"يقول العرب ان الحرب جد، ولكن في شعرهم فقط، أما في حياتهم اليومية فإنهم يتخذونها، كالسياسة، فرجة". هذا ما كتبه عبدالله العروي في يومياته ذات يوم أحد من سنة 1967 حين اندلعت الحرب العربية - الاسرائيلية الثانية. اليوميات نفسها التي ستظهر بين دفتي كتاب صدر حديثاً عن المركز الثقافي العربي اختار له عبدالله العروي عنوان: "خواطر الصباح". وكان العروي شرع في كتابة يومياته منذ سنة 1949 وهو لا يزال تلميذاً في ثانوية مراكش ولم يتوقف عن هذه العادة الى الآن. تغطي "خواطر الصباح" فترة تاريخية حاسمة من وجود الأمة العربية، وهي الفترة الممتدة من سنة 1967 الى سنة 1973. أي بين اندلاع الحرب العربية - الاسرائيلية الثانية والثالثة. وأنت تطالع كتاب العروي الذي احترم كثيراً المعايير النظرية لنوع اليوميات، ستلاحظ لا محالة ان راهنية الكتاب باعثة على الدهشة. فالعروي يتحدث عن سياقات تاريخية وظروف سياسية مدفونة بين أثلام الزمن العربي المتقلب وقعت على مبعدة أربعين سنة تقريباً، ومع ذلك لا يكاد عامل الزمن يفعل فعله في الكتابة. فبدا الكتاب كما لو أنه يحكي عن يوميات العام الماضي على الأرجح. خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالكتابة عن الصراع العربي - الاسرائيلي الذي يبدو مهيمناً على يوميات العروي: "بعد 19 سنة قضي الأمر وضاعت فلسطين بأكملها... موقتاً في أحسن الاحتمالات... نجحت خطة اسرائيل: حرب قصيرة وسلام مفروض" ص:7. منذ تلك الستينات البعيدة ضمن العروي الخريطة السياسية في الشرق الأوسط، وانتهى الى ان العرب لا يأخذون الحرب مأخذ الجد سوى في قصائدهم، ولذلك يبسط العروي نظرته المستقبلية الى الأوضاع على النحو التالي: "ستتكون على المدى المتوسط دوائر نفوذ في الشرق الأوسط وفي أفريقيا بإيعاز الأممالمتحدة ورعايتها، سيتحول العالم العربي من منطقة ثورية الى ساحة لنمو استعمار جديد بقيادة دولتين: مصر واسرائيل. وسيكون ثمن المصالحة دفن أمل اشتراكية عربية حقيقية غير بيروقراطية. يبقى وضع الجزائر: إما ان تساير التيار وإما تسحق، مستقبلاً: ماذا عن الجامعة العربية؟ ماذا عن النظام السوري؟ ماذا عن المغرب والجزائر: متى المواجهة؟ ص:8. يطرح عبدالله العروي من الأسئلة ما يجعل القارئ مجبراً على استعمال حاسة التحليل بالموازاة مع وظيفة القراءة، حيث لا يقتصر دور المتلقي بصدد "خواطر الصباح" فقط على التلقي بمعناه التقليدي وانما أيضاً على مجابهة تلك الأسئلة المسننة التي يؤثث بها يومياته والتي تعصف درجة الحيوة لدى القارئ... ففي الوقت الذي تنتظر من الكاتب ان يحسم في الاشكاليات التي تثيرها ذاكرته تجده مصراً على اقحامك في صلب الاشكالية عبر أسئلة تقتل اليقين بالشك. وعلى عكس بعض كتّاب اليوميات الذين يحولون حياتهم من خلال ما يكتبون الى ملاحم يبحثون لها عن الخلود، نجد العروي في "خواطره" الصباحية يقترب من الأرض كثيراً ليكتب عن الضعف البشري، ضعفه بالتحديد، وعن اكراهات العيش في مغرب تلك الفترة، خصوصاً بالنسبة الى أستاذ باحث مثله عبر له المسؤولون سراً وعلناً على أنه شخص غير مرغوب فيه داخل الجامعة المغربية بسبب كتاباته غير المفهومة. وبأسلوب واضح ورشيق يحدثنا العروي عن الألم الذي شعر به وهو يمنح طالباً أميركياً مواظباً ينتمي الى جماعة المورمون المسيطرة على ولاية يوتاه والمعروفة بجدها واستقامتها، نقطة أقل مما يستحقها الطالب الموهوب، وببساطة شديدة يكتب العروي نتيجة لهذا الموقف المحرج: "عشت دقيقة مخجلة، إذ اضطررت الى الاعتراف انني غبي" ص: 37. ليست هذه الفضيلة الوحيدة للعروي، فمن خلال الكتاب نكتشف مميزات أخرى لا يخجل العروي من سوقها ضمن حديثه عن تجربته كأستاذ باحث في أميركا، ومنها سلوكه التجاهلي الذي سبب له الاحراج غير مرة. ولعل أهمية تجاهله تلك المرأة العربية من فلسطين، وكانت فلسطينية مسيحية تحمل الجنسية الاسرائيلية، اقتسم معها العروي دقائق قليلة في مصعد عمارة العلوم الاجتماعية، وذكرته المرأة بنفسها وكان العروي التقاها قبل أسابيع في حفل. لكنه أصر على تجاهلها متصنعاً عدم المقدرة على تذكرها: "تماديت في الانكار مع انها ألحت قبل أن ترتبك وتعلو وجهها علامات الخيبة. ماذا دعاني الى هذا التصرف الخشن؟ لا بد انني خضعت لدوافع غريزية، غير كريمة، غير بريئة. ستلاحقني نظرتها الحزينة شهوراً، بل أعواماً". ص: 57. وفي مكان آخر من الكتاب يعترف العروي بكونه احتكر الكلمة في احدى المداخلات حاجباً عن محاوره امكان ابداء رأيه: "احتكرت الكلمة عوض ان أفسح له المجال ليحكي لنا ما عنده... إلا أن يكون هو قد تعود على استنطاق الغير. كثيراً ما أجد نفسي في المأزق نفسه". ص: 73. يعرف العروي جيداً كيف يجلس نفسه على كرسي الاعتراف ليحكي عن حماقاته البشرية، مثلما يعرف كيف يجلس نفسه فوق كرسي الأستاذ الجامعي ليتحدث عن علاقة المغرب بأوروبا وعن علاقة العرب بإسرائيل وعن المصير الغامض والمتشابك الذي كان يحبك في تلك الستينات الفادحة. وبسبب تجربته الطويلة ككاتب روايات استطاع العروي ان يهب خواطره المقدرة على الإبهار والاقناع والإخبار. وهي الوظائف الجمالية الثلاث التي تجعل فترة تاريخية تمتد من 1967 الى 1973 متزاحمة بالأماكن والشخصيات المتداخلة والمتصارعة، بالحروب والهزائم، بالمهادنات السياسية والمعاهدات المهزومة، بالحلم العربي الزائف، بالوحدة وباحتضار الاشتراكية. وحاول العروي مقاربة هذه الفترة الحرجة من تاريخه وتاريخ الأمة العربية من جهات عدة. أولاً كمغربي قادم الى أميركا كما لو انه قادم من كوكب بعيد، ثانياً كأستاذ باحث يستعمل جهازاً "مفاهيمياً" صارماً لتحليل ما يقع أمامه وفهمه، ثالثاً كمبدع حالم يطبع استنتاجاته بلمسات ساخرة وساخطة أحياناً تعصف بجدية الأستاذ الاكاديمي وتحقق لذة النص بحسب المفهوم البارتي. ليست "خواطر الصباح" بهذا المعنى كتاباً ابداعياً صرفاً. انه ايضاً، وبمعنى أهم، شهادة كاتب على مرحلة تاريخية مثقلة بالهزائم والانهيارات.وصدور الكتاب في هذا الوقت تحديداً احالة الى ان الأمة العربية لديها ذاكرة ملساء وقصيرة. فالأمر يبدو في عمقه كما لو ان الاحداث تراوح مكانها برتابة باعثة على الدهشة. الخطابات نفسها والزعامات نفسها والمناضلون أنفسهم. وحده العدو يُغير اقنعته فيما العرب يكتفون بتغيير قناعاتهم بين كارثة وأخرى: "يشاهد المرء على الشاشة جلسات مؤتمر القمة العربي السادس، فيرى بوضوح التفاوت بين الشعوب العربية... هل يمثل هؤلاء الملوك والرؤساء الجيل الحالي؟ من الصعب القول انهم لا يمثلون سوى أنفسهم. لكن المحقق أنهم لا يمثلون المستقبل...". لم يكن مسار العروي الحياتي والمهني سهلاً. في المغرب منع من التدريس في الجامعة بسبب كتابه "الايديولوجيا العربية المعاصرة". ومنعت كتاباته من النشر أيضاً. في الولاياتالمتحدة الأميركية حقق وضعاً مهنياً مستقراً لكنه خاف أن يفقد البوصلة وأن ينتهي به المطاف الى أن يصبح هو أيضاً يبدأ كلامه بعبارة: "نحن الأميركيون..." كما حدث مع كل زملائه الذين اختاروا البقاء في الجامعات الأميركية على العودة الى بلدانهم الأصلية. وعندما عاد الى المغرب كان عليه ان يبدأ معركة الاندماج من جديد داخل رقعة شطرنج معقدة ومتشابكة المصالح. وحيال المثقفين المغاربة بدا العروي بلا رحمة. خصوصاً عندما منعت كتاباته ولاذ مثقفو تلك الفترة بالصمت. لقد كانت كتاباته غير مفهومة ولذلك فضل وزير الاعلام آنذاك محمد باحنيني منعه: "عندما عرض كتاب الايديولوجيا على الرقابة قال المسؤول: لا أفهم ما يقصد فالحيطة تقضي ان أمنعه". يسلط العروي الضوء على مغرب تلك الفترة. المغرب الثقافي بالخصوص والذي كان عاجزاً عن طرح الأسئلة القلقة للمرحلة بسبب إحكام النظام لقبضته على كل شيء، بما في ذلك العروي الذي ظن نفسه منفلتاً بسبب أسفاره المتعددة حول العالم: "وبصدد المقال عن التقليد قال وزير الإعلام الجديد لجاكلين معرضاً بي: لا يظنن انه خارج قبضتنا!". كان كل شيء في قبضتهم، الوظائف الجامعية والتعيينات الادارية. وحدها الأفكار لم تكن تخضع لقبضتهم. ولذلك استطاع العروي ان يصل بأفكاره سالماً الى غاية العهد الحالي. على رغم ان البعض هنا في المغرب يأخذ عليه صمته حيال المشاركة في النقاش الثقافي والسياسي الدائر حالياً، الا ان ما يشفع للعروي هذا الصمت هو تعوده الإحجام عن النشر في الجرائد والمجلات وتفضيله النزول الى المعترك بكتب رصينة يأخذ وقته الكافي لطهيها على نار هادئة. هكذا من الممكن جداً ان ننتظر سنوات عدة أخرى لنقرأ يوميات جديدة تتعرض لثمانينات أو تسعينات المغرب. وقد نقرأ انتقاداً لاذعاً لبعض الزعامات السياسية أو الإعلامية كما صنع العروي في "خواطر الصباح"، وبالضبط عندما تحدث عن جمال عبدالناصر وخصه بالشهادة التالية والتي قد لا تروق لاخواننا المصريين بالضرورة: "سياسة عبدالناصر، في آخر تحليل، سياسة بورجوازي صغير حانق ومتحيز رغم البلاغة المصطنعة. الأقوال تعبر عن الواقع الاجتماعي دون أن تؤثر في السياسة الفعلية. أمام الهزيمة يلجأ الى المناورة لا الى المقاومة الثورية". حسنين هيكل ليس أكثر حظاً من جمال عبدالناصر في خواطر العروي، ومع ان العروي لا يذهب الى الحد الذي ذهب اليه الماغوط بخصوص هيكل إلا أن هذا الأخير يتهم صحافي مصر الأول، كلامه بالضبط، بالهراء: "يتهم هيكل أميركا بأنها زودت اسرائيل بمعلومات التقطتها طائراتها الاستطلاعية وبذلك مكنتها من اجتياز القناة. كالعادة كلامه هراء حتى ولو صادف الواقع ووافق ما يقوله رجل الشارع" . ليست القسوة ما يميز خواطر العروي، وانما الدقة أيضاً في تذكر التفاصيل واحاطتها بالأهمية اللازمة. إذ كثيراً ما تصبح التفاصيل ذات قيمة داخل الكتاب في الوقت الذي تتحول فيه الأحداث المهمة الى مجرد أحداث عادية بعد نزع تلك الهالة التاريخية الشبيهة بالقدسية عنها وطرحها على أرض الواقع. قوة الكتاب أيضاً سيأتي من قدرته على السفر بالقارئ حول العالم. قراءة "خواطر الصباح"، خصوصاً بالنسبة لجيل السبعينات، يمكن ان تتحول الى رحلة تاريخية حول العالم. وتبقى الحاجة الى مثل هذه الكتب ضرورية. خصوصاً في الفترة الراهنة، حتى لا تتحقق مقولة تشيرشل الكارثية: "تمر الأيام وينسى أبناء العرب ما حدث!".