الأسهم الأوروبية تغلق على تراجع    أمير تبوك: نقلة حضارية تشهدها المنطقة من خلال مشاريع رؤية 2030    الفالح: المستثمرون الأجانب يتوافدون إلى «نيوم»    برئاسة ولي العهد.. مجلس الوزراء يقرّ الميزانية العامة للدولة للعام المالي 2025م    السعودية وروسيا والعراق يناقشون الحفاظ على استقرار سوق البترول    مغادرة الطائرة الإغاثية ال24 إلى بيروت    التعاون والخالدية.. «صراع صدارة»    الملك يتلقى دعوة أمير الكويت لحضور القمة الخليجية    الهلال يتعادل إيجابياً مع السد ويتأهل لثمن نهائي "نخبة آسيا"    في دوري يلو .. تعادل نيوم والباطن سلبياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء    «التعليم»: 7 % من الطلاب حققوا أداء عالياً في الاختبارات الوطنية    أربعة آلاف مستفيد من حملة «شريط الأمل»    «فقرة الساحر» تجمع الأصدقاء بينهم أسماء جلال    7 مفاتيح لعافيتك موجودة في فيتامين D.. استغلها    أنشيلوتي: الإصابات تمثل فرصة لنصبح أفضل    الأسبوع المقبل.. أولى فترات الانقلاب الشتوي    «شتاء المدينة».. رحلات ميدانية وتجارب ثقافية    مشاعر فياضة لقاصدي البيت العتيق    الزلفي في مواجهة أبها.. وأحد يلتقي العين.. والبكيرية أمام العربي    مبدعون.. مبتكرون    ملتقى الميزانية.. الدروس المستفادة للمواطن والمسؤول !    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    بايدن: إسرائيل ولبنان وافقتا على اتفاق وقف النار    كيف تتعاملين مع مخاوف طفلك من المدرسة؟    حدث تاريخي للمرة الأولى في المملكة…. جدة تستضيف مزاد الدوري الهندي للكريكيت    قمة مجلس التعاون ال45 بالكويت.. تأكيد لوحدة الصَّف والكلمة    7 آلاف مجزرة إسرائيلية بحق العائلات في غزة    الدفاع المدني: استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    كثفوا توعية المواطن بمميزاته وفرصه    شركة ترفض تعيين موظفين بسبب أبراجهم الفلكية    «هاتف» للتخلص من إدمان مواقع التواصل    حوادث الطائرات    حروب عالمية وأخرى أشد فتكاً    معاطف من حُب    الدكتور عصام خوقير.. العبارة الساخرة والنقد الممتع    جذوة من نار    لا فاز الأهلي أنتشي..!    الرياض الجميلة الصديقة    هؤلاء هم المرجفون    المملكة وتعزيز أمنها البحري    اكتشاف علاج جديد للسمنة    السعودية رائدة فصل التوائم عالمياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء الخميس المقبل    مناقشة معوقات مشروع الصرف الصحي وخطر الأودية في صبيا    حملة على الباعة المخالفين بالدمام    «السلمان» يستقبل قائد العمليات المشتركة بدولة الإمارات    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة يناقش تحديات إعادة ترميم الأعضاء وتغطية الجروح    مركز صحي سهل تنومة يُقيم فعالية "الأسبوع الخليجي للسكري"    "سلمان للإغاثة" يوقع مذكرة تفاهم مع مؤسسة الأمير محمد بن فهد للتنمية الإنسانية    جمعية لأجلهم تعقد مؤتمراً صحفياً لتسليط الضوء على فعاليات الملتقى السنوي السادس لأسر الأشخاص ذوي الإعاقة    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    نوافذ للحياة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زيارة لإقليم الحظرالجوي والدينار السويسري و"القشخ". بلاد الأكراد كما بدت من نافذة سيارة بارزاني اليابانية الحديثة
نشر في الحياة يوم 05 - 11 - 2000

كان عبور كتاب وصحافيين عرب نهر دجلة، سهلاً وخفيفاً، اذ ما ان وصلوا الى الجهة السورية من ضفته حتى تولى رجال رشيقون ينتمون الى الحزب الديموقراطي الكردستاني نقلهم الى الضفة العراقية الكردية بقوارب صغيرة وبدائية، لكنها مثلهم رشيقة. العملية لم تستغرق اكثر من دقائق قليلة على رغم العدد الكبير للضيوف وعدد القوارب القليل. وقد نفذ سائقو القوارب، في نقلهم وفود المشاركين العرب في مهرجان مئوية الجواهري، عملية عبور حدودية خارج القانون. واي حدود...؟ انها مثلث خابور، اي النقطة التي تلتقي فيها الحدود العراقية والسورية والتركية، وليس ببعيد منه تقع حدود الجارة الرابعة، اي ايران. اما السماء في تلك المنطقة فهي لأسراب طائرات التحالف الغربي التي تراقب التزام العراق الحظر الجوي المفروض عليه بعد حرب الخليج. والعبور السهل وغير الشرعي لم يكن قفزاً من فوق تلك العلاقات والنزاعات الشديدة التعقيد التي تربط وتفصل بين هذه القوى والدول. فقد كان الهواء القليل البرودة الذي يلفح وجوه ماخري عباب دجلة في ذلك النهار بداية هادئة لزيارة اقليم كردستان العراقي، بحكومتيه بارزانية وطالبانية. هذا الأقليم الذي سيلازمنا شعور طول مدة زيارتنا له أننا نعيش في قلب هذا التوازن الهش وغير الدقيق الذي سمح للأكراد بأقامة حكمهم الذاتي.
بعد توقف قصير على الضفة الكردية من النهر، شاءت الأقدار ان تبدأ الرحلة من نقطة كان من المفترض ان تنتهي عندها. فبعد مسير قليل بسيارات ال"تويوتا" الحديثة التي اعدها الحزب الديموقراطي لتنقل الوفود، عليك العبور من امام الجهة التركية من بوابة خابور، حيث تصطف طوابير شاحنات النفط المهرب من العراق الى تركيا خارج اتفاق "النفط في مقابل الغذاء". طابور الشاحنات طويل جداً، قد يمتد احياناً بحسب السائق الى اكثر من عشرة كيلومترات، والى يمينه نشأت ورش صناعية وظيفتها تقديم خدمات الصيانة للصهاريج، والى يساره قرى صغيرة ومكتظة تشبه الأحزمة التي تنشأ الى جوار المناطق الصناعية. اما الطرق على طول المسافة التي يشكلها الطابور فتآكل اسفلتها بفعل تسرب النفط من الشاحنات العابرة والمتوقفة.
"القشخ" هو التعبير العامي العراقي الذي يعني التهريب. ويقول السائق إن كل هذه الشاحنات تعمل ب"القشخ". فكميات النفط التي يسمح بها اتفاق "النفط في مقابل الغذاء"، تضخ كلها عبر انبوب النفط العراقي الى تركيا الذي تحميه البشمركة الكردية، مثلما اكد لاحقاً رئيس وزراء الجزء بارزاني من الأقليم الكردي نيتشرفان بارزاني ابن شقيق مسعود وصهره... اما الشاحنات فلها "القشخ". وكما لازمنا، طول رحلتنا، شعور أننا نعيش في اقليم التوازن الهش والغرائبي بين دول عملاقة وشرسة، سيلازمنا "القشخ" ويسهم لاحقاً في فهمنا الوظائف التي انيطت به.
زاخو ودهوك
المدينة الأولى بعد مثلث خابور كانت زاخو التي يلوح عند مدخلها تمثال لامرأة، من الصعب التكهن بالهدف من نصبه هناك، اذ لا تظهر على ملامحها علامات او معان من النوع الذي ترغب المدن في قوله من خلال انصبتها. الأمر الوحيد الذي يمكن قوله في هذا التمثال إنه ليس من النماذج العربية للأنصبة، خصوصاً انه لامرأة. اما المدينة الثانية فكانت دهوك التي أمضينا ليلتنا في فندق كان هادئاً، وقد فاقت خدماته وتقديماته ما كنا نتوقع ان نجده في منطقة كهذه. المدينة تقع عند سفح جبل دهوك، ومن شرفة الفندق المطلة على الأحياء الشعبية فيها، يمكن ملاحظة نوع آخر من الاكتظاظ والسكن الشعبي المتجاور. اذ تبدو الحدود التي تفصل المساكن الواطئة والمتجاورة على مقدار كبير من الوضوح وعدم التداخل، بينما يتيح وجود حدائق صغيرة ومتواضعة امام المنازل عيشاً ارحب في تلك الأحياء المكتظة.
ويبدو ان السوبرماركت الكبير والحديث احدى العلامات الرئيسية في المدينة. فإلى هناك توجهت سيارات ال"تويوتا" الحديثة، ناقلة إيانا بعد حفلة استقبال افتتح فيها ال"كورد" حفلات ترحيبهم بالوفد "العروبي". في مراكز التسوق التي نعرفها، كثيراً ما يطغى على الحركة والتجوال احتفال بوجودنا والتقائنا فيها. اما في سوبرماركت دهوك فالأحتفال الفعلي بالسلع المعروضة. النساء اللابسات العباءات السود، يتجولن وسط جدران السلع التركية والأوروبية والمضاءة بالأنوار البيضاء، والشابات الكرديات غير المنقبات الواقفات خلف "ستاندات" السلع.
الطريق من دهوك الى اربيل عاصمة الحكومة البرازانية طويلة، يتطلب اجتيازها اكثر من اربع ساعات، وقطع عشرات السلاسل الجبلية والسهول الهائلة المساحات. السيارات أقلتنا بمهابة ودقة، وعبرت بنا القرى، كانت كأنها تريد استعراض الضيوف امام الأهالي. الأمر لم يكن مزعجاً فهو حصل بأقل مقدار من الافتعال والقسر. مواقع البشمركة تصطف على الطرق السهلية على شكل تلال صغيرة وقليلة التحصين. انهم يحرسون انبوب النفط على الأرجح. اما في الطرق الجبلية فنوع وجود الميليشيا الكردية مختلف. فهذه الجبال العملاقة والوعرة هي التي أمضى فيها عناصر البشمركة عشرات السنوات اثناء انتفاضاتهم على الحكومات العراقية، وهي التي عناها الأكراد عندما قالوا ان لا صديق للكرد سوى الجبال.
من خلف شجرة
ما زال لشكل وجود الأكراد في الجبال مظاهر انكفاء وحذر، فهم ربما الفوا هذا النوع من الوجود، اذ كثيراً ما يطل البشمركي المسلح على الطريق الجبلية وحيداً من خلف شجرة مثلاً، وهو حين يقرر الظهور بجسمه كاملاً، تراه واقفاً على حجر صغير يتطلب الوقوف عليه تدريباً وتوازناً دقيقاً تماماً كما تستريح الطيور. ويبدو ان العيش في الجبال اكسب هؤلاء الرجال القدرات على أخذ اوضاعٍ جسمانية غير مألوفة. فمن العادي هناك ان تجد رجلاً يجلس القرفصاء، ومحنياً ظهره الى الأمام. وفي الجبال ايضاً، وعلى قمم مطلة على القرى القليلة، تقع القلاع الصدّامية التي بناها الجيش العراقي على شكل قلاع قديمة، محاكياً على الأرجح رغبة رئيسه صدام حسين في التأكيد ان حكمه امتداد للتاريخ الأشوري، وجاءت القلاع اشورية، لكنها أدت ادواراً بعثية. فوظائف هذه القلاع الشديدة التحصين كانت قبل انتفاضة الأكراد عام 1991 كثيرة. فإلى كونها ثكناً عسكرية، كانت مراكز تجميع للسكان المحليين، ضمن عمليات الاقتلاع الكبيرة التي نفذها الجيش العراقي، وكانت واحدة من خططه، اقتلاع الأكراد من قراهم القريبة من الجبال وتجميعهم في مجمعات قريبة من المدن حتى تسهل السيطرة عليهم. وكلمة مجمعات تغلب كلمة قرى او مدن في عدد مرات تردادها اثناء الرحلة. والجبال الكردية ما زالت عامرة بالندوب التي خلفتها السياسات العراقية حيال الأكراد ومحاولات ابعادهم عنها، وليست عمليات الأنفال الا واحدة من عشرات.
والروايات التي تسمعها لن تجد ما يشبهها في ما تعرفه عن الحروب. كأن تعلم مثلاً ان سبب وعورة الطرق وطول المسافات هو ان النظام العراقي الذي شق هذه الطرق اراد عدم ربط اي مدينة كردية بأخرى، وعليك اذا اردت ان تذهب الى مدينة كردية ان تمر بمدينة عربية. وربما حملت اخبار اقفال ينابيع المياه المنتشرة بكثافة في الجبال، شحنة خيال غير مسبوقة، اذ سدَّها الجيش بالأسفلت، وهي كانت سبباً رئيسياً لعيش الأكراد هناك.
أسماء وأناشيد
ربما كان حب الأكراد الجبال هو ما جعلهم يطلقون عليها اسماء يمكن في سهولة استعمالها في الأناشيد، فبين دهوك واربيل سلسلة جبال اسمها بابلو، واخرى غازلو، وبينهما يقع سهل ميزوري. ثمة علامات تصحر اكيدة على هذه الجبال، اذ يبدو ترابها للناظر اليها من نافذة السيارة، كأنه تعرض للاحتراق. وهناك انواع عدة من الجبال، منها تلال التراب العملاقة الجرداء التي يوحي ترابها بأنه لم يتلبد كفاية حتى يُستنبت، ومنها الجبال الصخرية الشاهقة التي تتخللها أحراج بدأ اليباس يصيبها. ويعزو الأكراد سبب زحف الصحراء الى جبالهم الى اقدام النظام على قطع المحروقات عنهم في السنوات القليلة الفائتة، ما اضطرهم إلى قطع الأشجار واستعمالها للتدفئة في فصل الشتاء. وتقول الحكومتان الكرديتان إنهما بدأتا مشاريع تشجير، ولكن يبدو ان المساحات المصابة اكبر بكثير من امكاناتهما المتواضعة.
مدينة اربيل هي كبرى مدن الإقليم الكردي المنقسم، لكنها ايضاً من اقدم مدن العالم كما يردد اهلها. تلتف بأسواقها القديمة واحيائها الجديدة حول قلعة اربيل الأشورية الشهيرة التي يمكن مشاهدتها من معظم الأحياء. القلعة الهائلة نواة المدينة، وهي نواتها السكانية ايضاً، اذ تقيم فيها اليوم نحو 600 عائلة، في منازل شيدت من زمن طويل في حرمها وداخل السور الذي يلفها، ويبدو ان معظم العائلات الأربيلية المقيمة في الأحياء الجديدة من المدينة كانت تقيم في القلعة واخلتها لوافدين من الريف الكردي القريب. العائلات المقيمة في القلعة اليوم فقيرة ويبدو انها لا تقيم وزناً، في طريقة اقامتها، للمعاني التاريخية العمرانية الآخذة في التآكل.
اسواق اربيل المحيطة بالقلعة قديمة جداً، ويمكنك بالفعل اثناء تجوالك فيها ان تشعر انك رجعت قروناً الى الوراء، ولن يعيق شعورك هذا تزاحم الصحون اللاقطة، ولا السلع الحديثة والرخيصة، ولا الملابس التركية الصناعة المعروضة بكثافة فيها. الغريب ان المتجولين الأكراد هناك، المنقبين في اكوام الملابس الرخيصة والحديثة، جميعهم من لابسي الثياب الكردية التقليدية التي لا اثر لها في تلك الأسواق. "الثياب الكردية لا تباع هنا"، على ما قال احد اصحاب المحال، فهي تفّصل في محال خاصة. صديقنا اللبناني لم يرتَبْ في العسل الذي خصص الأكراد لبيعه سوقاً كاملة. "لا يبدو انهم يكذبون"... هكذا قال وراح البائع يملأ الأوعية الزجاج بعسله الجبلي. في زاوية اخرى من السوق تقع محال الصرافين الذين لهم ادوار رئيسية في الإقليم الكردستاني. فالتهريب جذب الى المنطقة عملات كثيرة تحتاج الى تبديل الى العملة المحلية، ولهذه العملة حكاية اخرى.
"الدينار السويسري"
حين تسأل الكردي عن نوع عملته يجيب بشيء من الأعتزاز انها "دينار سويسري"، اي الدينارالعراقي المطبوع في سويسرا، والذي الغى العراق التعامل به. اما اعتزاز الأكراد به فمرده الى ان قيمته توازي اكثر من عشرة اضعاف قيمة الدينار العراقي الحالي الذي تتوسطه صورة جليلة لصدام، ويطلق عليه الأكراد اسم "الدينار الطبع"، نظراً إلى أن طباعته تمت في بغداد، واكوام هذا النوع من الدنانير ستجدها مكدسة في محال الصيرفة من دون ان يكترث اصحابها لأمكان سرقتها في سهولة. فالصراف الذي قصدناه لتبديل عملتنا تركنا وحدنا في المحل وسط اكوام الدينارات العراقية، وتوجه الى دكان جاره ليحضر لنا الكميات المطلوبة. لكن السؤال يبقى عن الدينار السويسري. فالعراق الغى هذه العملة، ففقدت تغطيتها. اما اعتماد حكومتي الإقليم لها واختراع قيمة تبادلية لها، فليس له الا تفسير واحد، وهو ان الغطاء الإقتصادي لهذه العملة هو اقتصاد الأقليم الذي من المفترض ان يكون محصوراً بحصته من اتفاق "النفط في مقابل الغذاء"، وبالتالي يجب ان توازي قيمته قيمة الدينار العراقي.
لكن المصادر التي تغذي الاقتصاد الكردي متنوعة اكثر. انها التهريب عبر الحدود. ويبدو ان كل دولة من الدول المجاورة للإقليم الكردي معترفة بهذا الدور بمقدار افادتها منه. اذاً الغطاء الأقتصادي الفعلي للدينار السويسري الكردي هو التهريب والأدوار الموقتة التي يؤديها الإقليم.
تركيا، المستفيد الأكبر من هذا الوضع، قبلت بأستقلال الإقليم على رغم محاكاته مشاعر اكرادها، وعلى رغم ايواء اكراد العراق عناصر حزب العمال الكردستاني. وفي المقابل عادت حكومتا الإقليم وطردت عناصر هذا الحزب الى الجبال القريبة من ايران بعدما لمستا حجم الفوائد التي تجنيانها من تحسين علاقتهما بتركيا. اما افادة الأتراك من نشوء ثغرة في منطقة اتفاق "النفط في مقابل الغذاء" تتسرب من خلالها البضائع التركية الى العراق ويتسرب النفط الرخيص الثمن من العراق الى تركيا، فلا تحتاج الى شرح كبير. ايران، وهي الجار الثاني، لا تنحصر علاقتها بأكراد العراق بالتهريب، خصوصاً انها طرف سلبي فيه، اذ يبدو ان البضائع التركية والغربية هي التي تهرب اليها، وخصوصاً المشروبات الروحية. ويقول تاجر من السليمانية ان اطناناً من هذه السلع تدخل يومياً ايران عبر الجبال، محملة على ظهور البغال. لكن ايران ترغب ايضاً في مد نفوذها الى المنطقة واقامة علاقات متفاوتة مع قواها. لذلك لم تقم بخطوات جذرية لمنع التهريب اليها، علماً أن الأكراد وبعض مسؤوليهم الرسميين يشكون كثرة اقفال الإيرانيين حدودهم، خصوصاً في مواسم الأعياد. ويشكل الإقليم الكردي المتنفس الإقتصادي الوحيد للعراق. وعلى رغم ذلك لا يأمن الأكراد جانب هذا النظام، لأنهم مقتنعون بأن ليست المصالح ما يحركه، انما غرائز الرئيس وعائلته.
ظاهرة لافتة
في اربيل، كما في المدن الكردية الأخرى، ثمة ظاهرة لافتة في شدة تفشيها. انها ظاهرة شركات الهاتف والسنترالات المتفرعة منها، ووظيفتها وصل السكان بأقاربهم الكثيفي الانتشار في اوروبا والعالم. وعلى رغم كثرة اعداد هذه المحال ورداءة استقبال الأصوات وارسالها، وارتفاع تعرفة التخابر قياساً إلى مستوى الدخل، يبلغ ازدحام المتصلين في هذه الأماكن حداً لا يطاق. ويبدو ان اربيل، بأسواقها وناسها وحتى حكومتها، هي المدينة الكردية التقليدية. ويمكنك ان تلحظ انسجاماً بين وظائفها المختلفة.
الملا مصطفى بارزاني اكثر قدرة من شريكه في الأقليم على ان يستمد شرعية اجتماعية محلية لحكمه. ويبدو رجاله اكثر صمتاً الصمت والخجل علامات يمكن رصدها في الأكراد في شكل عام، واكثر التزاماً حيال وظائفهم. وهو حريص اكثر على تثبيت حكمه على ركائز تشبه ركائز دول هذا النوع من المجتمعات، مع نسبية هذا الافتراض.
بعد ثلاثة ايام في اربيل، انطلقت بنا سيارات ال"تويوتا" الحديثة في اتجاه السليمانية، عاصمة الحكومة الكردستانية الثانية بقيادة رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني جلال طالباني. وبعد اقل من ساعة، وصلنا الى المعبر الذي يفصل نفوذ كل من الحكومتين حيث يقيم فنان تشكيلي كردي معرضاً لرسومات له رسمها على الصخور احتجاجاً على الاقتتال الكردي - الكردي. وهناك تسلمتنا حافلات كبيرة اقل حداثة، واقل تنظيماً، تابعة للاتحاد الوطني الكردستاني. وفي اربيل لطالما اخبرنا ان السليمانية مدينة اكثر حداثة وانفتاحاً منها، وهي العاصمة الثقافية للإقليم وعاصمة اليسار الكردي. وأقر بارزانيون بهذا الأمر، لكن لطفي شقيق زميلنا الأربيلي، وحده من اشار عرضاً الى ان اربيل مطمئنة اكثر.
ربما كانت السليمانية اكثر انتماء إلى العراق البعثي من اربيل. قد يحمل هذا الكلام بعض المجازفة، خصوصاً اذا كان المقصود المضامين الأجتماعية والعمرانية لعبارة العراق البعثي، لا المضامين السياسية. فالأنفتاح الذي سمعنا به عن السليمانية، كان مظهره الأول وجود نساء ضمن فرق المستقبلين. نساء تعلمن اصول المخاطبة والترحيب في مدارس حزبية، واخريات صحافيات وقفن يسألن اعضاء الوفد عن آرائهم في القضية الكردية. ربما اقتصر "انفتاح" السليمانية على مظاهر من هذا النوع وعلى بعض الحانات التي يمنع فيها الاختلاط، والتي من السهل ان تعثر بالقرب منها على عراقي ثمل يبكي ويصرخ: "انا شاعر، انا فنان تشكيلي، انا مضطهد". لا ادري لماذا لم اتمكن من أن احفظ للسليمانية شكلاً محدداً، باستثناء تلك الطرق المستقيمة، وعلامات اخرى تردني الى ازمنة لا الى امكنة. النادي الحسيني الذي بناه معارضون عراقيون يشبه رخامه الخارجي، الجوامع التي يبنيها "حزب الله" في الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت. والفندق الذي نزلنا فيه، ذكرني بتلك الليلة التي أمضيناها في فندق يملكه حزب البعث في مدينة القامشلي السورية. ويبدو ان حداثة البعث اصابت اسواق السليمانية التقليدية فضعف انسجامها وتركزت الحركة التجارية خارجها. اما السلع فيها، فأغلى ثمناً، بسبب اضافة ضريبة الحكومة الطالبانية الى ضريبة الحكومة البرازانية على السلع المستوردة من تركيا، وهي الأكثر تداولاً في هذه الأسواق.
المناطق التي تسيطر عليها حكومة طالباني مقسم النفوذ فيها على عدد من القوى. فالأسلاميون يسيطرون على منطقة حلبجة وقضائها على الحدود الأيرانية، وقد اقاموا فيها حواجزهم ومحاكمهم، وحين تتجول في اسواق البلدة المنكوبة بقنابل صدام الكيميائية، لن تصادف الا رجالاً ملتحين، والنساء القليلات المتجولات في السوق اضفن الى عباءاتهن التقليدية مزيداً من الأثواب. والى جوار منطقة حلبجة ثمة منطقة جبلية يسيطر عليها الحزب الإشتراكي الديموقراطي، تليها منطقة سيطرة الإتحاد الوطني الكردستاني، علماً ان كل هذه القوى ممثلة في الحكومة.
الأكراد مصابون بحمى الاتهامات المتبادلة التي تتعلق بارتباط قواهم وسلطاتهم بالدول المجاورة. انه امر تدرك، انت اللبناني، معانيه تماماً. فحين علم السائق الكردي انني لبناني بادر بإخباري أن الطقس في لبنان ماطر وان ثمة موجة امطار كثيفة وصلت بالأمس الى بلدي. وحين سألته عن مصادر معلوماته وعن سر اهتمامه بلبنان، قال إنه يشاهد يومياً ال"ال. بي. سي.". اما رصده الأحوال الجوية في لبنان فمرده الى التشابه الطبيعي بين كردستان ولبنان. وقال ان كثراً من الأكراد يتوقعون سقوط الأمطار في بلادهم عند سماعهم عن سقوطها في لبنان. طبعاً لا يبدو هذا الكلام دقيقاً، لكنني استعدته كثيراً عندما سمعت نيتشرفان بارزاني يتهم الطالباني بعلاقته بإيران، وعاد يتردد في اذني عندما سمعت طالباني يتهم بارزاني بعلاقته بالعراق وتركيا. وزاد ايماني بتشابه الأقدار، بعدما لمست ان جزءاً كبيراً من هذه الأتهامات صحيح.
الليالي الثلاث التي أمضيناها في السليمانية متجولين بحراسة مشددة تطبق على الصدور كانت كافية لإشعارنا أننا في الجزء الفقير من الأقليم، الجزء الذي يتغذى اقتصاده من الحدود الأيرانية بدلاً من التركية، إضافة طبعاً الى حصته من "النفط في مقابل الغذاء". اليوم الأخير أمضيناه على تلة مطلة على بحيرة دوكان الساحرة حيث يملك مام جلال العم جلال استراحة صغيرة. وفي نهاية ذاك اليوم، كانت سيارات ال"تويوتا" الحديثة، بسائقيها الخجولين، تنتظرنا على المعبر الذي يفصل نفوذ كل من الحكومتين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.