"الفلسفة في مسارها" كتاب جورج زيناتي الجديدالأحوال والأزمنة للطباعة والنشر، بيروت 2002 يحاول ان يعيد الفلسفة الى مسارها أو ان يعيد الى الفلسفة مسارها. علماً ان الفلسفة لم تضل مسارها يوماً ما في ما أعلم. بل ان دراستها هي التي كانت تبحث دائماً عن مسار. كأن زيناتي يقر بذلك منذ الصفحات الأولى حين تناول في شكل متجدد نشأة هذه المسماة فلسفة وكأنه يعيد التساؤل بعد هيدغر عن الصعوبة التي تعترض باستمرار كلما تناول الأمر نشأة هي الأصل أو طريقاً مسلوكاً هو المسار في الزمان أو في المكان. وفي كل الأحوال لا يطيل زيناتي التساؤل وهو يحسم الأمر بخصوصية ما يسمى فلسفة متمايزة عن الفكر وعن الثقافة وعن المسالك العلمية التي يتخذها شعب أو جماعة عبر مسارهم التاريخي وعبر إقامتهم في رقعة جغرافية محددة. وبعد استعراض شمل أهم ما قيل في النشأة المكانية يزى زيناتي ان الفلسفة الحق لا يمكن ان تكون تأسست إلا مع أفلاطون ومن ثم مع أرسطو. وكأنه يقول ان الفلسفة التي لم تكن تكوّنت ضمن نظام متناسق لا تستحق هذا الاسم ثم أنه لا ربط للفلسفة إلا بالعلم والتفكر بالعلم وبالطبيعة وما بعد الطبيعة. مع هذا النوع من التفلسف تأسست الفلسفة واتّخذت لنفسها محاور متعددة كالبحث في الدين وفي الأخلاق وفي المعرفة. وفي طريق تدرجي يظهر زيناتي انطلاقاً من تعريف الفلسفة أو ما وضعته لنفسها تعريفاً. وهذا التعريف مع ما اتخذه من تطورات ظلّ أميناً لوضعيته الأساسية بصفتها الضمير الذي يحدد أسس توجه البشرية في مرحلة من تطورها هو اليوم أكثر حاجة لا تنتفي ولا تنتهي من أي وقت مضى، ناهيك عن التحوّل الحاد في معالجتها إذ هي ترسم للإنسان موقعه في الكون وطريقة تحرره من ذاته ومن الخارج وحتى من العلم. اللافت ان زيناتي يخرج مباشرة من إطار التعريف والإشارة الى الفلسفة تأسيساً وتكوّناً الى مسار آخر، هو المسار الذي اتخذته في ضيافة العرب ماراً بسرعة على حواضر أخرى غنية بالاسكندرية وروما. مع الاشارة ايضاً الى ان معالجته الموقع الأول الإغريق برزت من خلال إظهار مقومات التفلسف وأسبابه ومن خلال عبور سريع أقر بعده بأسبقية هذه الحاضرة عبر أبرز ممثليها. وعن الفلسفة العربية يزيح زيناتي ما ألصق بها من تهم أبرزها صلتها بالفلسفة اليونانية، أي تلك الصلة التي تفصلها عن محيطها وتجعل منها مجرد فلسفة آخذة ومجرد توفيقية لا أصالة لها. ويشير الى ميزتها كفلسفة موحدة على رغم تباعد أقطار وجودها ومشارب أصحابها والى توحدها عبر اللغة العربية لغة فلسفية وحيدة كتبت بها على رغم كل العقبات بل عبر تجاوز كل العقبات. الا ان زيناتي لا يقف كثيراً عند أعلام هذه الفلسفة وبانتقائية مدروسة يركز على الفلسفة كما برزت في المغرب وعبر أعلام محدودين ليؤكد بذلك صلة الوصل الممكنة لها بالغرب أي بامكانية ان تتابع الفلسفة مسارها. ومن هنا كان خيار ابن رشد ممثلاً، وكان على زيناتي ان يبرز الوجوه المختلفة التي عرف بها هذا الفيلسوف. فهو الأرسطي وهو الشارح وهو الآخ موقفاً من الفلسفة والدين والنخبة والجمهور وكلها وجوه تلقفها الغرب في حقبه الشتى وعلى اختلاف مذاهبه وهو الذي لم يكن الحاضر في العصور الوسطى فقط بل استمر حضوره في عصر النهضة وفي أكثر من حاضرة علمية من ايطاليا الى اسبانيا الى فرنسا. وتجدر الاشارة الى ان زيناتي ركّز على الفلسفة الانسانية التي ظهرت في عصر النهضة والتي تجلّت عند الكثر من المفكرين من آباء الكنيسة الى المفكرين الأكثر تحرراً. وعلى هذا الجانب الانساني إن صحّ القول ركّز زيناتي ايضاً في فصله اللاحق عن ديكارت من دون ان يهمل، بالطبع خطوط مدرسته العامة وشكه ومقولته في المنهج وفي المعرفة لكنه وقف ايضاً ومطولاً عند مقولات أخرى مثل الديموقراطية والحرية وعلاقة الفلسفة بالمحيط، مشيراً الى ان هذا الجانب ظلّ أو يظلّ الأبقى في فلسفة كفلسفة ديكارت لا لأنه بشر بذلك وإن لم يكن أول، بل لأن مثل هذه المواضيع هي التي تظلّ شغل الانسان بالفلسفة إن لم تكن شغل الفلسفة بتجريدها وبمواضيعها الماورائية. ومن هنا كانت اللفتة الاخرى الى الأثر الديكارتي في الفكر العربي المعاصر من طه حسين الى عثمان أمين أو سواهما. لكن اللافت ايضاً هو ذلك الربط وأقول الربط الجيد بين الفلسفة وهموم العصر من الناحية الثقافية والسياسية. وقفز زيناتي من وضوح العلاقة بين نظرة وموقف سياسي أو اجتماعي يعتبر جديداً الى حد بعيد ويؤكد اتساع المجال الفلسفي الذي يضيقه الدارسون الى حدود النظريات وتفاصيلها ومتفرعاتها. مع الإشارة ايضاً الى فلاسفة الأنوار والتجريبيين ومع كانظ وهيغل وسواهم. ويبرز اهتمام كانط بالأمر السياسي والاجتماعي من خلال ما عرف عنه من نبذه الحرب وتقديمه مشروعاً للسلام الدائم يرتبط بفلسفته الاخلاقية وبالآفاق التي انفتحت في عصره مقدماً بذلك النصيحة تلو الاخرى. أو لنقل الحجة تلو الاخرى، ما يفتح الباب أمام نقاشات اخرى كان المستقبل كفيلاً بتحقيق بعضها مثل انشاء هيئة الاممالمتحدة أو سواها. لكن الأهم هو ان التركيز على قيم الحرية والشفافية وقوة الفعل الديموقراطي الجمهوري جاء ليؤكد ان الفلسفة التي تضع كرامة الانسان في مقدّم اهتمامها هي الفلسفة الجديرة في أن تكون فلسفة كل يوم. واذا كان للفلسفة ان تستمر مع هيغل فهي معه تبدأ ايضاً مساراً جديداً إذ يصبح التاريخ مجال الفلسفة وما كان تجريداً في الأساس يصبح ححدثاً هنا ويصبح للحقيقة موقعها لا في العقل المجرد كأداة بل في العقل الذي بنى تاريخه من خلال العمل والممارسة مع ما يرافقهما من نجاح ومن فشل ومن بؤس ومع ما يرتبط بهما من حرية ومع ما يستلزمان من مؤسسات كالدولة مثلاً. فزيناتي لا يحاول تلخيص فلسفة هيغل ولا سواه متعمداً فصل الفلسفة وردها الى مجرد تاريخ أفكار بل هو يجعل منها ذلك التاريخ الحي المترابط مع لحظات صنعها ولحظات استمرارها مع ما يستوجب ذلك من نقد لا يتأخر بتمريره من مثل انتقاده الفهم الاجتماعي الذي أبداه هيغل إزاء المجتمعات الشرقية، أو من خلال تفسيره لظاهرة الإرهاب أو لفكرة الإرهاب. وهو موضوع يثار كثيراً هذه الأيام. ويعمد الى ربط مفهومه بالحرية الفردية وبعمل الدولة أو بصيغة الدولة كدولة تمثل تمظهراً معيناً من تمظهرات العقل، ومن نفي الحرية عن الآخر. لعل ما يقدّمه زيناتي في هذا الفصل الموجز عن وقوع الدولة في مأساة "الإرهاب" هو فصل يرتبط بإرهاب الدولة الذي يرفض كل آخر ويرفض الاختلاف ويعطل العمل الحقيقي للحرية والوعي. ولا تختصر الدراسة هيغل بهذه الافكار الا ان إيثاري اختيارها دون سواها إنما يؤكد على حرص الدراسة ان تكون أكثر التصاقاً بالواقع. هذا الواقع الذي أكد زيناتي ايضاً على حضوره الكلي تاريخاً ووعياً، بل ان الحقيقة التي نظن أنها مثالية عند هيغل هي في الواقع أكثر التصاقاً بالانسان تاريخاً وصناعة للتاريخ حتى لو كان الانسان العادي عاجزاً عن إدراك ذلك. هذا التوجه نحو التاريخ سيستمر ايضاً مع ماركس مع إدخال عناصر اخرى رديفة كالعمل والعلاقات الاجتماعية وكيفية انتاج أو تطور بنى الإنتاج. وعلى هذا النسق يستمر زيناتي باستعراضه أعلام الفلسفة اللاحقين متوقفاً فقط عند خصوصية كل منهم وعند الجديد الذي يستوقفه كمعاين لمسار الفلسفة التي تسير باستمرار وتعين مسارها بنفسها. و"بنفسها" قد لا تكون الكلمة الصحيحة تماماً. فالواقع ان الكتاب أبرز استمرار علاقة الفلسفة بالعلم أي بالتطور وبالتقنية وضرورة ان تستوعب الفلسفة باستمرار المرحلة التي هي فيها لتستطيع ان تتقدّم والا كان الحكم بلا جدواها حكماً مبرماً. من هنا ظلّت الفلسفة على رغم ما عانت من عقبات تسير نحو آفاق جديدة. وبحلم الرائي يرى زيناتي ان ذلك لن يتوقف. ستتغير الموضوعات والطروحات وسننتقل من الذات والموضوع الى الحياة والعالم والى فلسفة معاشة والى فلسفة حياة والى تأويل لا يجعلنا الا داخل الفلسفة لأنه داخل وعينا مشكلتنا ووجودنا ومستقبلنا. قد يكون زيناتي اختار مواضيعه فأهمل بعض النظريات أو بعض التقنيات أو حتى بعض التفاصيل عند هذا الفيلسوف أو ذلك إلا أنه اتبع خطاً موحداً الى حد بعيد. إذ هو اعتمد إبراز اللحظات التي جعلت الفلسفة تنتقل من عصر الى عصر، ومن مذهب الى مذهب أو من اتجاه الى آخر، مؤكداً في هذا الصدد وبالتفاتة جيدة لا تجعل من الكتاب دراسة في تاريخ الفلسفة بل دراسة في الفلسفة، على حوارية الفلسفة. "فالفلسفة ليست تاريخها وعلينا تجنب اختزالها دوماً الى ماضيها. الفلسفة حوار دائم حوار في الحاضر حول معنى حياتنا ووجودنا وهدف عملنا بل وكذلك حول معاناتنا وآلامنا". الفلسفة لا تكون إلا معاصرة دائماً مهما ابتعدنا عنها بالزمان أو ابتعدت عنا بالمكان. والمشكلات التي تعالجها لا تختصر بحصرها ضمن النظرية وكأن القول فيها انتهى وبات لازماً الانتقال من نظرية الى اخرى. الفلسفة حوار دائم ومواضيعها تتجدد باستمرار والكلمات الكبرى مثل الديموقراطية والحرية والنظام والسلطة ليست الا التوصيف لارتباط الانسان بواقعه وبموضعه في العالم. هذا الموضع الذي شهد تحولات جذرية منذ عصور النهضة ولا يزال. كل ذلك يعاينه زيناتي ليؤكد على راهنية الفلسفة وإن كانت استعملت كلمة قد لا يحبذها فإن الكتاب بجملته أثار فيّ كما في القارئ العربي على رغم صيغته المنهجية أو الانتظامية، فضول التعرّف الى الفلسفة بعين جديدة. يبقى ان أشير الى بعض الصفات الاخرى ومنها ان الدكتور زيناتي يوضح تعابيره باستمرار وينحت مشتقات جديدة، مع عدم احتفاظه كلياً بها فهو مع اليوتوبيا ضد الطوباوية ولكنه يستعملها واعتقد مع جر القلم ليس إلا. عدا ذلك تمتاز الدراسة بأمرين أولهما انه يختار من حياة الفلاسفة لحظات معينة فلا نجد توسيعاً لحياتهم بل إشارات الى هوايات معينة أو الى علاقات معينة أو الى مراحل حاسمة تشكل التفافاً على مرحلة سابقة أو انبثاقاً لمرحلة جديدة. لكن الأهم من ذلك كله هي في نظري سيظل ماثلاً في تلك النزعة التفاؤلية التي يتسم بها الكتاب ككل، مما أزاح عنه الصبغة التقريرية وأظهره كتاباً في الفلسفة كتب بكثير من الحب وبكثير من التقدير "لأم العلوم".