ساعات قليلة ويلتئم عقد مؤتمر القمة العربية في بيروت وسط حال من الترقّب والانتظار ليس في العالم العربي فحسب بل في العالم كله بفعل تسارع الأحداث وتأزّم الأوضاع ورفع سقف التوقعات بعدما تحوّلت المبادرة السعودية للسلام في الشرق الأوسط الى مبادرة عربية شاملة تحظى بدعم عالمي شامل بعد قرار مجلس الأمن الأخير. ومجرّد عقد القمة في ظلّ التأرجح بين حالي السلام والحرب، والتفاؤل والتشاؤم، يعتبر حدثاً مهماً بحدّ ذاته بعدما تعرّضت سمعة القمة للاهتزاز تارة والاستهزاء تارة أخرى على اعتبار ان نتائجها معروفة سلفاً، وان قراراتها ستبقى حبراً على ورق ولن تخرج عن خطاب القمم السابقة ولغتها الانشائية وتعابيرها المتراوحة بين الشجب والتنديد والاستنكار. وبيد القادة العرب هذه المرة ان يردوا عنهم التهم، ويعيدوا الاعتبار الى مؤسسة القمة وسمعتها وكرامتها ويؤكدوا للجماهير العربية والعالم أنها مؤسسة فاعلة تتّخذ قرارات حاسمة وحازمة، وتحترم تواقيع أصحابها وكلمتهم، وتنفّذ ما تعد به في فترة زمنية محددة من دون مماطلة ولا إهمال. وبيد القادة العرب هذه المرة ان يضعوا حداً لحملة استمرّت عقوداً لتهشيم سمعة مثل هذه المؤتمرات وتهميش دورها في القضايا المصيرية والأحداث الخطيرة. وبيدهم أيضاً مفتاح النجاح في استعادة ثقة الجماهير العربية من المحيط الى الخليج وإنهاء حال القطيعة واللامبالاة المتأصلة في نفوسها الجريحة وكرامتها المهدورة. كما أن ب يدهم استعادة احترام العالم لمؤتمراتهم وخشيتهم من مواقفهم وعمل ألف حساب لقراراتهم وألف حساب آخر للجدية والحزم في تنفيذها مهما كانت الصعاب والنتائج، ومهما اشتدّت الضغوط وعمليات الترهيب والترغيب التي تعوّدنا عليها، ولم يعد خافياً على أحد كيف ومتى... ومن يمارسها على القادة العرب كلما اقترب موعد عقد أي قمة. ساعات قليلة وتعيش بيروت أياماً تاريخية لم تشهد لها مثيلاً، وتسهر للمرة الاولى منذ استقلال لبنان على راحة قادة الأمة العربية بعدما منحت شرف استضافة قمّتهم بلفتة كريمة من رئيس دولة الإمارات العربية الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان عندما تنازل عن دور بلاده، بحسب العرف والترتيب الأبجدي، تعبيراً عن محبة العرب للبنان وتقديرهم لدوره ومعاناته وصموده في وجه الاحتلال الصهيوني. وقبل أيام من عقد القمة، سمعنا وقرأنا الكثير من التحليلات والتوقعات والتكهنات والتسميات: بعضهم توقّع ان تكون قمة تاريخية، وثان قال إنها ستكون قمة حاسمة وحازمة، وثالث أكد أنها قمة مصيرية، بينما ذهب المتشائمون بعيداً في إشاعة أجواء اليأس والنقد وجلد الذات الذي تعوّدنا عليه منذ أكثر من نصف قرن، فيما استقرّ العنوان الرسمي لها على تسمية: "قمة الحق العربي". وعلى رغم تصارع كل هذه المذاهب والآراء والمواقف والتوقعات فإن التجارب علّمتنا ألاّ نستبق الأحداث ولا نرفع سقف التوقعات، وأن نكون متواضعين في تطلعاتنا: نقبل بالحد الأدنى من الاتفاق والتضامن والقرارات العملية شرط ألاّ تبقى حبراً على ورق وألاّ تنتهي القمة الى فشل ذريع والى إشعال نار خلافات جديدة وحساسيات ناجمة عن أجواء جلسات المناقشات. ومن يعود قليلاً إلى الوراء يجد أنه ليس صحيحاً ان كل القمم العربية كانت فاشلة وغير مجدية أو ان نتائجها لم تخدم قضايا الأمة وتحقق الحد الأدنى من التضامن والقرارات. صحيح ان تطلعات الجماهير كانت على الدوام أكبر من قرارات القمم، وان آمالها خابت مرّات من بعض القمم الفاشلة التي انتهت بخلافات وقطيعة. إلا أن مؤتمرات قمة أخرى كانت جيدة ومهمّة من حيث توقيت عقدها وقراراتها المصيرية ونجاحها في وقف التدهور وحال الانهيار التي كادت تتعرّض لها الأمة العربية. وللتذكير فقط أشير، على سبيل المثال لا الحصر، الى القمم الآتية: قمة الخرطوم الشهيرة التي عقدت عقب هزيمة الخامس من حزيران يونيو 1967 وكانت الخلافات العربية على أشدها والحروب العربية - العربية مشتعلة على أكثر من جبهة، ولا سيما حرب اليمن. وشكّل عقدها مفاجأة مذهلة للأعداء والكثيرين الذين ظنّوا ان العرب هزموا وانتهوا بعد ان حطّمت اسرائيل كرامتهم قبل ان تحطّم جيوشهم، وجاءت نتائجها لتبرهن للجميع على مقدرة العرب في النهوض والتصدي للعدوان والتضامن في وقت الشدّة والأزمات. وجسّد لقاء الزعيمين التاريخيين الملك فيصل بن عبدالعزيز وجمال عبدالناصر إنجاز طي الخلافات وعودة التضامن العربي في أبهى صوره، ومعه رد فعل كان ضرورياً في توقيته ومعانيه كوقفة عزّ تمثّلت في الإجماع على اللاءات الثلاث التي اشتهرت بها قمة الخرطوم: لا للاعتراف ولا للمفاوضات ولا للصلح مع اسرائيل وإقرار دعم عربي سنوي لدول المواجهة. قمة الرباط 1975 التي اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني بعد ان تسامى الأردن فوق الجراح وتنازل عن حقّه في المطالبة باستعادة الضفة الغربيةالمحتلة التي كانت جزءاً وجناحاً من جناحي المملكة الأردنية الهاشمية. كما سبقتها قمة القاهرة عام 1970 التي نجحت في طيّ صفحة مظلمة في العلاقات الأردنية - الفلسطينية. قمة القاهرة ثم الرياض 1976، ثم قمة الرباط التي تكرّست فيها على مراحل جهود إنهاء الحرب اللبنانية بعد إرسال قوات الردع العربية ثم تشكيل لجنة ثلاثية للوساطة توّجت أخيراً باتفاق الطائف الذي نجح في إحلال السلام في لبنان عام 1990 بعد حرب دامية استمرّت أكثر من 16 عاماً. قمة فاس الأولى وفاس الثانية 1982-1983 التي أقرّ فيها بالإجماع مشروع الملك فهد بن عبدالعزيز للسلام في المنطقة ليتحوّل الى ما عُرف باسم "مشروع السلام العربي الموحّد". قمة القاهرة عام 1990 بعد الغزو العراقي للكويت ونجاحها في منع حدوث شرخ عربي هائل وإقرارها حق تحرير الكويت بالقوة حتى ولو استُعين بقوات أجنبية. ويجمع المحللون على ان هذه القمة لو فشلت، لأدى فشلها ليس إلى زوال الكويت فحسب بل الى دخول المنطقة في دوامة حروب عربية - عربية لا نهاية لها، تعتبر حرب داحس والغبراء نقطة في بحر دمائها وأهوالها. هذه الأمثلة أسوقها للمقللين من شأن القمم العربية والمتشائمين منها والمشاركين في عملية تهشيم سمعتها. ولا أدّعي التفاؤل وأبالغ في توصيف التوقعات من القمة العتيدة أو وصفها بالتاريخية كما فعل غيري، بل أكتفي بالقول انها ستكون قمة الهواجس والآمال والمبادرات أو على الأقل المبادرة الرئيسية للسلام من أجل رمي الكرة في الملعب الأميركي والاسرائيلي وتأكيد جدّية العرب في استراتيجية السلام ورفض تحميلهم مسؤولية أو أوزار ونتائج الفشل وما سينجم عنه من كوارث وانفجارات. ولا بد من التذكير ايضاً بعوامل مهمة ترتبط بها هذه القمة وتميّز عناوينها من حيث التوقيت والأحداث المتسارعة والتطورات المرتقبة التي يخشى الكثيرون من آثارها وانعكاساتها وامتدادات لهيب نارها، وأذكر من هذه العوامل: - انها القمة الأولى بعد تفجيرات نيويورك وواشنطن وما يسمّى بالحرب ضد الارهاب وما تبع ذلك من انعكاسات غيّرت وجه العالم وأعطت الولاياتالمتحدة المبرّر والذريعة لتشديد قبضتها وتكريس واقع أحادية القوة الذي برز بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وزوال الشيوعية وإسدال الستار على الحرب الباردة. - إنها القمة الثالثة التي تُعقد بعد قمتي القاهرة وعمان، في إطار العودة الحميدة للعقد الدوري السنوي، وسط ضغوط هائلة كادت تعصف بها وتجمّدها حتى إشعار آخر. - انها القمة الأولى التي تعقد في بيروت اذا تجاوزنا قمة شتورا الطارئة عام 1960 وبضيافة لبنان الذي حسم الجدل حول وجهه العربي بعد حرب دامية استمرّت 16 عاماً، وتأتي هذه القمة لتتوّج هذا التوجّه وتعطي لبنان حقّه من التكريم بعد تحرير أراضيه المحتلة ونجاح مقاومته في دحر العدوان الاسرائيلي. ولا بد من التذكير بأن لبنان دفع ثمناً غالياً للصراعات العربية على أراضيه وتحمل أكبر قدر من الأعباء في الصراع العربي - الاسرائيلي منذ عام 1967، ولهذا لا بد من ردّ الجميل إليه وتنفيذ الوعود والتعهدات التي قطعتها الدول العربية له ومدّ يد العون وتقديم المساعدات العاجلة وإعفائه من الديون المستحقة عليه حتى يتمكن من اجتياز مرحلة الخطر وتجاوز محنته المالية الحالية. - تعقد القمة في ظل أحاديث ومخاوف وتوقّعات وتهديدات بقرب تعرّض العراق لضربة عسكرية واسعة من أجل إسقاط نظامه. وهذا يستدعي اتخاذ موقف عربي واضح ومحاولة ايجاد مخرج لانقاذ ما يمكن إنقاذه. إن بإقناع العراق بالالتزام بالقرارات الدولية وقبول عودة المفتشين الدوليين أو بايجاد صيغة عملية للاتفاق على إنهاء ما يسمى ب"الحال بين العراق والكويت" وردم الشرخ الناجم عن الغزو العراقي عام 1990 وحلّ مشكلة الأسرى والمفقودين الكويتيين. أخيراً... وأولاً: تعقد هذه القمة تعقد وقضية فلسطين تمرّ بأخطر مراحلها ونضال الشعب الفلسطيني على مفترق طرق بعدما تجاوز العدو الاسرائيلي كل الخطوط الحمر وتمادى في غيّه وعدوانه ونسفه كل جهود السلام ما يستدعي الردّ عليه بوقفة عربية موحّدة وقرارات حاسمة لدعم الشعب الفلسطيني مادياً ومعنوياً وسياسياً وتتويج هذا الدعم بتبني مبادرة الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد السعودي للسلام الشامل وتحويلها الى مبادرة عربية موحّدة بعدما أجمع العرب والعالم على الترحيب بها واعتبارها أنها جاءت في الوقت المناسب لانقاذ الشعب الفلسطيني وردع العدوان الاسرائيلي ودفع الولاياتالمتحدة الى وقف انحيازها الى اسرائيل وإلزامها، مع دول أوروبا وروسيا والعالم أجمع، بتحمّل مسؤولياتها والضغط على اسرائيل وتبنّي عملية السلام العادل والكامل على أساس قرارات الشرعية الدولية ومبدأ الأرض مقابل السلام ومرجعية مؤتمر مدريد واحترام حق الشعب الفلسطيني بإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس. بكلام مختصر، القمة المقبلة ستكون قمة المطالب الكثيرة والآمال الكبيرة بايجاد حلول للقضايا المطروحة، من فلسطين الى التضامن العربي، ومن السوق المشتركة الى المشكلات الحياتية اليومية للمواطن العربي... مطالب كثيرة... والمطلوب واحد هو اتفاق القادة العرب على موقف موحّد، وقرار واحد، وبرنامج عمل مشترك، وآلية تنفيذ عملية ولو في الحدود الدنيا من أجل كرامة العرب ومصالحهم وسمعتهم ورغبتهم الأكيدة في استعادة الثقة بأنفسهم وحاضرهم ومستقبلهم. ثم من أجل استعادة احترام العالم وخشيته من غضبتهم حتى تصبح إسماً على مسمّى: "قمة الحق العربي". * كاتب وصحافي عربي.