لا يمكن تصفح منشورات "مراسلين بلا حدود" الفرنسية من دون الشعور بشيء من الرعب... فالمنظمة المعنية بحماية أهل الإعلام تنشر يومياً كل الافتراءات التي ترتكب بحق الصحافيين في العالم. كما تنشر المسلسل الأسود الذي يتعرضون له من قتل وجرح واعتقالات. ففي الأسبوع الماضي أسبوع هادئ نسبياً قُتل مراسل صحيفة "كورييري دي لا سييرا" الايطالية، واعتقل صحافيون في الكونغو، وتم اغلاق صحيفة مستقلة في جزر السيشل، وقتل صحافي في رواندا، وسجن أربعة في كوبا، وجرت محاكمة صحافي في إيران، واعتقال آخر في بلجيكا، ومنع مراسل استرالي من العمل في اندونيسيا واعتقل صحافي أردني لأنه "أساء إلى سمعة الدولة"... الخ. هذه اللائحة المختصرة ل "مراسلين بلا حدود" خلال أسبوع واحد تُظهر كم أن المهنة وشروط العمل تزداد صعوبة يوماً بعد يوم، على رغم كل ما يقال ويشاع عن نجاحات الديموقراطية والتزام الدول احترام الحريات العامة. بيد أن مبدأ احترام حرية الرأي بدأ يغدو مقروناً بعبارة قد تختلف من دولة إلى أخرى، لكنها تزيل مفعوله. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحترم بالطبع حرية الرأي بعد انعدامها خلال قرن شيوعي، ولكن "بشرط أن تخدم المصالح الحيوية للبلاد". وكوبا تكفل حرية التعبير، غير أن عليها أن "تطابق أهداف المجتمع الاشتراكي". وفي الصين على الصحافة أن تكون في "خدمة الشعب". أما في دول أخرى فقد غدت تهم الطعن والتشهير والنيل من شرف المهنة، الحجج العظمى لمنع أي تحقيق عن الفساد والرشوة. كذلك هناك دول اخترعت جنايات جديدة. فمقدونيا تعاقب الصحافيين بتهمة "قلة الاحتراف" لو أن مسؤولينا السياسيين محترفو ديموقراطية لأمكن دعم هذه الجناية اذا ما أفلصقت بالإعلام العربي. وبورما تسجن كل متهم باشاعة "أفكار غير صحيحة". وفي لاوس هناك غرامة لمن يستخدم انترنت "بطريقة سلبية". وفي كينيا هناك عقوبات لمن ينشر أخباراً صحيحة لكنها قد تثير الخوف! أما في النيبال، فعلى أجهزة الإعلام السمعي ارسال اخبارها إلى وزارة الإعلام وانتظار أسبوع قبل بثها. ومنظمة "مراسلي بلا حدود"، التي تغيظ بعض الأنظمة العربية، قدمت مؤخراً ملفاً عن انتهاكات حقوق الصحافيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة. فمقتل الصحافي الايطالي سيزيللو لم يكن سوى فاجعة واحدة ولو أنها كبرى. العديد من مراسلي الصحف والمحطات السمعية المرئية كمراسلي "الجزيرة" أو التلفزيون المصري تعرضوا لاطلاق نيران عليهم من قبل الجيش الإسرائيلي، والمحاكم الإسرائيلية كانت في معظم الأوقات لا تقوم بأي تحقيق جدي في ما جرى، بل تبرر اعتداءات الجيش على الإعلاميين وبالمناسبة، سهرة الدعم للجيش الإسرائيلي التي جرت في باريس أدت أيضاً إلى ضرب مراسل صحيفة "ليبراسيون" على وجهه من قبل الميليشيات اليهودية المتطرفة. في هذا الجو القاتم تصل التقنيات الحديثة لتنجد الصحافيين وكذلك موازنات المؤسسات الإعلامية. آخر Software تتداول الناس في أمره يدعى Newsblaster، ويستطيع كتابة ريبورتاج صحافي بعدما يكون قد هضم مصادر إعلامية عدة. مركز Online Journalism على الويب يعطي لمحة عما يمكن لهذا "السوفتوير" القيام به: "الاربعاء، في حصن مدمر بعد انتفاضة دموية دارت ثلاثة أيام، بدأ مقاتلو حلف الشمال اخراج الجثث ووضعها قرابة خمسين جثة طالبان. بعض الجثث كانت أياديها مربوطة بحزام أسود..."، هذا النص لم يبعثه أي مراسل أجنبي في أفغانستان. إنه من خلاصة عدد من المعلومات التي نهل منها "نيوزبلاستر"! فوليد جامعة كولومبيا الأميركية يستعين بتقنيات الذكاء الاصطناعي لقراءة المعلومات، فيستبقي ما يرغب منها ويقوم بتلخيصه، حسب "حسه الصحافي". النص المذكور أعلاه هو خلاصة اثنين وثلاثين مقالة صدرت خلال ثلاثة أيام في عدد من وسائل الإعلام العالمية. مخترعو هذا "السوفتوير" يؤكدون أن اجيال السنوات المقبلة ستكون اكثر دهاء وحساسية وانها في بداية الطريق! اختراع آخر، ظهر في مركز Salor Magazine على شبكة انترنت، يقضي بإرسال آلة مجهزة بكومبيوتر الى أرض المعركة عوضاً عن مراسلين ومصورين، تفادياً لسياسات الدول، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة، التي تمنع وسائل الاعلام من تغطية ما يجري خلال المعارك: حرب الخليج، احتلال جزيرة غرانادا، بعض معارك افغانستان... والآلة الجديدة التي ظهرت في مطلع هذه السنة سميت ب"أفغان اكسبلورير" تيمناً بالحرب الأخيرة. مسوّقوها يقولون انها، على عكس الصحافيين، لا تحتاج الى التوقف لتناول الطعام أو لقضاء حاجات شخصية، بل كل ما تريد هو تشجيع "محركيها" من بعد على المثابرة وحرارة الشمس لأنها مُسيّرة تبعاً للطاقة الشمسية. وعلى رغم ان هذه التقنيات الجديدة لم تدخل بعد عالم الاعلام، غير ان اللجوء الى بعض منها غدا من طبيعة العمل الصحافي وبرامج كليات الاعلام. والعالم العربي السبّاق الى الجديد التقني قد يستخدمها قبل غيره. فدولنا التي قفزت في العقدين الأخيرين من موقع انعدام الدولة الى ما بعد الدولة، والمثال اللبناني "نموذجي" في توصل المواطن الى الاستغناء عن خدمات الدولة، قادرة اليوم على القفز مما قبل الإعلام الى ما بعد الصحافيين، وبشروط مادية في غاية الاغراء.