محاكمة الدكتور عزمي بشارة التي تكشف اكثر ما تكشف التحولات في المجتمع الفلسطيني في الداخل وبالتحديد في مساحة علاقته بذاته او فهمه لها. وعليه، فإن المحاكمة في جوهرها مقاضاة لتحولات، لسيرورة، وان بدت، في اجرائيتها موجهة ضد شخص النائب بشارة بدعوى تجاوز حدود حصانته وخرق لاحكام القانون الاسرائيلي. والمسألة في بعدها القضائي مشتقة في عرفنا من الراهن السياسي في اسرائيل ومن رؤية القوى السياسية المتنفذة للمجتمع الفلسطيني وللتحولات الجارية فيه. بل ترانا نجزم بناء على التجربة الاسرائيلية بأن توصيات المستوى الامني على اختلاف اجهزته من استخبارات عسكرية و"موساد" و"شاباك" ومستشرقين في خدمة هذه الاجهزة، تراعي في العادة المستجدات السياسية والاجواء العامة وتتماشى معها إلا في ما ندر. ومن هنا محاولتنا حصر الموضوع في مستواه السياسي لتفكيك بنيته ومنطقه. سبق تقديم لائحة الاتهام ضد بشارة سيل من التحريض والتهويش منذ بدأ حزبه، "التجمع الوطني الديموقراطي"، بتنظيم زيارات الاهل الى سورية بدون اذن رسمي اسرائيلي أو اشراك حد أدنى لجهة اسرائيلية. كانت المبادرة تبرعمت على وقع العلاقات بين بشارة وحزبه وبين الحكومة السورية واصر حزب "التجمع" على ابقائها بمنأى عن اي تدخل اسرائيلي حتى تم تعليق الزيارات نهاية العام الماضي. وهذا بالتحديد اغاظ الاوساط السياسية الرسمية في اسرائيل. وكانت الاغاظة طالت قوى سياسية وحزبية خارج السلطة ايضاً ومنها الفاعلة داخل المجتمع الفلسطيني ذاته، وسنأتي الى هذه الزاوية المظلمة لاحقاً. ووسط تفاعل هذه المسألة جاءت هبة اكتوبر العام 2000 لتكون مناسبة اخرى تعزو فيها الجهات الرسمية الاسرائيلية صدامية المجتمع الفلسطيني وحزمه في مواجهة قوات الامن الى "التجمع" والواقف في قيادته عزمي بشارة. وقبل ان تخف حدة التحريض السياسي والامني ضد بشارة وحزبه جاءت تصريحاته في سورية بخصوص حق اللبنانيين والفلسطينيين على العرب والانظمة ان يوسعوا لهم حيز المقاومة من خلال الدعم على اشكاله. ولم يكن في تصريحات بشارة هذه أي جديد خصوصاً انه اطلقها في اكثر من مناسبة من على منصة "الكنيست" وعلى مسمع ومرأى من قيادات اسرائيل ووسائل اعلامها. لكن التعاطي مع المحاكمة بهذا التسلسل للاحداث لا يساعد في فهم دواعيها الحقيقية، فهذه كامنة في ما هو أعمق. لا يختلف عاقلان في ان هذا الشكل من التعاطي - التدابير الاجرائية - شكل بدائي تلجأ اليه الانظمة المستندة الى القوة لا الى الشرعية. وينبغي ان نعترف لعزمي بشارة بأنه شخصياً شكل في طروحاته ومداخلاته تحدياً جسيماً امام اوساط الحكم والنخب في اسرائيل. ثم تحول هذا التحدي بفعل آداء بشارة ونزعته الى توكيد عزة النفس العربية عموما والفلسطينية في مواجهة السلطة الاسرائيلية وسياساتها الى فكرة وقوة وحضور تحشيدي تنويري يتجاوز حدود اسرائيل و"يناوش" في المساحة الشرق اوسطية خصوصاً محور القاهرة - الشام مروراً برام الله وتعريجاً على بيروت وصولاً الى الخليج. والجديد ان الانطلاقة لهذا الاشراق السياسي الفكري، لهذا الامل العربي يأتي في هذه المرة من الناصرة، من قلب الجليل الذي اعتبر اهله حتى الامس القريب "ايتاما على موائد اللئام" او لقمة سائغة في "فم الوحش الصهيوني"! في هذا البعد جسد بشارة وحزبه واداؤه نهوضاً قومياً لدى المجتمع الفلسطيني في اسرائيل نزعته الواضحة نحو ممارسة الهوية العربية الفلسطينية الجمعية على ما تعنيه من استحقاقات ممارساتيه سياسية وتنظيمية. وكان هذا المجتمع راوح سنوات غير قليلة في تثبيت هذه الهوية وبنائها من جديد على الارض في الوطن رغم غرابة الدولة وعدوانيتها. ومثل هذا التطور طرح الف سؤال مجلجل عن طبيعة الدولة اليهودية وكاشف لتناقضاتها ومحرج لنخبها وبالذات يسارها وقياداتها لا سيما ما طرحه من فكرة "دولة كل مواطنيها" كبديل لحالة مازقية تتخبط بها اسرائيل وتورط فيها الشرق الاوسط برمته. فقد جاء بشارة وحزبه بطروحات تنبني على ادراك تام للحالة الاسرائيلية، على خفاياها وتفاصيلها الدقيقة. وتتميز بقدرة غير مسبوقة على تفكيك بنى الفلسفة السياسية والايديولوجية في اسرائيل. اضافة الى هذا فإن بشارة وحزبه اشّرا بوضوح وجرأة على موقع المجتمع العربي الفلسطيني من معادلة الصراع الاسرائيلي العربي العام. فلم يعد المجتمع العربي في اسرائيل اقلية تسعى الى حراك اجتماعي والى تحسين مستوى المعيشة ومستوى التمثيل في هرم النظام الاسرائيلي بل تعدى الحدود المرسومة له اسرائيلياً وتجاوز الطوق المفروض عليه في فكره وممارسته او على الاقل اثبت قدرته على ذلك. فما فعله بشارة وحزبه اكد ان هناك افق حياة وتطور وحراك للمجتمع الفلسطيني في اسرائيل يتعدى حدود الدولة اليهودية والهامش الذي تخصصه له. فتحرك بشارة وحزبه على نحو مستقل في مساحة الشرق الاوسط واقامة علاقات تشب فوق مصلحة الحكومة والنخب في اسرائيل فتح الافق الشرق اوسطي لا وعياً دافعاً ومحركاً ومنظماً للمجتمع الفلسطيني في الدولة اليهودية. وفي هذا تعزيز نوعي معنوي لهذا المجتمع في مواجهته السياسات الاسرائيلية. مثل هذا التطور في المحصلة يلغي حالة الحصار المفروضة على المجتمع الفلسطيني في اسرائيل منذ النكبة ويشطب الحدود المفتعلة بينهم وبين فضائهم العربي ومجموعة انتمائهم الكبيرة في الجهات الثلاث، شمالاً وجنوباً وشرقاً وفي العمقين المغاربي والخليجي! فكأن السيادة الاسرائيلية بما تشكله من قدرات وردع غير قادرة على صد هذا الانتماء عن النمو والمرور عبر حدود القوة الاسرائيلية - وهي حدود لم تصادق عليها الشرعية الدولية بالكامل بعد - نحو مجموعة الانتماء. وهي تصير هنا منظومة معايير وتطلعاً وخطاباً. ويشار هنا الى ان ثورة الاتصالات والفضائيات وما تم في هذا الباب في العالم العربي ساعدت على تسريع مثل هذا التحول ودفعه بسرعة اختراقاً لحاجز اسرائيلي صمد ردحا غير قصير من الزمن. ولهذا التطور مرجعية قانونية دولية تمثلها النصوص والمواثيق المتعلقة بحقوق الاقليات والسكان الاصليين. فإقامة علاقات حرة طبيعية بين الاقلية في دولة ما وبين مجموعة انتمائها خارج دولتها هي من صلب حقوق الاقليات بعد الحرب العالمية الثانية. كما تنص هذه المواثيق على الاقرار بحقوق الجماعة السياسية وبضمنها حق تقرير المصير. وقد ادرك بشارة وحزبه هذه الحقيقة واستثمروها مستأنفين على صيغة "الدولة اليهودية الديموقراطية" وعلى قوانين اللعبة الاسرائيلية فيما يتعلق بالدور المحفوظ للمجتمع الفلسطيني داخل الدولة العبرية. لم تحب النخب الاسرائيلية اقدام بشارة وحزبه وقوى وطنية حولهما على جر المجتمع العربي الفلسطيني في اسرائيل بضع خطوات خارج "منطقة الحرام" الاسرائيلية. وقد كانت المقولة في هذا مزدوجة وواضحة: "نحن لسنا اسرائيليين ولا يمكننا ان نكون، ونحن عرب فلسطينيون ولا يمكننا الا ان نكون كذلك"، ويقينا انه من غير المريح على الاطلاق ان تقف النخب الاسرائيلية امام قوة متواضعة لكنها واعدة وحبلى بالمفاجآت وبالاحتمالات تعلن جهاراً وفي الساحة العامة: "ما كان من قبل لن يكون من بعد، وما تيسر لكم حتى الآن سيتعسر عليكم بعد الآن". محاولة جريئة للامساك بزمام امور الذات الجمعية والتأثير على مصيرها بربطها بالفضاء العربي عوضا عن تقييدها عنوة بالعجلة الاسرائيلية. وهنا اكتشفت النخب الاسرائيلية انها انما مارست خداع النفس بظنها واعتقادها بأنها أسرلت العرب داخل وجرتهم الى فضائها بمجرد انها اتاحت لهم هامشا لحراك ما وللعبة برلمانية محدودة الضمان وان مستوى معيشتهم تحسن بما لا يقاس بالنسبة لابناء جلدتهم في الاردن وسورية كأن الانتماء يحسم بمثل هذا المحفزات وكأن التاريخ الاخضر يحرق بلحظة راهنة، وكأن سعة الفضاء العربي تحجب باسلاك شائكة! حالة مخيفة حقاً ان تكتشف النخب الاسرائيلية انها اخفقت وان هناك من هو مستعد للاعتراف مرفوع الرأس بأنه المسؤول جزئياً عن حصول هذا الاخفاق. وهي غير معتادة من العربي في الداخل على عنفوان بهذه الحدة وعلى تحد بهذا العنفوان. وهي غير معتادة على اصرار كهذا لممارسة الهوية والحقوق الجمعية. فالجماعة التي ارادتها ملفاً منسياً في المسألة الفلسطينية، ملحقاً ثانوياً منتهياً من ملاحقها صارت من ليلة الى ضحاها رقما لا يمكن شطبه من معادلة الصراع الاسرائيلي العربي ولا يمكن اخضاعها للمشيئة الاسرائيلية. والذي يستعرض ردود فعل الاسرائيليين اليهود على تطورات السنتين الاخيرتين لدى المجتمع الفلسطيني في اسرائيل سيكتشف ان الاسرائيليين بيسارهم ويمينهم انما انتجوا في المخيلة "فلسطينياً اسرائيلياً" او "عربياً اسرائيلياً" وحاوروه وصالحوه وتحدثوا بإسمه وعقدوا الصفقات معه واغلقوا ملفه وذلك استجابة لنزعات القاهر فيهم الذي يريد ان يؤمن بأن المقهور راض عنه ويمنحه شرعية ما وبأنه - المقهور - "لطيف" و"دمث" ولا يمكن في النهاية ان يكون باعثا للخوف او التوتر مهما تكن السياسات المعتمدة في التعامل معه. اما اذا حدث وعصى فإنه لن يقلب ظهر المجن وسيظل بإمكاننا ان نهدئ من روعه! الا ان الامور جرت مجرى آخر لتنبعث المخاوف كلها دفعة واحدة فوق الخيبة وفوق اكتشاف الخديعة الذاتية. وهنا كان لا بد من الرد. ومحاكمة بشارة هي شكل من اشكال الرد لن يكون الوحيد ولا الأخير. فقد باشرت أوساط سياسية يمينية النزعة العمل على اعتماد تشريع قانوني يحرم بشارة وحزبه او اي قوة مماثلة في الطرح من خوض الانتخابات التشريعية. وهناك من يطالب بسحب المواطنة الاسرائيلية من بشارة وامثاله. بل اقترح احد الوزراء التخلص منه بصلبه على مرمى خلية رماية! ومما اضاف الى العدائية الاسرائيلية لبشارة وحزبه كونه استطاع بطروحاته ان يربك اليسار الاسرائيلي الصهيوني ومذاهبه بالذات ويكشف القصور السياسي والخلاقي في مشاريع وبدائل يقترحها للمجتمع الاسرائيلي والدولة اليهودية. فقد فجر في المنابر الاكاديمية والسياسية والاعلامية كذبة يهودية الدولة المقرونة بديموقراطيتها. وهدم الكثير من المباني والانماط السائدة في العلاقات والشراكات اليهودية والعربية لا سيما استطاعته ان يؤشر بقوة على خيار الاوتونوميا والنزعة لاستقلال ذاتي وامكانية بناء قدرات ذاتية وخصائص لمجتمع ناهض. وفي هذا منتهى الازعاج للدولة اليهودية ونخبها لا سيما ذات النزعة الليبرالية التي ترى في هذا التوجه رفضا من المجتمع الفلسطيني في اسرائيل لمنح الدولة العبرية شرعية مفقودة واستئنافا واضح الاتجاه ل"المعاهدة الاجتماعية" القائمة ورغبة في صياغة اخرى أكثر انصافاً وعدلاً! أي ان بشارة وحزبه ومن حولهما من قوى أشاروا بقوة إلى رغبتهم في تفكيك كل البنى القائمة لصالح بنى جديدة يكون العربي فيها شريكاً حاضراً ونداً مساوياً ومتكافئاً لا "حاضراً غائباً او مغيباً"! ولمثل هذا التوجه استحقاقات على الدولة العبرية ان تدفعها مرة واحدة او بالتقسيط غير المريح! ومن المفاوقات المقلقة في ما حصل عشية مقاضاة بشارة حقيقة ان قوى سياسية فلسطينية عربية في اسرائيل اسهمت من حيث تدري و/أو لا تدري في اشاعة جو من العداء لبشارة وحزبه وفي اخراجه بعيدا عن دائرة شرعية العمل السياسي والحيز العام بأنها اتفقت مع السلطة واحزابها على اعتباره "متطرفا" و"راديكاليا" و"خطرا". وقد اسهم هذا في تسهيل المهمة على النخب الاسرائيلية في مهمتها صد التحول الذي يجسده بشارة وحزبه. وهنا ضاعت المصلحة الجمعية القومية الاستراتيجية على مذبح المصالح التكتيكية المؤقتة كما ضاعت مصلحة الثور الاحمر في مدونة "كليلة ودمنة". من مفارقات محاكمة بشارة انها تجري في محكمة قائمة في بلدة "نتسيرت عليت" - اي في "الناصرة العليا" - وقد بنيت في اطار مشروع تهويد الجليل قرب الناصرة التاريخية لسرقة اسمها المقدس ولمنع تطورها شرقاً وشمالاً. هذا يعكس مجمل الصورة، فكأن الكولونيالي الغريب عن المكان يقاضي اهل البلاد الاصليين على مجرد بقائهم فيها وتأكيدهم انهم باقون وراغبون في عيش حر كريم! وكان حرياً ان تكون الصورة معكوسة. وربما كانت المحاكمة فرصة لأن نجعلها لائحة اتهام حقيقية ضد الدولة اليهودية ونخبها. اما الدعم الوافد الينا من اوروبا والشام ولبنان والخليج فإنه يعزز فينا الامل ويمكننا من الصمود في هذا الامتحان وتحويله الى نصر اخلاقي لنا كعرب على الدولة اليهودية. وهذا ليس من مهمات بشارة وحزبه فحسب بل مهمة الجماعة الفلسطينية في اسرائيل بكل فعالياتها الحزبية والسياسية والاجتماعية. * كاتب فلسطيني - دالية الكرمل.