكة من حيث انها تاريخ له ارتباط بطقس زرادشتي سحيق تكون حلقة الرقص حول النار فيه مناسبة لطرد المخاوف من الآخر والأرواح الشريرة المهددة واستحضار قوة النار باعتبارها عاملاً تطهيرياً للذات وخارجها. لكن الطقس «الزرادشتي» طوته الذاكرة في جميع المناطق التي انتشر فيها من جنوب فارس الى القوقاز وشرق أوروبا ومن غرب ارض العرب الى روسيا، وتحول الى مناسبة فولكلورية تحرص الشعوب على عدم اندثارها بالكامل. أما في جبال كردستان، فتحدي الوجود ساهم في استمرار الطقس وتجذره كهوية على رغم غياب أصوله، فالآخر استمر مهدداً، والدبكة استمرت كآلية مقاومة. الجبل العصي منح سكانه أسبقية أمام غزوات السيوف، لكنه لم يوقف طموح أهل السهول الى بلوغه وإحكام السيطرة عليه. والانعتاق الذي توفره البيئة الجبلية كان يرتبط بدوره بوحشة وفردانية تجبر على اعتماد طقس الجماعة كوسيلة وحيدة للبقاء، ومقاومة وحشة الليل الجبلي لا يقل في حضوره عن مقاومة وحشة ليل الصحراء وكلاهما انتج تفاصيل للجماعة. الدبكة ونارها هي آلية بقاء اذاً، وهي أسلوب الجماعة لمقاومة قسوة الجبل ووحشته بما يوفره من أمن حيال الآخر. لكن الدبكة بحسب الباحثين القلائل الذين تطرقوا إليها لها دلالات «ايروسية» لا تقل حضوراً، فهي آلية تفريغ نفسي عريقة في مواجهة التقاليد المحلية المحافظة والفصل بين الجنسين الذي أسهمت حياة الجبل المنقطعة في تكريسه، ومناسبة الدبكة واحتكاك الأجساد خلال حلقة الرقص تمنح مدخلاً نموذجياً لهذا التفسير. في حلقة الرقص يمكن ترجمة جميع هذه المفاهيم في حلقة الرقص ذاتها، فالإيقاع يفرض نفسه لتوحيد الخطوات والانخراط في آليات التفريغ النفسي، والطقس يمنح حلقة الرقص آلية لإنتاج مفهوم مستمر للجماعة الاجتماعية الحامية للفرد. يشعر العربي باغتراب داخل الرقصة، ليس لأنه لا يتقن الحركة بل لأنه لا يشعر بتجلياتها النفسية وطقسيتها، فالعرب أنتجوا دبكاتهم وآليات بقائهم. والعربي الى الجانب الآخر من العراق، ما زال بعيداً من أجواء التفكير الكردي، والأكراد لم يبادروا إلا أخيراً الى محاولة تسهيل مهمة الفهم على العربي الذي دفعته التشنجات السياسية وارباكات اللغة والتاريخ الى مأزق الأحكام المسبقة. قبل شهور اطلع العراقيون عبر مقاطع «اليوتيوب» والمنتديات الإلكترونية على شاعر شعبي عراقي يوجه في مهرجان اتهامات وإساءات بالغة ليس الى السياسيين الأكراد بل الى الشعب الكردي نفسه الذي أجمله بمصطلح «كاكا حمه» ووصفه بأنه «يدبك على صدر الوطن»! كانت الكلمات الاتهامية المسيئة في القصيدة والتي شكلت حادثة فريدة من نوعها على مستوى العلاقة العربية - الكردية، بالغة الوطأة على الأكراد واستدعت رداً من سياسيين وشعراء أكراد وعرب، وإحساساً عاماً للمتحدثين بالعربية بوجود سابقة خطيرة تستدعي المواجهة. لكن الحادثة – القصيدة، فتحت الباب واسعاً للبحث في حجم الالتباس بين الطرفين الذي فجره التشنج السياسي، فالشاعر يصف «الدبكة» باعتبارها مهرجان فرح كردياً وسط الأحزان العراقية، وتلك رؤية لا تفتقر الى الدقة والموضوعية فقط، بل انها تنظر من الزاوية الملتبسة نفسها التي غلفت التقويم الخارجي العربي والفارسي والتركي لأفكار وتوجهات الشعب الكردي طوال قرون. حلقة الدبكة الكردية أثبتت في خضم الأحداث انها نتاج ثقافي بدلالات سياسية واجتماعية ونفسية، وهي مع انحسار مظاهر التعبير عن الهوية كالزي التقليدي والشعارات القومية العريضة، تستمر في تمثيلها هوية شعب ما زال يخصب علاقة مستديمة مع الجبل بحصانته ووحشته وفرادته.