الإنزال الأميركي في القوقاز قد يصبح بداية لتفكيك الدولة الروسية، أو على الأقل محاصرة نفوذها وتطويقها بحزام تعمل واشنطن على شدّه باستمرار. ولم يفاجأ المراقبون بقرار الرئيس ادوارد شيفاردنادزه استدعاء وحدات خاصة اميركية تحت غطاء "تدريب" قواته لمحاربة الإرهاب في وادي بانكيسي حيث توجد قواعد للمسلحين الشيشانيين. ولهذا القرار خلفية تاريخية لها صلة وثيقة بشيفاردنادزه الذي كان في الستينات والسبعينات وزيراً للداخلية وأميناً أول للحزب الشيوعي في جورجيا وتحول بعد البيريسترويكا الى واحد من ألد أعداء الإيديولوجيا التي بشر بها وسجن معارضيها. وهو عندما صار وزيراً لخارجية الاتحاد السوفياتي اتخذ من واشنطن قبلة وصار من اكبر المبشرين ب"صداقة لوجه الله" مع الولاياتالمتحدة. ويقول خصومه ان الانقلاب الذي نظمه ضد الرئيس الشرعي الأول لجورجيا زفياد غمساخورديا كان بمباركة اميركية وبهدف تنصيب الرجل الذي يُكنى ب"الثعلب الأبيض" حاكماً لكل القوقاز وفاتحاً بواباته امام الولاياتالمتحدة. ولكن شيفاردنادزه لم يبرر الآمال. ففي عهده تكرس عملياً انفصال جمهوريتي اوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عن جورجيا التي غدت وحدتها مهددة، وتفشى فيها الإجرام وبلغ الفساد حداً ينذر بانفجار داخلي. ومن هنا فإن الوجود الأميركي قد يغلق ملفات وأبواباً تأتي منها رياح تزعج الرئيس الجورجي. ولكن لا شك في ان اهداف الولاياتالمتحدة لا تنحصر في الحفاظ على حكم شيفاردنادزه او "مكافحة" فلول الحركة الشيشانية المسلحة في جورجيا، خصوصاً أن واشنطن لم تعتبر يوماً ان هذه الحركة "ارهابية"، بل انها استقبلت رسمياً ممثلين عنها غير آبهة بالاحتجاجات الروسية. إذاً للولايات المتحدة اغراض اخرى بعيدة المدى، لعل ابرزها السيطرة على منطقة القوقاز المهمة استراتيجياً واقتصادياً وعسكرياً. فهي تطل على بحر قزوين الغني بالنفط وتشكل مفتاحاً للتأثير في المثلث التركي - الإيراني - الروسي المحيط بالمنطقة. ولكن الأهم من ذلك ان وضع اليد على القوقاز يحرم روسيا نهائياً من منافذها على البحر الأسود ويحد من نفوذها على المحور الجنوبي. والوجود الأميركي في جورجيا قد يصبح بداية لتغييرات تشمل مناطق شمال القوقاز التي ما برحت حتى الآن جزءاً من الاتحاد الروسي. وبذا يضيق الطوق الذي يحيط بروسيا التي فقدت موطئ قدمها في اوكرانيا غرباً ثم بدأت تضيع ما تبقى لها من نفوذ في آسيا الوسطى حيث اقامت الولاياتالمتحدة قواعد، وبدأت ازاحة روسيا عسكرياً وسياسياً واقتصادياً من هناك. وفي اواخر العام الجاري ينتظر قبول انتساب جمهوريات البلطيق التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي الى حلف الأطلسي. وبذا ستكون الحلقة القوقازية جزءاً من سلسلة تمتد من وسط آسيا الى البلطيق. ازاء هذه الأخطار البديهية يبدو غريباً موقف روسيا التي قال رئيسها فلاديمير بوتين ان الوجود الأميركي على خاصرته الجنوبية "ليس بمأساة". بل انه مضى شوطاً أبعد بموافقته الضمنية على الطوق كله وإشارته الى انه اذا كان الأميركيون موجودين في آسيا الوسطى ف"ليه لا" في جورجيا. ولربما يحاول الكرملين بذلك ان يرسم ابتسامة وهو يبتلع العلقم، ولكن ثمة تسريبات تشير الى ان السكوت على الفتح الأميركي لجورجيا مرده الى تواطؤ يقضي باقتسام جورجيا، حيث تكون حصة روسيا كل من اوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، ما يؤمن للأسطول الروسي منافذ على البحر الأسود، فيما تحتفظ واشنطن ب"الجزء المتبقي" من جورجيا. وهذا التخمين، لو صح، إنما يعني العودة الى مبادئ يالطا التي قسمت العالم بعد الحرب العالمية الثانية، إلا ان موافقة روسيا الآن على هذه الصفقة هي دليل سذاجة مفرطة، إذ ان موسكو السوفياتية كانت فرضت مطالبها ووسعت دائرة نفوذها فيما موسكو الروسية تعطي من دون ان تأخذ. وبسقوط الحلقة القوقازية قد يغدو الطوق الجديد انشوطة تخنق روسيا.