يمكن القول إن مدرسة أميركا اللاتينية التي كان يقودها عدد من المثقفين الراديكاليين مثل اندريه غوندرفرانك وميتشليني وسمير أمين وغيرهم، والتي قدمت نقداً جذرياً لما سمي يوماً بتنمية التخلف على صعيد عالمي، كانت سباقة في نعيها لغياب المثقف على صعيد عالمي، خصوصاً في المركزين الامبريالي والاشتراكي. فعلى صعيد المركز الاشتراكي آنذاك والذي كان يمثله الاتحاد السوفياتي الراحل، اعتبرت مدرسة أميركا اللاتينية ان غياب المثقف هناك هو بمثابة نتيجة لضغط الايديولوجيا والاستبداد، اذ اصبح المثقفون حراساً للأيديولوجيا يحرسون تخوم الامبراطورية ويبررون انحرافاتها واستبدادها. واتهم المتململون منهم بالانشقاق والانحراف، ولم يتمكن سولجنستين كمثال عن المنشقين، من وصف التجربة الاستبدادية المثيرة وعري المستبد المؤدلج المحمول على نعش الايديولوجيا المفوتة كما في روايته "أرخبيل الفولاغ" الا بعد فراره من الاتحاد السوفياتي. اما في المركز الامبريالي فقد لاحظ سمير أمين في كتابه "ما بعد الرأسمالية، 1989" غياب المثقفين والانتلجنسيا عموماً، والأخطر من هذا كله اشتراك المفكرين اليمينيين واليساريين منهم في تكبر قريب من العنصرية ومعاداة العالم الثالث. من سمير أمين الذي بنى آمالاً كبيرة على الانتلجنسيا المثقفة والثورية في الأطراف العالمية والواعية بالدور التخريبي للرأسمالية المعولمة، الى ريجيس دوبريه وإدوارد سعيد، هناك شكوى من غياب المثقف على صعيد عالمي. كانت شكوى سمير أمين مبررة، فقد بنى أمين آمالاً على التحول التاريخي الذي من شأنه ان يحدث في نظرة المركز للأطراف اذ تساعد الأحزاب الاوروبية الجديدة والانتلجنسيا على إحداث تحول نوعي في نظرة ورؤية المركز للأطراف. ما حدث جاء معاكساً للرغبات والأماني، فها هو إدوارد سعيد يلمح تحالفاً لانقدياً بين الثقافة والامبريالية، تحالفاً يدفع بالمثقف الى التحالف مع الرؤية الامبريالية الفاوستية للعالم الذي تراه ميداناً لفتوحاتها، فقد كانت الامبريالية تحتاج الى رؤية امبريالي وفضاء امبريالي. اذا ان مشروع الامبراطورية يعتمد على فكرة امتلاك امبراطورية كما يقول سعيد، وهذا ما جسدته اعمال روائيين كبار مثل جوزيف كونراد في "قلب الظلام" وجين اوستن في "روضة مانسفيلد"... الخ من أعمال راحت تشرعن للنوازع الامبراطورية سعيها الى امتلاك عالم ما وراء البحار. هناك شبه اجماع على غياب المثقف وعلى عدم جدواه في عالم تزداد وتائر بلقنته ويكثر فيه النفاق الذي يشهد على ذلك التواطؤ بين "القوة العظمى" و"المثقفين الجبناء" و"وسائل الاعلام" على اغتيال العالم كما يقول الروائي غابرييل غارسيا ماركيز في بيانه الأخير في موسكو. فها هو ريجيس دوبريه يتساءل في الكتاب الموسوم ب"كي لا نستسلم، 1995" والذي حرره مع المفكر النمسوي جان زيغلر: ما جدوى أن يكون المرء مثقفاً؟ في المقابل نجد إداورد سعيد ينعى غياب المثقف عن الزوايا الهادئة في مقاهي نيويورك ويخص عدداً منهم صور المثقف، 1996 في "الثقافة والامبريالية" يكتب ان العالم اصبح لاحوتياً نسبة الى الحوت الذي ابتلع نبي الله يونس وبعكس ما كان يظن جورج أورول الذي كان يرى ان المثقف داخل جوف الحوت وخارجه بآن. يؤكد إدوارد سعيد على خلو عالمنا المعاصر من الخلوات، لنقل من الزوايا الهادئة التي من الممكن ان يلجأ اليها المثقف هرباً من الضوضاء والضجيج المرعب الصاخب الذي يصم الآذان بنفاقه ويتلف الحواس بصوره الزائفة وكثرة نفاياته ومستهلكاته. إن ريجيس دوبريه المضمرة تساؤلاته بدعوة المثقف الى العودة الى حجره والذي لا يرى فائدة من حضور المثقف، يلمح هو الآخر لاحوتية العالم المعاصر، فقد اصبح العالم مرتعاً لوحوش الحديقة الجوراسية كما يعبر عنه الفيلم الاميركي الشهير الذي يحمل هذا الاسم، ولكن الجديد في رؤية دوبريه إنه يجعل من غياب المثقف وهزيمته نتيجة، انه يربط بين الاشتراكية وظهور المثقف، وبالتالي بين هزيمة الاشتراكية وهزيمة المثقف. فمن وجهة نظره ان المثقف والاشتراكية المستنتجة من الكتاب، قد ولدا من الرحم التكنولوجي للمطبعة، وبهزيمة المطبعة في عصر البلاغة الالكترونية هُزم الاثنان معاً، اي المثقف والاشتراكية. وهذا هو فحوى اطروحته في كتابه عن "الميديولوجيا، 1996" فقد دعانا دوبريه الى البحث عن هزيمة الاشتراكية في مكان آخر، في قصورها بالصور اكثر من فقرها بالأفكار، في عتق مصانعها للأحلام والتي لم تستطع منافسة هوليوود، في عدم مقدرتها على تغطية حيطانها بصور شاربات الكوكاكولا الجميلات ورجولة الكاوبوي المدخن للمارلبورو ... الخ. من هنا فإن هزيمة المثقف في عصر الصورة يظهر بمثابة نتيجة، فلم يعد المثقف هو الفاعل الاجتماعي ولا ضمير الأمة، فهناك فاعلون اجتماعيون جدد هم الاقدر على صوغ العالم ومنحه معنى، انهم رجال الاعمال ونجوم الغناء والأزياء والكرة وأبطال الشاشة وأباطرة المؤسسة الاعلامية؟ إن إدوارد سعيد المشغول بهاجس البحث عن الفكر المقاوم والمثقف المبدئي الذي يقول كلمة الحق في وجه السلطة كما يشهد على ذلك الفصل الخامس من كتابه "صور المثقف" يلمح هو الآخر كما اسلفت غياب المثقف في ظل الممارسة الامبريالية، ويلمح ذلك التكبر القريب من العنصرية في خطابات المثقفين الغربيين في نظرتهم للعالم العربي الاسلامي، ولذلك فقد اصبح جُلَّ همه فضح ذلك التحالف اللانقدي الذي هو من قبيل المسكوت عنه، بين الثقافة والامبريالية، بصورة أدق، بين المثقفين والنسق الامبريالي، لنقل ايضاً معه، بين المثقفين الذين يحظون بحظوة اكاديمية مرموقة، وبين مؤسسات القوة واغراءاتها. من هنا التساؤل المهم الذي سبق لريجيس دوبريه ان طرحه: متى يخون المثقف وظيفته؟ وكان جوابه عندما يتحول المثقف الى ممثل وقوّال وحارس لأوثان نظرية عفا عليها الزمن، اما إدوارد سعيد فمن وجهة نظره ان المثقف يخون وظيفته عندما يصبح محترفاً، عندما يعد المثقف نفسه لكي يكون رائجاً ولائقاً قبل كل شيء، غير مثير للجدل، وغير معني بالسياسة و"موضوعياً" يضعها سعيد بين مزدوجتين للسخرية أعود للتساؤل: اذا كان غياب المثقف بمثابة نتيجة في مراكز النظام العالمي حيث التواطؤ بين "القوة العظمى" و"المثقفين الجبناء" فما مدى حضوره في الأطراف، لنقل في عالم تزداد وتائر بلقنته اكثر فأكثر وتجتاحه القاذفات العملاقة بحثاً عن المهربين والارهابيين. إدوارد سعيد يبشر بانبثاق أدب مقاوم ومثقف نضالي، من شأنهما ان يساعدا على فك الارتباط بين الثقافة والامبريالية، ويمهدا بالتالي الى تحرير جسد الثقافة الانسانية من الحيف الامبريالي الذي لحق بها والذي ادى الى غياب المثقف؟