المصالحة الغريبة بين مدينة دمشق مع ساكنيها تصيب المراقب بحيرة فعلية، فدمشق تشهد على ذوبان كثير من العائلات المغربية والجزائرية والأردنية الأصل في مجتمعها، الا ان هذا التماهي أخذ شكلاً بطيئاً بالنسبة للعائلات التي قدمت الى سورية، والتي على رغم طول اقامتها في دمشق ظلت عيونها ترنو الى فلسطين. المرأة الفلسطينية داخل فلسطين تقدم للوطن قوافل الشهداء وتقاوم اشكال العنف، أما خارجها فهي جزء لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، تسهم في الحراك الثقافي والفني، ويمنحها انتماؤها لوطن الحلم فلسطين بعضاً من الخصوصية والتفرد. بين القدسودمشق في بيت دمشقي جميل في منطقة باب توما تقيم السيدة مارتا ديب الياس 79 عاماً التي أثارت أحاديث حفيدها عن شفافيتها وخصوصية علاقتها مع الوطن فلسطين فضولي وفضول الأصدقاء، فالجلوس الى السيدة مرتا يبدو لقاء حياً مع جرح حديث، فحديثها عن فلسطين الوطن ما زال حتى الآن أشبه بالصلاة وهي تقول: "حديثي عن القدس كان ولا يزال أمراً أحبه وأخشاه، فأنا أحس دوماً بواجبي لتعديل جلستي كلما تحدثت عن وطني الذي كاد العالم ينساه". مرتا من مواليد القدس عام 1923، ودرست في احدى مدارسها التبشيرية، تتقن الانكليزية والفرنسية حديثاً وكتابة، خرج أهلها من فلسطين عام 1948 للاستقرار في دمشق، التي تتحدث عنها بحب كبير، وتقرأ ما كتبته عنها منذ 42 عاماً في دفتر المذكرات: "دمشق مدينة جميلة، اليفة، تحيي القدس في داخلي ولا تقتلها". تقول مرتا: "تزوجت من رجل فلسطيني من عائلة الياس، مقيم في سورية، وعشنا مع السوريين فرحة الوحدة مع مصر وألم الانفصال، ووجع النكسة وفرح حرب تشرين، كما انخرط كلانا للمشاركة الفاعلة في التجمعات الدمشقية، أما أولادي الخمسة فقد درسوا جميعاً في دمشق، وهم سافروا جميعاً الى الخارج بحثاً عن حياة أفضل". وتتابع: "البعد عن الوطن يمنح الفلسطينيين قدرة اضافية على تحمل قسوة الغربة ولعنة الشتات"، وعن مساهمتها في دعم الانتفاضة تقول السيدة مرتا: "انا من أسرة ميسورة الحال، لم أعان يوماً ما عاناه ويعانيه فلسطينيو المخيمات، الا انني لم أتوقف يوماً عن جمع التبرعات ومحاولة تأسيس جمعيات من شأنها ان تحفظ فلسطين حية في ذاكرة الشباب الفلسطيني الذي يولد بعيداً من وطنه". تعود مشاركة المرأة الفلسطينية في الحياة السياسية الى سنوات الانتداب البريطاني على فلسطين، ومرتا تعي تماماً ما يدور على الساحة الفلسطينية، وهي تتحدث بإسهاب عن معاهدة أوسلو وخطة جورج تينيت. وألمت وعكة صحية بالسيدة مرتا يوم الجمعة الحزينة وكادت تودي بحياتها، بسبب ازدياد حدة المواجهة بين الفلسطينيين واليهود. وقالت والدموع تكاد تختنق في عينيها: "صمت العالم عما يجري في فلسطين حرق قلبي، شاهدنا مشاهد صبرا وشاتيلا وكفرقاسم ودير ياسين، لكن في حينه كان القلب قوياً، أما الآن فهو مكسور ضعيف". في "حارة اليهود" وفي حارة اليهود حيث تتجاور بيوت الفلسطينيين مع بيوت اليهود الذين لم يبق منهم سوى عدد قليل في الحارة، جلست أم خالد 57 عاماً تتجاذب أطراف الحديث مع جارها السمان أبو أحمد وتعلّق بصوت جهوري "هاليهود... ولادين الكلب... ولادين الحرام". تعمل أم خالد منذ 25 عاماً في "تنظيف البشرة والجسم وكل ما يتعلق بتجميل العرائس" وتفخر بأن زبوناتها من أعرق العائلات الدمشقية القديمة، وعاشت حياتها بين "حلب ودمشق" وما تحمله في ذاكرتها عن فلسطين قليل وضبابي الى حد بعيد. حتى لهجتها صارت هجينة ما بين اللهجة الفلسطينية واللهجة الشامية، وقالت: "كبرنا في دمشق وصارت همومنا من هموم أهل البلد، ومصلحتنا من مصلحتهم"، وهي تعلق بحرقة على أغنية فيروز "الآن الآن وليس غداً"، بقولها "والله ما في حدا راجع، فلسطين راحت والشام صارت بلدنا". فلسطين حاضرة على جدران "حارة اليهود" ولكنها كوطن تكاد تغيب عن الأذهان، فالفقر الشديد لأهل الحارة غيب فلسطين عن سلم الأولويات. أما تفاعل أم خالد مع ما يجري في فلسطين فهو يبدو تفاعلاً انسانياً طبيعياً مع حدث اليوم، ولا صلة له بانتماء أم خالد اسمياً لوطن بعيد، ربما لأن الفقر يعمي القلب وربما لأن زمن البؤس العربي طال كثيراً. حلم العودة المستحيل وفي مخيم اليرموك حيث يقيم آلاف الفلسطينيين، أمل 28 عاماً - موظفة في الأونروا وهي تعيش مع امها واخوتها الستة، وهي المسؤولة عن اعالة أسرتها بعد لجوء والدتها الى لبنان. التدخين واغاني مارسيل خليفة واحمد قعبور هم رفاق أمل في "هذه الأيام الصعبة"، فبعد ان كادت مآسي الحياة وهمومها تنسي المخيم وأهله ما له من أحلام، عادت الانتفاضة لتغير شيئاً ما من واقع الحياة في المخيم، الذي اندمج مجتمعه مع الهموم السورية، وخصوصاً الاقتصادية منها. تقول أمل: "نحن ككل الشعب العربي نهتف لحياة قائد البلد العربي الذي نحيا فيه، الا ان الانتفاضة والأحداث الأخيرة اعادت لنا نبضاً خاصاً بنا نحن الفلسطينيين، انها لحظة توحد مع رئيسنا ياسر عرفات الذي يمر بظروف عصيبة، ومع فلسطين التي لا نعرف عنها شيئاً، سوى حكايات الأهل، والصور المعلقة على الجدران". وتتابع أمل: "في الماضي كانت الحياة في المخيم أجمل من الآن بكثير، فقد كان الشباب طوباوياً مثالياً، يفكر بفلسطين أكثر مما يفعل الآن، الا ان اتفاق أوسلو قضى على بصيص الأمل لدى الكثيرين". تحيا أمل وصديقاتها هموم الشابات السوريات عموماً، اضافة الى هموم الوضع المعيشي القاتل. سهرة ليلة الخميس التي تقضيها أمل مع بعض أصدقائها في أحد محال منطقة باب توما، كانت تنسيها الكثير من الآلام، اما الآن وفي ظل الوضع المتأزم في فلسطين، انقطعت أمل عن السهر وعن احتساء "الكحول" وشرب النرجيلة، وعادت تصلي كما كانت تفعل من قبل وهي تقول: "حقيقة لم يهن علينا رؤية أبو عمار يصافح اسحق رابين في أوسلو، ولكن الوحدة الآن مطلوبة، وكذلك الدعاء والصلاة"، أمل لم تشارك في المسيرات والاعتصامات وهي تقول: "شباب فلسطين الذين يحملون دمهم على أكفهم لا تفيدهم التظاهرات، ربما كانت دعماً معنوياً لكن أهلنا في الداخل بحاجة لخطوات أثر جدية". أما حلم العودة الى "صفورية" بلدة أمل التي لم ترها يوماً يشبه سرداً لحلم مستحيل، أخذت أمل تبكي بحرقة، ولفت حول كتفيها شالاً فيه خريطة الوطن. السيدة وفيقة عمورة 49 عاماً تقطن في حي المالكي في دمشق، وهي تتحدث عن رحلتها التي بدأت من لبنان ثم سورية ثم المغرب ثم السعودية ثم قطر والعودة تمت مجدداً الى سورية بعد اندلاع حرب الخليج، وهي تؤكد انها لن تكون الى الأبد، فهي تتمنى العودة الى فلسطين لكنها لا تريد الحصول على أوراق السلطة الفلسطينية لأنها لن تخولها زيارة القدس. لا تحس وفيقة بالتآلف مع مدينة دمشق فهي لا تخرج من بيتها الا عند الضرورة، وهي ليست ممن يحبون اقامة الكثير من العلاقات الاجتماعية، فتقول: "أنا لا أكاد أتعرف على الأجواء الجديدة للبلد وابني علاقات جديدة حتى اعاود الرحيل من جديد، وهذا ما ولّد لديّ احساساً بعدم الثقة بأحد ورغبة في التقوقع والانعزال، فأطول صحبة في حياتي كان عمرها سنتين "أما أولادي السبعة فقد ولد كل واحد منهم في بلد". تصف السيدة وفيقة يومها الطويل أمام شاشة التلفاز، فهي تنتقل طوال النهار ما بين الراديو والتلفزيون للاستماع الى آخر الأخبار والأغاني الوطنية، وفيقة لا تؤمن بجدوى التظاهرات، ولكنها تحرص دوماً على دفع التبرعات. وعن ايمانها بالعودة للحياة في فلسطين، تقول وفيقة: "حلم العودة ظل قائماً لدى مهجري 1967، أكثر منه لدى عرب ال1948، وهناك الكثير ممن نعرفهم عادوا للحياة في أراضي السلطة الفلسطينية، لكني لا أستطيع تصور ما ستكون عليه الحياة في فلسطين، اعتدنا على رفاهية العيش في دول الخليج، وعلى الأمان الذي تقدمه سورية، كما اني لا أؤمن بالسلام مع اسرائيل. فأصوليو اسرائيل ومهووسوها القوميون لن يهدأوا أبداً ولن تتغير عنصريتهم يوماً تجاه فلسطينيي الداخل، فالتعايش مع الشعب الاسرائيلي امر مستحيل".