تستقبل قاعات متحف الفن المعاصر في معهد العالم العربي في باريس وابتداءً من التاسع من شباط فبراير نماذج مختارة من مجموعة "كنده" السعودية الرياض الخاصة بالفن العربي المعاصر، وسيستمر العرض حتى السابع من نيسان ابريل المقبل. يعتبر المعرض فرصة نادرة للإطلاع على هذه المجموعة التي طرقت شهرتها الأسماع مثل مجموعة الشيخ حسن آل ثاني في قطر وجمعت عائلتها الفنية من آفاق متباعدة، من مراسم الفنانين وشتى مواقع الإقتناء التي تتحرّك في مساراتها اللوحة، ما بين أوروبا والبلاد العربية. يقول عادل منديل "ان الرغبة في الإقتناء قامت على عشق اللوحة بالذات ومحبتها أكثر من الرغبة في التجميع، وهذا ما نلمسه في ندوة الأعمال واستثنائية مستواها الفني، تكاد بردية آدم حنين تكون من أجمل ما صوّر في هذا المجال، أنجزها عام 1948 بعد ان وصل في تجريدها البنائي الى لبّ الخصائص الفرعونية". برزت المدرسة العراقية في مجال التجريد، فكانت لوحتا شاكر حسن آل سعيد من أثمن جدارياته العدمية المنهوشة بالإشارات. وكانت لوحة عبدالكريم رسن العملاقة فرصة لعقد المقارنة والقران بين المعلم والتلميذ الرهيف الموهبة، وأعادت تجارب مهر الدين أبهى نماذج أحداثه الغرافيكية وملصقاته العاصفة. وفي المقابل عثرنا الى جانب أمثالها على تجريدات تعيش نجاحات "الغنائية" التي طويت صفحتها في بداية الستينات بخاصة بعد ثورة باريس 1968. تعثّر بها على الأغلب حفارون، يسقطون روح الطباعة على المادة الصباغية الحدسية. هو ما نلاحظة في لوحة عمر خليل. كذلك كان للتجريد اللبناني دوره الوضّاء من خلال لآلئ شفيق عبود الغنائية ودرتي صليبا الدويهي. تمثل الأولى منظراً جبلياً يعود الى عام 1954 وتمثل الثانية أسلوبه الهندسي الإقليدي الذي يعتمد فيه مساحات لونية متوسطية "ومخالية" تصل الى حد التصوّف، منجزة عام 1970. واحتلت فضاءات لوحتي رفيق الكامل موقعهما الكثيف بما تعتمده من تكاثرات بيولوجية جبرية لمفردة تشكيلية لحنية. كما برزت مجموعة يوسف أحمد القطرية، واستمرت الحساسية الخليجية لدى السعودي زمان الجاسم، وغنائية البحرينية بلقيس فخرو. إذا انتقلنا الى الطرف المقابل للتجريد وهو التعبيرية العربية، المحدثة منها أو ما بعد الحداثية، عثرنا على نبرة تتفوق في خصوصيتها نسبياً على الأولى، بسبب شدة إرتباط بعضها بعمق خصائص الذاكرة الصورية المحلية. سواء الإسلامية منها أم المسيحية أم ما قبلها تدمرية - نبطية، آرامية - كنعانية الخ. نجدها أشد استقلالاً، خصوصاً بسبب ارتباطها، ليس بالفنون الشعبية أو الفولكلورية، وإنما بالنخبوية منها، على غرار ذاكرة المنمنمات والأيقونات والتصوير على العجمي أو الحفر على العاج والنحاس أو الرسم على الزجاج. تمر مساحة الحلم باتجاه خيال الظل وعرائسه أو رسوم الفلك والأوفاق والجفر كما هي تجربة عفت ناجي في المعرض، وهنا تبرز أهمية النماذج السورية من الياس زيات وفاتح المدرس وحتى علي مقوص وأحمد معلا مروراً بنزار صابور، وتحضر أصالة المغربي محمد القاسمي ووجدانياته الإنتحارية، كذلك مسرودات التونسي قويدر التريكي ورسوم العراقية سعاد العطار. من الواجب تجنّب خلط هذه التيارات النخبوية بالإبتذال الفولكلوري الذي تمثله شعيبية طلال أو تهجينية فريد بلطاهية الذي افترش مساحة سياحية في المعرض تتفوق على الآخرين من دون مبرر. ينطبق هذا الاستقلال النسبي على موضوع الرؤوس ما بين عادل السيوي ومروان وعبدالرحيم شريف مروراً برؤوس اسماعيل فتاح والبهجوري. أما الحالات البرزخية التي تقع بين حدّي التعبيرية والتجريد فأشدها سطوعاً هي حال صنياء العزاوي. إذ ان ارتباطه بذاكرة وصناعات الحضارات الرافدية والإسلامية أشد مضاءً من انفتاحه على النزعات الملونة في الغرب، وللأسف فان لوحة أرداش كاكافيان لا تمثل تراجيدية التعبيرية الحادة لأنها أقرب الى الحياكة الحلمية في الأشكال. أما منظر رمسيس يونان، فهو أجمل منافذه السوريالية باتجاه مكونات اللاوعي وتقترب لوحة فخر النسا زيد من منهج أندريه ماسون على غير عادة. تقع في هذا الموقع المتوسط ايضاً التجارب التي تعتمد على اعادة استثمار الإشارة والحرف والتعويذه والوشم وأبرزهما تجربة المغربي محمد الشرقاوي والتونسي الساحلي، أما لوحات محجوب بن بيللا فقد تراجعت خصائص حياكاته الذاكراتية بسبب تدانيه الكبير من منهج جاكسون بولوك وسواه، ولكن واحدة منها كشفت عن أصالة بحثه وماضيه الحرفي الثري. تنتسب إنشاءات تيسير بركات الى ذاكرة مناظره الفلسطينية الطوباوية، إندمجت هنا ضمن شرائح خشبية ثلاثية مشرذمة في الفراغ بطريقة نخبوية. وقد يكون فيصل سمره يحتكر حساسية المنتج ما بعد الحداثي، حيث لا حدود بين النحت والرسم، يعرض طوطحين مكورين أقرب الى معنى الموتيف المونوكروم المفاهيمي، وهو الإتجاه الذي شيّد منهجه على تجربة إيف كلين التي تغمس العمل الفني في أوقيانوس من اللون المشبع حتى الثمالة. وقد يكون فيصل سمره - على توخّيه العكس - من أشد ما بعد الحداثيين إرتباطاً بالذاكرة والثقافة المحلية. نلاحظ عموماً، ان ما أضافه الفن المعاصر العربي نسبياً الى المعاصرة العالمية هو الجانب التشخيصي من بايه محي الدين وحتى القاسمي مروراً بصلادي ووزاني وبخاصة المدرسة المصرية المتمثلة في الأجيال الثلاثة: حامد ندا - سعيد العدوي ورباب النمر، وهو ما غاب عن المعرض ولكن "المعرض لا يمثل كامل المجموعة". فقد اقتصر على 46 فناناً، اختارهم مسؤول الفن التشكيلي في المعهد. اذا كانت مجموعة "كنده" مثلها مثل مجموعة الشيخ حسن تمثل حالاً استثنائية في التوثيق الحر للفن العربي، فان دور المعهد كمؤسسة هو محاولة الوصاية، باعتبار ان تاريخ الفن العربي ملكية خاصة بالمسؤول الذي يحتل موقعاً سياسياً وفنياً.