يأتي هذا المقال تعليقاً متأخراً نوعاً ما على قرار مؤتمر وزراء الثقافة للدول الإسلامية المعقود في الدوحة بقطر، شوال 1422ه باعتبار مكةالمكرمة عاصمة للثقافة الإسلامية للعام 2003م. وكان علّق عليه أخيراً معالي الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان، الذي يعد أحد أبرز أعلام الدراسات الفقهية في العالم الإسلامي، ومن أكثرهم انفتاحاً وتنوّراً، وهو من أعضاء هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، وأحد أعضاء هيئة التدريس في جامعة أم القرى في مكةالمكرمة، ويحظى باحترام الأوساط العلمية والثقافية ويشتهر بإنتاجه الفكري ذي الطبيعة البحثية المعمقة في الشريعة الإسلامية، وهو من أسرة علم معروفة في مكةالمكرمة. ووجه التعليق في مقالي هذا، يتفق مع كل ما ذهب إليه القرار من جدارة مكةالمكرمة بأن تكون عاصمة الثقافة الإسلامية بسبب مركزها التاريخي والديني والفكري، وهو أمر لا يحتاج إلى اتفاق أو شهادة، كما يتفق مع ضرورة التعبئة العامة وبذل أقصى ما يمكن من التجهيز بما يتناسب وأهمية الحدث وسمو المكان، وأن تكون الاحتفالية أنموذجاً مختلفاً عن كل المناسبات السابقة واللاحقة. خصص الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان بعضاً من مقاله لطرح بعض الأفكار والمقترحات التي يمكن أن تنفّذ في هذه المناسبة، واستحثّ الجهات المسؤولة للتحضير لها في شكل برنامج عالمي يشترك فيه العلماء والأدباء والمفكرون. كما أشار إلى أن تجربة المملكة في الاحتفال باختيار الرياض عاصمة للثقافة العربية قبل عامين، تؤهلها للافادة من الأخطاء والملحوظات. وفي تقديري، أن ما وصلت إليه مكةالمكرمة من تطوّر عمراني وحضاري وعلمي في هذا العهد بالذات يتيح لها أن تفتح صدرها بكل افتخار لهذه المناسبة ولاستقبال المشاركين فيها. لكن مقالي هذا، بعد ذلك، ينطلق من اعتراضين : أولهما: أن تسعى أي جهة، داخلية إلى مطالبة، أو انتظار أن يوافق مؤتمر وزراء الثقافة للدول الإسلامية على إعطاء هذه الجدارة لمكةالمكرمة، وبالتالي فإنني لا أتفق مع توجيه الشكر لوزراء الثقافة لأنهم كما قال "عرفوا أثر مكةالمكرمة ودورها العلمي والحضاري والشكر لهم على هذه البادرة والمبادرة وانها ليست غريبة عنهم ... الخ". فمركز مكةالمكرمة - وشقيقتيها المدينةالمنورةوالقدس - ومكانتها في العالم الإسلامي وفي قلوب كل المسلمين وموقعها في تاريخهم وثقافتهم أكبر من أن نستجدي لها الاعتراف من أحد، وان قيمتهما الثقافية شاخصة منذ أن بزغ فجر الإسلام وستبقى شامخة إلى يوم الدين، وذلك بغضّ النظر عن الحقب التاريخية المتتالية والعهود السياسية التي أُهملت فيها تلك المدن المقدسة الثلاث ثقافياً وتنموياً وبخاصة في عهد الأتراك ثم الانتداب البريطاني على فلسطين . الاعتراض الثاني: أن نسعى إلى تحديد سنة بذاتها لتكون عاصمة الإسلام الأولى والدائمة عاصمة لثقافة المسلمين لعام واحد فقط. إن من المعلوم أن اختيار مؤتمر وزراء الثقافة العرب وكذا مؤتمر وزراء الثقافة للدول الإسلامية، قد دأبا على هذا التقليد، ومن قبل ذلك سارت اليونسكو على هذا الإجراء، وهو أسلوب يهدف إلى الاعتراف للمدن التاريخية بدورها في الماضي والحاضر، وعُرفٌ عالمي يهدف إلى تنشيط العمل الثقافي، وتشجيع الدول المعنية لإقامة مشروعات ثقافية جديدة وتركيز الاهتمام طوال العام بالحركة الثقافية. لكن، هل يجوز أن تُساوى مكةالمكرمة أو المدينةالمنورة أو القدس، وهي ينبوع الثقافة الإسلامية قاطبة والنهر الجاري على مدى أربعة عشر قرناً بعواصم أخرى لا تمتلك جزءاً يسيراً من تلك المقومات. لقد كان الأولى بمؤتمري وزراء الثقافة العرب والمسلمين أن يصدروا قراراً باعتبار مكةالمكرمةوالمدينةوالقدسعواصم دائمة وأبدية للثقافة العربية والإسلامية. بعد هذين الاعتراضين اللذين قصد بهما معاتبة وزراء الثقافة للدول الإسلامية على هذا القرار ومعاتبة من صاغه بهذا الأسلوب الغريب، مع تأييد إعطاء هذه المناسبة ما تستحق من الاهتمام على رغم إجحاف القرار نفسه، فإننا نبقي للحديث قليلاً من الوجه الثقافي للمدينتين المقدستين مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة، وهما اليوم تشهدان نهضة حضارية شاملة وبخاصة بعد أن اكتمل تطويرهما وتوسعة الحرمين الشريفين وتحسين المرافق فيهما. كنت ممن يرى أن مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة - وكذلك القدس بعد تحريرها بإذن الله - لا تستمد المكانة الثقافية من قرار إداري أو وزاري، كما لا ينتظر منها أن تتفوق في مجال التجارة والصناعة والزراعة، وذلك لعدم وجود مقومات ذلك فيها، فالمياه شحيحة والمواد الأولية محدودة، وهي جميعاً إضافة إلى ذلك ليست موانئ بحرية. صحيح أن مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة تزدهران في العهد السعودي بكثير من أوجه الصناعة والزراعة والعمران، لكن الميدان الأوسع لهما هو في كونهما مركز إشعاع علمي وحضاري وفكري وثقافي إسلامي، لا تنافسهما في ذلك مدينة في الشرق أو الغرب على مدار أيام العام. ولو قدر للجهود الرسمية والأهلية أن تعزز هذه المكانة وتزيد من تنشيط هذا الدور الحضاري وتفعيله، فإن العائد الثقافي والإعلامي والسياسي بل والاقتصادي سيفوق كل ما عداه من مردود التجارة والصناعة والزراعة، ويكفي مثالاً على ذلك ما تم أخيراً، بعد اكتمال تطوير المدينتين المقدستين، من فتح باب ما يسمى السياحة الدينية، التي يقصد بها العمرة والزيارة في غير موسم الحج. وخلاصة القول، أن القرار الأول والأخير بالنسبة الى مكةالمكرمة وشقيقتيها المدينةالمنورةوالقدس، هو ما قدره الله سبحانه وتعالى منذ الأزل لها، بأن تبقى عواصم أبدية للثقافة العربية والإسلامية، والمفترض أن تتركز جهود القطاعات الحكومية والأهلية من جامعات ومنظمات ومراكز وهيئات واتحادات ونوادٍ أدبية وثقافية ودور صحافية لتجعل منها قبلة العالم الإسلامي الثقافية كما هي القبلة الدينية، وأن تجعل من الاحتفال المقبل في مكةالمكرمة أعواماً احتفالية دائمة ومستمرة. * إعلامي سعودي وعضو مجلس الشورى.