السعادة من اهم عوامل الانتاج، اذ تؤثر مباشرة في مساهمة الانسان الاقتصادية في المجتمع. وعلاقة السعادة بالاقتصاد متبادلة، من هنا اهمية دراستها كجزء من العلوم الاقتصادية والانسانية. يعتبر معظم الناس ان السعادة احد اهم اهداف حياتهم، فهم يعملون ويجهدون لتحقيق ذلك عبر زيادة دخلهم او ثروتهم. فهل زيادة الدخل او الثروة تحتم زيادة السعادة، ام ان هناك عوامل اخرى تؤثر في سعادة الانسان؟ في الواقع، ان زيادة الامكانات المادية عند الانسان تسمح له بالحصول على معظم السلع والخدمات التي يحتاج اليها لاستهلاكه او استثماره العاديين. ويقول الاقتصادي ايسترلينEasterlin ، الذي اجرى دراسات تطبيقية رائدة ومتعددة على الموضوع، ان المال لا يجلب السعادة بالضرورة. فهناك كثير من الاغنياء يعتبرون انفسهم غير سعداء، في مقابل الكثير من الفقراء الذين يعتبرون انفسهم سعداء. فالسعادة مرتبطة ليس فقط بالعلوم الاقتصادية وانما بالنفسية والاجتماعية ايضاً، اي بعلوم يصعب تقويم معظم عواملها. فالكثير من اصحاب الثروة والمال يفقد لذة الحياة، اي الانتصار على تحدياتها ومشكلاتها اليومية العادية فيخسر السعادة. وشهدنا أناساً أنهوا حياتهم بأنفسهم وكانوا من الاغنياء او من الذين حققوا انجازات مهنية او اجتماعية كبيرة، لأنهم فقدوا لذة التحدي فلم يعد لحياتهم في نظرهم معنى. وكم رأينا الكثير من اصحاب الثروة والمال يلجأ الى استهلاك الممنوعات المكلفة لأنه فشل في ايجاد تحديات كبيرة وجديدة له. تدل الدراسات الميدانية الى ان الناس في الدول الصناعية هم عموماً اكثر سعادة من امثالهم في الدول الفقيرة، ليس فقط بسبب الغنى المادي المرتفع نسبياً وانما ايضاً بسبب عوامل اخرى كالصحة وتوزع الدخل والثروة والانظمة السياسية الأكثر ديموقراطية. وفي الواقع، يتمتع سكان الدول الصناعية بمستويات حياة وصحة متقدمين، بدءاً من العمر المرتقب الى نسب الولادات والوفيات واعداد الاطباء والممرضات والمستشفيات وغيرها. واذا كانت صحة الانسان جيدة، فانتاجيته تكون مرتفعة وبالتالي يستطيع تلبية رغباته المادية. اما توزع الدخل والثورة، فهو عموماً افضل في الدول الغنية بسبب الانظمة المالية والضرائبية التي ساعدت في تحقيق ذلك. اما الديموقراطيات البرلمانية التي تسمح للانسان بالتعبير بحرية عن آرائه وايصال صوته الى الدولة ومسؤوليها، فهي نشأت اصلاً في الدول الغربية وتتطور هنالك مع تقدم العقلية والحاجات والتجارب وتغير الاقتصاد الدولي. والانسان السعيد يكون عموماً مبدعاً وخلاقاً اكثر من الاقل سعادة، ما يدل مرة اخرى الى احد اهم مصادر التقدم وهو السعادة. ومن المؤكد ايضاً ان بعض الدول النامية والناشئة يتمتع بمواصفات حياة عالية، لكنه يفتقد الى عوامل رئىسة مؤثرة كالحريات. واذا كان سكان الدول الغنية عموماً اكثر سعادة من سكان الدول الفقيرة، فهذا لا يعني ان تحسن مستوى الحياة المادي في الدول الفقيرة يجعل الناس اكثر سعادة. فالمال، كما رأى ايسترلين، لا يشتري السعادة التي يمكن ان تكون مرتبطة بالفارق بين ما يطمح اليه الانسان وما يحققه. فليس لطموحات الانسان حدود، وكلما تحسنت اوضاعه كلما اراد تحقيق المزيد من النجاح المادي والمهني، ما يؤثر سلباً على سعادته. كما يقيس الانسان في الدول الفقيرة سعادته عموماً نسبة لأوضاع سكان الدول الغربية، اي يشعر انه متأخر دائماً عنهم وبالتالي يتمتع بمستوى سعادة اقل مما يجب ان يكون عليه. ففي الولاياتالمتحدة الاميركية مثلاً، تبين ان نسبة السعداء ترتفع مع ارتفاع الدخل، اذ تبلغ 15 في المئة عند الفقراء جداً و45 في المئة عند الاغنياء جداً. كما ان تحسن الدخل عند الفقراء يؤثر كثيراً في سعادتهم بينما يزول هذا التأثير عند الطبقات الغنية. وربما يقارن الانسان نفسه بالأغنى منه، فتحسن مستوى الدخل عند الجميع لا يؤثر كثيراً في مستوى السعادة اذ تبقى الاوضاع المادية النسبية على حالها. كما تؤثر السعادة على تصرفات الانسان، اي على استهلاكه واستثماراته وانتاجيته في العمل وعلى اتجاهاته السياسية. فالانسان السعيد هو عموماً مستهلك اكثر ومستثمر افضل ويعمل بانتاجية مرتفعة. وينخرط السعداء عموماً في الاحزاب او التيارات السياسية المعتدلة من يمينية ويسارية، بينما يذهب الغاضبون الى الاحزاب المتطرفة في اليمين واليسار. فتحسن الاوضاع الاقتصادية يؤثر ايجاباً في رفاهية المجتمع وسعادته ويثبت الاعتدال السياسي كما يسهم في اتخاذ القرارات الاقتصادية الرشيدة. فالسعادة مرتبطة اذاً بمجموعة من العوامل المعقدة، المختلفة، وأحياناً المتعاكسة. فما هو موقع الشعوب العربية في خريطة السعادة العالمية، وهل تعتبر نفسها سعيدة؟ وما هي السياسات العامة التي يمكنها رفع مستوى السعادة العربية؟ في الواقع، يتأثر مستوى السعادة بعوامل شخصية فردية وبأمور اقتصادية جماعية، منها ما يلي: أولاً: البطالة، اي ان العاطل من العمل هو بالطبيعة انسان غير سعيد، وربما يصبح غير منتج اذا طالت مدة بطالته. كما يؤثر وضعه في مستوى سعادة افراد عائلته وربما في مجموعة غير قليلة من اقربائه وأصدقائه وجيرانه. وهكذا يمكن ان تتأثر سلباً سعادة المجتمع بمجملها بوضع مجموعة افراد منه عاطلة من العمل. فالسياسات العامة، التي تسهم في تخفيض مستوى البطالة، ترفع اذاً من مستوى السعادة. ثانياً: التضخم، بخلاف البطالة، يؤثر مباشرة في كل افراد المجتمع بما في ذلك قطاع الاعمال. فالمجتمعات التي تعيش في اجواء تضخمية مرتفعة تصبح قلقة جداً على حاضرها ومستقبلها وتتصرف بالتالي بحذر. والتضخم من اهم عوامل عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والمالي والنقدي، ويؤثر سلباً في الاستثمارات وبالتالي في النمو. وهناك في المدى القصير علاقة سلبية بين التضخم والبطالة، ما يفرض على مقرري السياسات الاقتصادية الاختيار بين اهون الشرين. فمحاربة التضخم لها بعد شعبي وانتخابي كبير، وبالتالي تقع عموماً في طليعة البرامج السياسية للأحزاب. وأصبح معروفاً ان دور السياسة النقدية يكمن اولاً في محاربة التضخم عبر سياسات الفوائد وحجم الكتلة النقدية. فمعظم المجتمعات غير مستعد لتحمل نقاط اضافية من التضخم في مقابل خفض نسبة البطالة نقاطاً مماثلة او قريبة. واذا كان دور السياسة النقدية هو مكافحة التضخم، فدور السياسات الاخرى من مالية واجتماعية واقتصادية يجب ان يركز على معالجة قضية البطالة. ولا بد من القول ان الدول العربية نجحت عموماً في السيطرة على التضخم من دون ان تحقق نجاحاً مماثلاً في ما يخص البطالة. ونظراً الى العلاقة السلبية بين الشرين، لا بد من ان يكون لكل دولة حق تحديد مجموعة السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تحقق التوازن بينهما، ما يرفع من مستوى السعادة الى افضل الممكن. ثالثاً: تؤثر المؤسسات كثيراً في مستوى السعادة. ونقصد بها النظام السياسي والمؤسسات الشفافة والمستقلة والحريات السياسية والاقتصادية والفردية. فلا يمكن للانسان ان يكون سعيداً في انظمة سياسية قمعية، كما تدل تجارب الاتحاد السوفياتي السابق والدول الشيوعية المنتقلة منذ التسعينات الى الاقتصاد الحر. كما ان الحريات مترابطة بعضها ببعض، فلا يمكن ان تكون احداها محترمة كلياً اذا كانت الاخريات مقموعة. ان تقويم مستوى السعادة في الدول العربية يحتاج الى تنفيذ دراسات ميدانية تطبيقية كالتي قام بها ايسترلين في اميركا. وتدل المؤشرات العادية الاولية الى وجود مستويات سعادة مخفوضة، وذلك لعدم توافر العوامل المسببة التي ذكرنا، فزيادة مستوى السعادة العربية ممكن اذا نجحت الحكومات في مكافحة التضخم المخبأ احياناً في أسعار صرف ثابتة، إذا نجحت في محاربة البطالة المدعومة احياناً بسياسات اجتماعية سخية او المخبأة وراء احصاءات مخيفة غير معلنة. اما بناء المؤسسات، فيحتاج الى العمل الضاغط الدؤوب في كل المستويات، والا لن نصل اليه ابداً. * استاذ محاضر في العلوم المالية في الجامعة الأميركية في بيروت.