لم يعد مستغرباً ذلك الأسلوب الاستنسابي الذي يتعاطى من خلاله الإعلام العالمي للترويج والدفاع عن القضايا العالمية الراهنة وفقاً لما يتلاءم ومصالح الدول الكبرى، أكانت تلك المصالح سياسية أو اقتصادية أو حتى اجتماعية وانسانية. اذ بات من الطبيعي ان نرى مؤسسات اعلامية كبرى أو دور نشر عالمية تتجنّد لمناصرة فريق ضد آخر في حرب مشتعلة باحدى الدول الفقيرة "النائية" اذا كانت مصلحة بعض الدول "الراقية" تصب في خانة ذلك الفريق دون غيره مثلما حصل أخيراً في الحرب الافغانية على سبيل المثال لا الحصر، في حين تواجه قضية محقة كالقضية الفلسطينية، مثلاً، بجدار من الصمت العالمي، لا بل تعمل الدول الكبرى على طمس وتخوين الاصوات التي تتجرأ على مساندة الفلسطينيين والمطالبة بحقوقهم المشروعة. ضمن هذا السياق تحديداً، تمكن الاشارة الى كتاب صدر اخيراً عن دار فيراغو البريطانية للنشر بعنوان "وجهي المحظور: قصة شابة نشأت تحت حكم طالبان" للكاتبة الافغانية لطيفة. والكتاب، كما يشير عنوانه يروي فصولاً من الحياة الافغانية كما عاشتها احدى نسائها ابان سيطرة حركة طالبان على الحكم. واللافت ان معظم النقاد البريطانيين أجمعوا على افتقاره لأية قيمة أدبية تذكر، حتى ان بعضهم ذهب الى توصيفه "بكولاج" من العبارات الفضفاضة الفارغة التي لا تمت الى الادب بصلة، عبارات ومقاطع بدت وكأنها مصطنعة أو مصنّعة خصيصاً لاستدرار عواطف القارىء واكتساب تعاطفه. مع ذلك، يلقى الكتاب دعماً كبيراً من بعض وسائل الاعلام الأجنبية، خصوصاً بعدما أرفقت دار النشر اصداره بحملة اعلامية واسعة قد لا تليق الا بأهمّ الكتّاب وأكثرهم شهرة ونبوغاً. في السادسة عشرة كانت لطيفة تتابع دراستها في الصحافة وتتولى ادارة مجلة طلابية. وذات يوم في السابع والعشرين من شهر ايلول سبتمبر 1996، وقعت كابول، مسقط رأسها، تحت سيطرة حركة طالبان، وكغيرها من النساء، أضحت لطيفة سجينة منزلها، لا تغادره الا نادراً. طوال خمسة أعوام، عاشت حياة شبه مبتورة، مسكونة بالرعب على رغم حرصها على ارتداء البرقع. ومن ثم اكتشفتها مجلة "ايل" الفرنسية لتغادر إثر ذلك الى باريس حيث ما زالت تعيش في "المنفى البعيد" بحسب تعبيرها، مع الاشارة الى ان عدداً كبيراً من الصحف والمجلات تناولت قصتها في مقالات مطوّلة، الى ان قررت اخيراً اصدار سيرتها الذاتية في الكتاب المذكور. كانت عائلة لطيفة تعيش حياة رغيدة مقارنة "بالمعايير" الافغانية. وكان والدها رجل اعمال ناجحاً ووالدتها تعمل في المجال الطبي الذي يقتصر على تقديم العناية للنساء دون غيرهن. وكانت احدى شقيقتيها تعمل في المجال الصحافي فيما عملت الثانية، ثريا، مضيفة طيران. وعندما استولى طالبان على الحكم، أُقفلت الجامعات ومن بينها جامعة لطيفة واضطرت والدتها وثريا الى ترك عملهما. أمضت العائلة عزلتها القسرية بمشاهدة افلام الفيديو المهربة بعدما طلت نوافذ الشقة بالأسود تحسباً لتسرّب نور التلفزيون الى الخارج ولفت انتباه طالبان: "كنا كمن يعيش على هامش الحياة ونعاني ما يعانيه مرضى ارهاب الاحتجاز" تقول لطيفة. وتضيف: "سرعان ما صرت سريعة التأثر بأصغر التفاصيل من حولي": كسرة خبز على الطاولة، طائر يحلّق في السماء البعيدة، نظرات والدتي الحزينة التائهة... وعلى رغم عزلتهم الطويلة بين جدران المنزل الضيقة، شعر افراد العائلة كأنهم غرباء عن بعضهم بعضاً، قلما تشاطروا افكارهم وبقي كل منهم بعيداً من الآخر، سجين قلقه وهواجسه. ومما جاء في الكتاب: "كان كل منا يحتفظ بحزنه لنفسه وكأنما لنستمد القدرة على استمراريتنا بنوع من التقتير لعواطفنا. وكان لا بد من ذلك لئلا نسقط في الهاوية أو نصاب بالجنون من الحقد أو الرعب". وتتابع: "كنت ألجأ الى غرفتي فأفلت العنان لدموعي من دون ان يشعر احد بمعاناتي". وتشير الكاتبة الى ان السبب الوحيد الذي دفعها الى ارتداء البرقع والمجازفة بالخروج من المنزل هو شعورها بالاختناق داخل الزوايا الضيقة، وكانت الوسيلة الوحيدة لتتمكن من تنشق القليل من الهواء والا كانت ستفقد صوابها بلا أدنى ريب. روّعها ما رأته بنظرات مختلسة الى العالم الخارجي من خلال ثقوب برقعها: أغصان الاشجار "المزيّنة" بالشرائط المسجّلة كانت الموسيقى بكل أنواعها محظورة تحت حكم طالبان كتحذير لمن تخوّله نفسه مخالفة القوانين، نساء يرجمن حتى الموت بسبب لون حذائهن الأبيض، فاللون الأبيض لون علم طالبان واحتذاؤه اشبه بالكفر! في تلك الفترة، لم يبق لها، هي المراهقة المسكونة بالقهر والحرمان، سوى شكل واحد من أشكال التمرّد والعصيان: مشاهدة فيلم "تيتانيك" سراً ومشاركة بطلته التفجّع لموت حبيبها ليوناردو دي كابريو في صقيع البحر الجليدي. شكّل احتجاز لطيفة في شقة عائلتها وظل النظام السياسي الغاشم خلفية ملائمة لترويج اسمها إعلامياً وتشبيهها بآن فرانك افغانستان. غير ان الفراق يبدو و اضحاً بين الكاتبتين، اذ ان فرانك اعتادت تدوين مذكراتها اليومية بأسلوب اتسم بالصدق والشفافية، في حين يقدّم كتاب لطيفة استعادة شبه سطحية لما حصل في افغانستان منذ عام 1996 ولغاية مغادرتها البلاد بعد خمسة اعوام. ومع انه كتب بصيغة الحاضر الا انه يعرض للاحداث يوماً بيوم، فبدت الكاتبة كأنها أدركت هذه الاحداث بشكل متأخر فجهدت لاعادة تركيبها ضمن سياق أكثر تضخيماً مما كانت عليه اصلاً. فقد وردت، مثلاً، مقاطع عن التاريخ الافغاني كتبت وكأنما بقلم طفولي هاو بالكاد يعرف تاريخ بلاده، فتقدمت هذه المقاطع ممزوجة بهواجس واوهام شابة مراهقة قلقة تفتقد نضوج كاتبة موهوبة وايضاً رؤيتها واتزانهافتارة تستفيض في الكلام على دي كابريو لتنتقل مباشرة الى الحديث عن المجاهدين وطوراً تخرج من براءة الشباب لتتكلم بنبرة تفيض قنوطاً وتجهّماً قائلة: "انهم يقتلوننا بصمت مخادع ماكر. قوانين الحظر التي فرضوها على بلادنا تعمل على ابادتنا تدريجاً ونبذنا الى هامش المجتمع... من خلال حظر العمل على النساء، يهدفون الى تقويض الخدمات الطبية ومعها كل الخدمات المؤسساتية والادارية. كل هذا يعني امراً واحداً: الانكار التام للحرية الفردية والترويج الفاضح للتمييز العنصري الحاقد بين النساء والرجال. عندما تنبجس هذه المحاضرات المصغّرة حول الحريات المدنية فتقطع تسلسل مجرى احداث حياتها الخاصة من دون ان تخضع للمقاربة أو للدراسة الوافية، يخيّل للقارئ كأن صوت استاذ الكاتبة أو والدها ظهر فجأة ليؤنبها على كتاباتها وينتزع القلم من يدها، فيتساءل القارئ هل ان ما قرأه للتو هو للكاتبة نفسها التي استفاضت قبل صفحات قليلة في الكتابة عن امتعاضها لعدم تمكنها من طلاء أظافرها خوفاً من ردة فعل جنود طالبان؟ ويقول احد النقاد البريطانيين في اطار مراجعته لكتاب لطيفة: "انه لأشبه بفعل تدنيسي ان نعمد الى تقييم اعادة سرد هذه الوقائع من وجهة نظر ادبية. ولكن يبدو ان الناشرين عوّلوا، لنجاح الكتاب، على تعاطف الشعب الاوروبي مع مأساة الافغان اليومية، ما قد يدفعه الى التغاضي عن قيمة الكتاب الادبية فيحتفظ كل قارئ لنفسه بالنقد السلبي ازاءه". ويضيف الناقد: "قد يبدو هذا الموقف منطقياً ومناسباً لدور النشر التي تتوخّى الكسب المادي، وايضاً لوسائل الاعلام التي لم تعد خفية أساليب تحويرها للحقيقة لمصالح باتت معروفة. ولكن لا يمكن لأي ناقد ادبي يحترم نفسه، ومهما بلغت أهمية القضية الانسانية التي يتناولها اي كتاب ادبي، غضّ الطرف عن عبارة ركيكة أو حبكة سطحية مصطنعة، لمجرد انها تتناول مسألة البقاء على قيد الحياة تحت سيطرة حركة طالبان". ويبدو واضحاً ان لطيفة لم تسع لتقديم كتابة متمكنة، تستوفي ولو ادنى الشروط الادبية أو الابداعية، وكأنما اكتفت بتجميع افكارها وذكرياتها وتقديمها بأسلوب متسرّع ساذج استجابة لرغبة الناشر ليس الا. مما لا شك فيه ان المأساة الافغانية سوف تتمخّض في المستقبل عن قائمة طويلة من الاعمال الفنية والادبية المبدعة غير ان "وجهي المحظور" لن يندرج فيها بلا ادنى ريب. فالحروب والمآسي غالباً ما تشكل ارضاً خصبة لأعمال فنية رائعة ولكن ليس كل ما يتولّد من معاناة الشعوب يكون بالضرورة جديراً بحمل صفة الأدب والفن والإبداع.