نتجرأ على القول ان القمة العربية في بيروت نجحت لأسباب عدة. لكن، قبل التعرّض لهذه الاسباب علينا التأمل في المنطق الغامض الذي يسيطر على جزء كبير من الخطاب العربي الذي ينتقد القمم العربية والعمل العربي المشترك، وهو منطق ينطوي على تناقض بارز: فمن ناحية ثمة إدراك لمدى القدرة العربية وللعجز العربي الراهن يقر به الجميع، ومع ذلك ثمة مطالبات تتجاوز سقف هذه القدرة، وتتغافل عن ذلك العجز بطريقة مثيرة للاهتمام والتعجب. وبهذا فمن الصعب مواءمة الأحكام المطلقة على هذه القمم، أو أية اجتماعات أو قمم أخرى، على ما يسلم به من يطلق تلك الاحكام ابتداء من بديهيات راهنة. وعلى رغم ذلك يبدو ناقدو القمم العربية كأنهم يعلّقون آمالاً عظاماً عليها لجهة اجتراحها المعجزات، والكل يعرف حدود القدرة العربية الراهنة، لدى الشعوب، أو النخب، أو الحكام. لهذا فمن غير المنطقي ولا العقلاني توقع ما لا يمكن توقعه من القمة. بل ان رفع سقف الآمال والتوقعات قبيل انعقاد أي قمة مضر سياسياً ونفسياً وحتى وحدوياً، ويثير الإحباط تلو الإحباط. لقد انتهى عصر المعجزات، وربما يمكن القول انه لو تسلم الحكم في كل دولة عربية أكبر ناقد للحكم فيها فانه لن يستطيع تغيير ما ينتقده الآن من سياسات النظام الذي يعارضه الا بدرجات ضئيلة وقد لا تكون محسوسة. ومع التأكيد على ان هذا الكلام لا يعني بحال الدفاع عن الأنظمة العربية وعجزها، أو تبرير قعودها، فإن ما يقصد قوله هنا انه على رغم التوقع الصحيح بأن ما بات يصدر عن القمم العربية أصبح متواضعاً ومحدوداً جداً، لكن مجرد انعقاد هذه القمم في حد ذاته في هذا الزمن العربي الرديء يعتبر انجازاً يجب المحافظة عليه. والدعوات اليائسة والتيئيسية ضد القمة لا تخدم الاهداف العربية، ولا القضايا العربية بأي شكل من الاشكال، بل إنها للمفارقة، تلتقي مع النفور الأميركي الذي باتت تعبيراته علنية تجاه الانعقاد الدوري للقمة العربية. والقول إن القمم العربية تكشف الخلافات العربية - العربية وتفضح العجز العربي وان غيابها أفضل من التئامها هو قول مردود، اذ ان الخلافات العربية ليست سراً على أحد، والشقاقات بل الكراهيات المتبادلة احياناً لا تحتاج الى جهد عبقري لاكتشافها، لكن، مرة أخرى، يبقى ان وضع الخلافات على الطاولة ومعالجتها، مع كل الألم المرافق، أفضل ألف مرة من طيها تحت الطاولة والإبقاء عليها عرضة للتعفن الطويل الأمد الذي يفاقم الضرر، ومن ثم يزعم ان الامور على ما يرام. لقد آن الآوان لنقول "بالفم المليان" ان الامور ليست على ما يرام، وان أول الدواء لأمراض العمل العربي المشترك هو الكيّ، والكيّ يبدأ في بيت العرب، الجامعة العربية، التي تتلقى سهام النقد من اليمين ومن الشمال. فهذه الجامعة باتت محل تجريح الصديق والعدو كأنها خطيئة العرب الأولى وسبب كل مآسيهم. واذا كانت الجامعة العربية، مؤسسة ورمزاً، ضارة بالعرب ودولهم وسياساتهم وتسبب لهم كل هذا الضرر الذي يتم الحديث عنه، فلماذا تستهدفها اسرائيل والولاياتالمتحدة، ولماذا تثير نقمة كل السياسات والافكار المنادية بالشرق أوسطية كبديل من العروبة والقومية في المنطقة؟ اذاً، وقبل ان نتناول قمة بيروت علينا ان نتّفق انها قمة عقدت في حقبة عربية سوداء، حدود الفعل العربي فيها معروفة سلفاً، والتوقعات التي كان علينا ان ننتظرها منها معروفة سلفاً ايضاً. على هذه الخلفية يمكن الادعاء بأن قمة بيروت نجحت، وأنها خرجت بقرارات ونتائج مضادة للرغبة الأميركية وأنها ليست أملاءات أميركية، للاسباب التالية: أولاً: على الصعيد الفلسطيني، دعمت القمة ديبلوماسياً وسياسياً ومالياً الموقف الفلسطيني بشكل جماعي، وتبنت مبادرة الأمير عبدالله بعد ان عدلتها وأضافت إليها قضية اللاجئين موفرة للموقف العربي موقعاً بارزاً وواضحاً ومحرجاً للولايات المتحدة واسرائيل، وهو موقف لا يعتبر هدية لاسرائيل كما يتهمه البعض، بل انه يضعها ويضع الداعم الاميركي لها في زاوية حرجة، ويكسر احتكار واشنطن ولو جزئياً لملف التسوية واقتراح الافكار والمبادرات فيما الاطراف العربية تتلقى تلك الافكار وتعلق عليها فقط. وعلينا ان نتذكر ان واشنطن واسرائيل غاضبتان في الجوهر من المبادرة السعودية، المجمع عليها عربياً الآن، لأنها تتطلّب رداً واضحاً من الولاياتالمتحدة واسرائيل وتعيد الملف الى أصله السياسي والحقوقي، وليس الأمني الذي تحاول واشنطن وتل أبيب حشر كل القضية فيه. الأمر الآخر المهم هنا هو ان هذه المبادرة ستقوي الموقف الاوروبي والروسي وتزيد من تعرية الموقف الاسرائىلي دولياً، وتوفّر تغطية ديبلوماسية مهمة ومطلوبة للانتفاضة وللمقاومة الفلسطينية. ثانياً: على صعيد الملف العراقي - الكويتي، نجحت القمة لأنها حققت ما لم يتحقق من عشر سنوات على هذا الصعيد، وستكون قمة بيروت معلماً بارزاً في تاريخ تسوية هذا الملف. فالإعلان العراقي الخطي بالالتزام بعدم تكرار الاعتداء على الكويت ما كان ليكون لولا توفر اجتماع عربي يسهل على بغداد "ابتلاعه". ولم يكن من المتوقع ان يتم مثل هذا الاعلان في اجتماعات ثنائية، أو في أجواء غير أجواء الجامعة العربية واجتماعات القمة التي توفّر قدراً من المناخ المشجع على مثل هذه الاعلانات، وكأنما تقدم للعرب جميعاً، وليس فقط للطرف المعني، خصوصاً إذا أخذنا بالاعتبار جهود الأطراف العربية مجتمعة في إنجاز التصالحات والمساومات. وأن يصدر عن الرسمية الكويتية تصريحات تقول أنها راضية باللهجة العراقية الجديدة فمعنى ذلك ان عقبات حقيقية تمّ تجاوزها، وأن الخطوة الأولى في طريق الألف ميل على تسوية العلاقات العربية - العربية وتحديداً، العراقية - الخليجية بدأت. كما ان المصالحة العراقية - السعودية، عناق الأمير عبدالله ولي العهد السعودي مع عزة ابراهيم نائب الرئيس العراقي، لا تقلّ أهمية عن مصافحة الوفدين العراقيوالكويتي وبداية التصالح. ثالثاً: الإعلان العربي المشترك والحازم بمعارضة أي ضربة عسكرية للعراق هو بالتأكيد خطوة كبيرة لا تتيح لأحد ان يتصيد في المياه العكرة. والمقولات الأميركية السياسية والإعلامية التي تكررت في الأيام الأخيرة، خصوصاً في أعقاب جولة ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي للمنطقة، بأن الزعماء العرب يقبلون ضرب العراق سراً ويعارضونه علناً، القصد منه تمهيد الأجواء لضرب العراق أكثر منه الحديث عما يتم في الاجتماعات الثنائية مع الزعماء العرب. وقرار القمة يأتي في هذا السياق ليزيد من حرج الولاياتالمتحدة ويضعها على خلاف في الرأي والممارسة مع الدول العربية مجتمعة، ويبقى لو اكتمل القرار العربي بالتأكيد بوضوح على منع استخدام أي أرض عربية أو قواعد أميركية على أرض عربية لضرب العراق لكان زاد في احراج الموقف الأميركي. رابعاً: أتاحت القمة للديبلوماسية العراقية تتويج النشاط والجهد الذي بذلته في سبيل تفادي الضربة الأميركية المتوقعة وقطع الطريق على واشنطن للمضي في أهدافها. وربما ينجح العراق هذه المرة من خلال عقلنة خطابه السياسي تجاه الكويت والسعودية وحشد الموقف العربي حوله ضد الضربة الأميركية المخطط لها في إجهاض تلك الضربة والتوفير على الشعب العراقي موجة أخرى من موجات التوحش الأميركي. بعد ذلك، وبالنظر الى النتائج وبجردة حساب سريعة يمكن القول أنه من الظلم اتهام قمة بيروت بالفشل، وهي حقاً من أنجح قمم العرب في العقد الأخير من السنين. * كاتب فلسطيني مقيم في بريطانيا