المتنافسان الاساسيان في انتخابات الرئاسة الفرنسية 21 نيسان/ ابريل المقبل الرئيس جاك شيراك الديغولي ورئيس الحكومة ليونيل جوسبان الاشتراكي، لم يخصّا الضواحي الفرنسية حيث غالبية السكان متحدّرون من الهجرة، والعربية منها تحديداً، بأي توجه أو اقتراح في اطار برنامجيهما الانتخابيين. ولعل ما يبرر هذا التغييب، كون المرشحين يعتبران سكان الضواحي على اختلاف أصولهم جزاً لا يتجزأ من المجتمع الفرنسي، وان التعامل مع مشكلاتهم يندرج في اطار الجهد الذي يعد به كل منهما لحل المسائل المطروحة على مستوى فرنسا عموماً. فجوسبان يعتبر بالطبع ان الاجراءات التي يعتزمها لمكافحة البطالة في فرنسا، تشمل سكان الضواحي ومن شأنها التخفيف من الأزمة في صفوف الشبان منهم، نظراً للصعوبات التي يواجهونها في الدخول الى سوق العمل. وعندما يتعهد شيراك بتحسين المستوى المعيشي وتعزيز التماسك الاجتماعي ومواجهة التدهور الأمني، فإنه يعتبر بالطبع ان كل هذا لا بد ان ينطبق على الضواحي مثلها مثل سائر المناطق الفرنسية. هذا الميل المشترك لدى المرشحين كليهما لعدم التمييز بين سكان الضواحي وسواهم من الفرنسيين، لا يلغي ادراكهما لوزن المسلمين منهم في اطار معركة انتخابية حيث تشير المنظمات العاملة في أوساطهما الى أنهم باتوا يمثلون حوالى 2 في المئة من الناخبين في فرنسا. ومن هذا المنطلق عمل كل من شيراك وجوسبان على عقد لقاءات مع ممثلي الجالية العربية والمسلمة، قبيل اطلاق الحملة الانتخابية، وأصر الرئيس الفرنسي على مواصلة جولاته الانتخابية على الضواحي الباريسية الساخنة والتي بلغ عددها أربع جولات حتى الآن، على رغم الاستقبال غير اللائق الذي لقيه في الجولة الأولى حيث تعرض للبصاق من قبل مجموعة من الشبان. وإذا كان العمل على جذب اصوات الناخبين العرب والمسلمين ضرورياً لكل من شيراك وجوسبان، نظراً لشبه التعادل المستمر بين شعبيتي كل منهما، فإنه يصطدم بالخصوصية والتعقيد اللذين يطغيان على خياراتهما الانتخابية. فعندما كان التمحور اليميني واليساري واضحاً على مستوى الحياة السياسية، وكانت الجبهة الوطنية الفرنسية اليمين العنصري تشكل خطراً قائماً في فرنسا، كانت أصوات أبناء الجالية العربية والمسلمة تصب لصالح اليسار عموماً والحزب الاشتراكي تحديداً. لكن الآن ومع تلاشي الجبهة الوطنية، وانحسار الفوارق بين طروحات اليمين واليسار الى حد الإبهام، فإن هذه الجالية باتت تبني خياراتها استناداً الى اعتبارات اخرى تولّد لدى بعض أفرادها ردات فعل انتخابية متناقضة. فرفض ابناء الجالية التمييز الذي يواجهونه على صعيد حياتهم المهنية والاجتماعية، يحثهم على الإدلاء بأصواتهم لصالح اليسار، لكن حساسيتهم الفائقة حيال تطور النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي والقضايا العربية عموماً تدفعهم للادلاء بأصواتهم لصالح اليمين. فبالنسبة للاعتبار الأول، تقر الجالية العربية والمسلمة لجوسبان، بالرغبة التي بدرت عن حكومته، للاقرار للاسلام بمكانته الى جانب الديانات الأخرى في فرنسا، عبر نهج "الاستشارة" الذي من المرتقب ان يؤدي قريباً الى تزويد مسلمي فرنسا بمجلس تمثيلي، ينوب عنهم لدى المؤسسات الجمهورية ويتولى شؤونهم الدينية. في المقابل، وعلى رغم توضيح اليمين الفرنسي لعلاقته السلبية بالجبهة الوطنية ورفضه القاطع لطروحاتها، فإن العديدين في أوساط الجالية العربية والمسلمة يتخوفون من العنصرية المبطنة التي لا تزال قائمة لدى بعض الفئات اليمينية. لكن هذا المعيار ينقلب رأساً على عقب عندما يطرح موضوع الشرق الأوسط، خصوصاً ان الغياب التام للسياسة الخارجية عن الحملة الانتخابية الحالية يشجع الناخبين العرب والمسلمين على استحضار صورتين بارزتين. الأولى هي صورة شيراك التي تناقلتها وسائل الاعلام العربية المختلفة، عندما واجه رجال الأمن الاسرائيليين مهدداً بقطع زيارته والعودة الى فرنسا، ما لم يتسنّ له التجول بحرية في شوارع القدسالشرقية. وهذه الصورة تعززت عبر سلسلة من المواقف المتوازنة التي اعتمدها الرئيس الفرنسي في ما يخص فلسطين والعراق ولبنان وغيرها، وعبر لقاءاته المكثفة مع المسؤولين العرب، والتي اكدت ان مشادته مع رجال الأمن الاسرائيليين لم تكن مجرد فورة غضب مردها الى الضغوط المترتبة على زيارته الى اسرائيل، وانما تعبيراً عن "ميله الصادق" تجاه العرب. أما الصورة الثانية التي لا تزال ماثلة في أذهان عرب ومسلمي فرنسا، فهي صورة جوسبان وهو يرشق بالحجارة في جامعة بيرزيت، بعد وصفه "حزب الله" بأنه منظمة ارهابية. وعلى رغم المساعي التي بذلها رئيس الحكومة الفرنسي لتبديد الانعكاسات السلبية الناجمة عن هذه الحادثة، وعلى رغم تشدده في انتقاد سياسة نظيره الاسرائيلي ارييل شارون، فإنه لم ينجح في اقناع كثيرين بأن هذه المواقف تندرج في اطار رؤية ثابتة لما ينبغي ان تكون عليه سياسة فرنسا في الشرق الأوسط. فالعديد من ابناء الجالية يعتبرون ان هذه المواقف ليست سوى مواقف ظرفية مردها الى دموية سياسية شارون، وانها لن تلبث ان تتغير في حال عودة حزب العمل الاسرائيلي الى الحكم. ويمكن الاستخلاص مما تقدم ان المرشح المثالي الذي يمكن ان يحظى باجماع اصوات العرب والمسلمين الفرنسيين، هو الذي يبدي اهتماماً مباشراً بخصوصية مشكلاتهم الحياتية، ويلتزم سياسة خارجية تستجيب لحساسياتهم. ونظراً لعدم توفر هذه المواصفات مجتمعة لا في شيراك وجوسبان ولا في سواهما من المرشحين الثانويين، فإن الكثيرين من شبان الجالية لا يرون اي جدوى من الاقتراع والمشاركة في عملية انتخابية لا شأن لهم فيها. وهذا الاحجام عن التصويت، بل عن التسجيل على اللوائح الانتخابية، حمل العديد من المنظمات العاملة في أوساطهم الى تنظيم حملات توعية لاقناع الشبان من أبناء المهاجرين بأهمية المشاركة في الانتخابات، بعد ان ارتفعت نسبة الممتنعين في صفوفهم، وفقاً للاحصاءات، الى 52.1 في المئة مقابل 45.4 في المئة سنة 1995. وحجة بعض هذه المنظمات ان الاقتراع، على رغم اثره المحدود، أجدى من الانزواء والتقوقع، وان مطالب الشباب العرب والمسلمين لن تتحقق من تلقاء نفسها، بل عليهم ان يدركوا ضرورة عملهم لانتزاعها.