دخل العرب الاندلس سنة 92ه/711م، وظلت البلاد حتى سقوط الدولة الاموية تحكم كولاية تابعة للقيروان عاصمة الغرب الاسلامي ادارياً وإن كان تعيين الولاة يتم في دمشق. في هذه الفترة انتقل عدد كبير من العرب والبربر الى الأندلس، وأحسب ان عدد الفريق الآخر كان الأكبر، فهم الى الاندلس أقرب وإلى الخروج من صحرائهم الى أرض يانعة أحوج. لكن هذا التنوّع السكاني جلب معه ثورات وحروباً وخصومات قيسية - يمنية، وعربية - بربرية، كان لها شأن كبير في اضطراب الامور. في سنة 756م وصل عبدالرحمن الداخل الى البلاد، وقد كان واحداً من نفر نجوا من القتل بعد زوال الدولة الأموية. عبدالرحمن أنشأ إمارة أموية. عمل قبل كل شيء على ضبط أمور البلاد، التي كانت تعمها الفوضى. إن طبيعة البلاد الاندلسية تحول دون قيام سلطة مركزية، فسلاسل الجبال والهضاب تتقاطع تقاطعاً يمكن صاحب المدينة القصية قليلاً من السير سيراً مستقلاً عملياً إن لم يكن نظرياً. لكن عهد الإمارة تخطى الكثير من الصعوبات وعرفت الأندلس أيامه ازدهاراً حضارياً كبيراً يتمثل بشكل خاص بما كانت عليه قرطبة واشبيلية من تقدم تجاري وفن معماري جامع قرطبة ومجالس أدب ودراسة علم - علم الدين والدنيا. وقد خص عبد الرحمن الثالث، الذي حكم الأندلس 300-35ه/912-961م، نفسه، فضلاً عن عنايته الفائقة بالبلاد، بأن أعلن نفسه خليفة 317ه/929م واتخذ لقب الناصر. وتبعه في سدة الخلافة ابنه الحكم 350-366ه/909-973م المستنصر. وبلغت قرطبة أيام الحكم ذروة التقدم العلمي والتجاري والاجتماعي. لكن بعد أيام الحكم اضطرب شأن الخلافة وأخفت صوتها ذلك بأن الحاجب، محمد بن أبي عامر، استبد بالسلطة دون الخليفة الصبي هشام المؤيد، ودون أي شخص آخر، فأصبح هو الذي يحل ويربط. وأكثر من الجنود الاجانب الصقالبة، وهو الأمر الذي بدأه عبدالرحمن الناصر من قبل. وقام بغزوات تقارب الخمسين ضد الاسبان في الشمال الأمر الذي بهر العامة ورفع شأنه في البلاد. توفي ابن ابي عامر، الذي كان قد تلقب بالمنصور والذي بنى مدينة الزاهرة له ولحاشيته ولجنده، سنة 392ه/1004م فخلفه ابنه عبد الملك الذي تلقب بالمظفر وظل في الحكم سبع سنوات سار فيها سيرة ابيه، ثم جاء بعده أخوه عبدالرحمن. لكن هذا جنح الى تولي الخلافة، فكانت ثمة ثورة عارمة ضده بعد ستة أشهر فقط... أفلحت في تحطيم الاستبداد العامري، لكنها أدخلت الأندلس في دوامة الفتنة التي انتهى أمرها بانتهاء الخلافة 422ه/1031م. وقد أطلقت أنا على هذه الفترة زمن ذوبان الخلافة الأموية. خلفت الخلافة دول ملوك الطوائف. بلغت هذه اثنتين وعشرين مملكة وقد عدها نيكل ثلاثاً وعشرين مملكة - البعض قد لا يزيد عن حصن وأرض واسعة تدور به. والبعض الآخر كان يشمل رقعة واسعة مثل مملكة قرطبة وسواها. هذه الفترة استمرت نحو سبعة عقود من السنين الى أن تدخل المرابطون واحتلوا الاندلس في معركة الزلاقة 419ه/1086م واحتووا عدداً كبيراً من ممالك الطوائف كانت قرطبة في القرن الرابع / العاشر قد بلغت الذروة في التقدم. فبعد ما تم لها في عصر الامارة جاءت الخلافة فأضفت عليها ثوب المجد، في تضخيم المباني وتفخيمها، على ما يبدو من جامعها، ومن القصور التي اتخذت فيها وفي ارباضها. فبنى الخليفة الناصر مدينة الزهراء وبنى المنصور الحاجب مدينة الزاهرة. والنشاط الفكري استمر تقدمه وتطوره فأصبح للاندلسيين موقف خاص من شؤون الفكر والأدب والفلسفة والعلم والطب، فانتهى أمر اعتمادهم على نتاج الشرق الفكري والأدبي والفني، وبلغ الأمر بهم ان أصبحوا ينتقدون حتى ما جاء من الشرق. ولد ابن حزم في قرطبة سنة 384 ه/994م وكان ذلك في أيام الخليفة هشام، أي في أيام أبي عامر المنصور الذي استبد بالأمر دون الخليفة. كان أبوه وزيراً لأبي عامر، ومن ثم فقد أتيح لهذا الشاب ان يحصل على ثقافة ممتازة بوصفه ابن واحد من كبار رجال الحكم. وكانت قرطبة في ذلك الوقت المدينة التي يمكن ان يتثقف فيها من كان يرغب في ذلك، فمع كل ما أصابها من اضطرابات ظلت في طليعة مدن الأندلس علماً وأدباً وفلسفة وفكراً. ولم تكن همة ابن حزم أقل مما كانت عليه المدينة من التحدي فقد بلغت همة هذا الشاب القمة في قبول التحدي فأخذ من المدينة ما فيها من أمور كثيرة فقه وحديث وشعر وأدب وفلسفة. في أوائل القرن الخامس للهجرة والسنوات الأولى من القرن الحادي عشر للميلاد حدثت في قرطبة أحداث كبيرة أدت الى اضطراب واسع النطاق وتمكن البربر من تهديم الكثير فيها وكان والد ابن حزم قد توفي 402ه/1011م فرأى ابن حزم انه من المناسب ان يترك المدينة التي أحبها والتي امتص منها خلاصة ما كان عندها من علم ومعرفة والتي تهدم فيها قصر أبيه فضلاً عن قصور كثيرة وبيوت أكثر. لذلك فقد ترك المدينة سنة 404 ه/1013م وذهب الى المريّة التي كانت مدينة كبيرة غنية الى الغرب من قرطبة. قضى ابن حزم في المريّة بعض الوقت ويبدو أنه كان بعيداً عن الأعمال السياسية، لكنه اتهم بأنه منحاز الى الأمويين وكان له صديق اسمه محمد بن اسحق اتهم معه فسجن الاثنان بعض الوقت ثم نفيا من المريّة فذهبا الى حصن القصر. لم تصل إقامة الصديقين في حصن القصر إذ نودي بعبدالرحمن الرابع الذي لقب بالمرتضى خليفة في بلنسية سنة 409ه/1018م فذهب ابن حزم مع صديقه محمد الى بلنسية وانضم الى عبدالرحمن وكان وزيراً له وقاتل الى جانبه في غرناطة. لكن خلافة عبدالرحمن لم تطل سوى بضعة شهور قتل على أثرها فعاد ابن حزم الى قرطبة. وكان هناك خليفة مدع اسمه القاسم بن حمود الذي ادعى انه علوي ولذلك فله الحق بالخلافة ما دام الخلفاء الآخرون لا يستطيعون أن يقوموا بالأمر. ولكن نودي في ذلك الوقت بعبدالرحمن الخامس الذي سمي المستظهر 414ه/1023م والذي حكم 46 يوماً، وهو أموي، فذهب ابن حزم إليه وعمل له وقُتل الخليفة وسُجن ابن حزم وصديقه لكن لا ندري كم بقيا في السجن هذه المرة. الا انه من المعروف انه كان في شاطبة حوالى سنة 414ه/1023م وقد قضى منها بعض الوقت وفيها كتب "طوق الحمامة". عاد الى قرطبة ومنها الى قرية اسمها منْتَلِشَم وهي القرية التي تحدر منها آباؤه وأجداده اصلاً فظل فيها حتى وفاته في سنة 546ه/1064م ويبدو ان هذه الفترة التي قضاها ابن حزم في هذه القرية ابتعد فيها نهائياً عن السياسة وانصرف فيها الى أموره العلمية المختلفة الأنواع والمتنوعة الاهداف والكثيرة الانتاج. كان ابن حزم فقيهاً من الدرجة الأولى شافعياً أصلاً ظاهرياً في ما بعد مبتكراً في هذا الأمر. وكان محدثاً حتى في أيام شبابه في قرطبة وله في المنطق مشاركة كبيرة ولكن ألطف ما يمكن ان يتحدث عنه المرء بالنسبة الى ابن حزم أنه كان شاعراً ومن الطبيعي ألا يكون هذا دوري في الحديث عنه. لكنني أقول هنا أنني كلما قرأت مقطوعة من "طوق الحمامة" أشعر أنني عدت سنوات طويلة الى الوراء كي يتمكن قلبي أن ينبض على الأسلوب الذي كان يريده ابن حزم لمن يقرأ شعره.