فيلم غوستا غافراس الجديد "آمين"، يحقق هذه الأيّام إقبالاً كبيراً في الصالات الفرنسيّة، ويثير نقاشاً على نطاق واسع، يتخطّى حدود فرنسا إلى مدن أوروبيّة عدّة. كانت الفضيحة سبقت الفيلم إلى وسائل الاعلام وقاعات المحاكم، بسبب ملصقه الذي انتشر على الجدران، وفي الصحف والمجلات، وأثار غضب بعض السلطات الروحيّة الكاثوليكيّة واليهوديّة، والجمعيات المناهضة للعنصريّة مثل ال "مراب" MRAP. وانقسم الرأي العام الفرنسي حول الفيلم وملصقه، قبل مشاهدة هذا الشريط الاشكالي لسينمائي كرّس عدداً من أفلامه لقضايا سياسيّة مختلفة، والتصقت به صفة "الفنّان الملتزم"، بدءاً بثلاثيّته الشهيرة من بطولة إيف مونتان: "زد" 1969، "الاعتراف" 1970، "حالة حصار" 1973، وصولاً إلى "مفقود" 1982 عن الانقلاب العسكري على سلفادور الليندي في تشيلي وقد حاز السعفة الذهبيّة في مهرجان كان، وخصوصاً - بالنسبة إلى العرب - "هانا ك" 1983 من بطولة محمد بكري، وكان من أبرز الأفلام الأوروبيّة التي سلّطت الضوء على القضيّة الفلسطينيّة. فيلم غافراس الجديد الذي عرض في "مهرجان برلين" الأخير، هو عن المحرقة النازية وتصفية اليهود، وعن الموقف المحايد، أو الملتبس، للكنيسة الكاثوليكيّة من جرائم هتلر في الحرب العالميّة الثانية. ويمثّل الملصق الذي سبق لمصمّمه أوليفييرو توسكانيني أن أثار فضائح عدّة، صليباً معكوفاً بالأحمر على خلفيّة سوداء. وفي أسفل الملصق، يمتدّ شعار النازيّة بشكل رأى فيه بعضهم اشارة واضحة إلى الصليب، خصوصاً أن الرسم يجمع بين رجل دين كاثوليكي وضابط نازي. لكن المحكمة التي بتّت دعوى رفعتها جمعيّة مقرّبة من الأصوليين، رفضت منعه، واعتبرته متجانساً مع موقف السلطة الروحيّة الكاثوليكيّة في فرنسا التي أعلنت ندمها، العام 1997، على موقف الفاتيكان في الحرب العالميّة الثانية. ويأتي فيلم "آمين" الناطق بالانكليزيّة، في مناخ سياسي متوتّر، تركّز فيه بعض المؤسسات التي تدّعي تمثيل الجالية اليهوديّة في فرنسا، مثل ال "كريف" CRIF، على تفاقم موجة معاداة الساميّة في فرنسا. هذا الادعاء الذي يرى فيه سينمائي يهودي مؤيّد للقضيّة الفلسطينيّة هو إيال سيفان، مبالغة وتضخيماً هدفهما التغطية على جرائم اسرائيل اليوميّة بحقّ الشعب الفلسطيني، واشعار يهود فرنسا بالقلق لتحريضهم على الهجرة إلى اسرائيل. وأتى النداء الصريح الذي وجّهه آرييل شارون أخيراً إلى يهود فرنسا بهذا المعنى، ليدعم تحليل سيفان ويسند وجهة نظره. يستند فيلم غافراس إلى مسرحيّة للكاتب النمساوي رولف هوكهاس كانت أثارت فضيحة العام 1962. العالم البروتستانتي كورت غيرشتاين تمثيل أولريك توكور، يصبح ضابطاً في الجيش النازي، ومن متخصص في إزالة الأوبئة يجد نفسه شاهداً على عمليّة ابادة اليهود ومتورّطاً فيها. لكنّه يرفض أن يترك وطنه، أو يخلع بذلته العسكريّة، كي يشهد، كي يكون "عيني الرب في هذا الجحيم". يمزج الفيلم بين الوقائع التاريخيّة غيرشتاين وجد فعلاً، والتقرير الذي تركه قبل انتحاره كان من أوّل القرائن على الهولوكوست والبعد الروائي. فالشاهد الآخر، الأب اليسوعي الايطالي ريكاردو فونتانا ماتيو كاسوفيتش، مساعد الأسقف الذي يمثّل البابا بيّوس الثاني عشر في برلين، هو شخصيّة متخيّلة. وسيخوض الثنائي غيرشتاين وفونتانا صراعاً مستميتاً من أجل لفت نظر نظر البابا إلى سياسة الابادة المنهجيّة لليهود والغجر. لكن كلّ محاولات دفع الكنيسة الكاثوليكيّة إلى التدخّل، لوقف هذه الجريمة الهائلة، تبوء بالفشل. ويصطدم غيرشتاين وفونتانا بحذر الفاتيكان وحياده ولامبالاته، بل بتواطئه غير المباشر... وقد تعالت أصوات عدّة في فرنسا، تؤكّد أهميّة فيلم غافراس، ودوره في فتح نقاش صحّي طال تأجيله، وازالة البقع المظلمة العالقة في أكثر الفصول مأسويّة في تاريخ أوروبا، خلال القرن الماضي. كما طالب مؤرّخون الفاتيكان، بفتح أرشيفه المتعلّق بهذه السنوات السوداء، للمساعدة على كشف الحقيقة. وكانت السلطات الكنسيّة، قد أعلنت أخيراً، استباقاً للضجّة التي سيثيرها فيلم غافراس، عن فتح أرشيف المرحلة الممتدّة بين 1922 و1939، بشكل استثنائي. لكنّ الوثائق المهمّة، مرتبطة بالسنوات التالية لوصول الأسقف أوجينيو باتشيلي، إلى كرسي البابويّة 1939 - 1958، ليصبح البابا بيوس الثاني عشر، أو "بابا هتلر" Hitler's Pope كما نعته المؤرخ الانكليزي جون كورنويل في كتاب شهير.