عندما تتبنى القمة العربية الأسبوع المقبل - من دون تحفظ العراق - رؤية السلام الكامل مع إسرائيل في مقابل انسحابها الكامل من كل الأراضي التي احتلتها عام 1967، فإنها تضع المنطقة على عتبة جديدة قد تجنبها مزيداً من الحروب، تخاطب الرأي العام العالمي بلغة التعقل ومنطق العقل وتقلب المعادلات التقليدية ضدها لحسابها. إنها فرصة فريدة لتوجيه رسالة مبسطة وواضحة قوامها انهاء الاحتلال وقيام دولة فلسطين في الشق الفلسطيني، وإزالة الاحتلال عن الأراضي السورية واللبنانية وتوقيع سورية ولبنان معاهدة سلام، واستعداد كل الدول العربية للقبول بإسرائيل ضمن حدود آمنة والتطبيع معها في إطار السلام الشامل. مثل هذا الموقف يؤكد مرجعية السلام التي وضعها مؤتمر مدريد عام 1991 ويقفز إلى خلاصة المفاوضات بوضوح تام، بدلاً من التخبط في "عملية" السلام التي استهلكت. فبتبني رؤية عربية بإقدام وبمبادرة عربية، تكون الحكومات العربية تصرفت حقاً من منطلق القيادة بالمعنى الدقيق للكلمة، بقراءة معمقة للرأي العام العربي الذي رفضت أكثريته الانجرار وراء تحريض نخبة معظمها فقد الوعي وحس المسؤولية باعتماد اسلوب الشتيمة وتفريغ الاحباط على شاشات التلفزة وصفحات الصحف. تتوافر اليوم مقومات ملموسة لاخراج الملف العربي - الإسرائيلي من قبضة الانطباع الذي سوّقته إسرائيل والمجموعات العاملة لها في الولاياتالمتحدة، والذي صوّر الطرف العربي معتدياً ومتصلباً ومتعنتاً في رفضه إسرائيل والسلام معها. المبادرة التي طرحها ولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز قلبت المقاييس على ذلك الانطباع ونيات تكمن وراءه، ومن شأن القمة العربية في بيروت أن تعزز الانجاز وتبني عليه بتبنيها مبادرة الرؤية. ففي تبسيط الموقف العربي مخاطبة للرأي العام العالمي على أساس ما هو عادل وواضح، مخاطبة لحس العدالة لدى الإنسان أينما كان. وهذا ما لم يسبق للعرب أن قاموا به، فيما استقطاب التعاطف الأميركي مثلاً كان ممكناً لو تمت مخاطبة حس العدالة بمواقف مبسطة وواضحة بتماسك وبصبر بهدف الاقناع. المقومات السياسية التي يمكن البناء عليها قد تكون، للمرة الأولى، كافية لانهاء النزاع. فالرؤية الأميركية تحدثت عن انهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطين من خلال التفاوض على أساس القرارين 242 و338. ورؤية الأمير عبدالله، التي تدعمها الإدارة الأميركية، واضحة في طرح معادلة الانسحاب الشامل إلى حدود 4 حزيران يونيو 1967 والسلام والتطبيع الكامل بتكامل بين الشقين. وقرار مجلس الأمن الرقم 1397 سجل الشرعية الدولية لقيام دولة فلسطين إلى جانب إسرائيل ضمن حدود آمنة وذلك للمرة الأولى في تاريخ المجلس وبمبادرة أميركية. جمع هذه المواقف التي ستصبح وثائق عندما تتبنى قمة بيروت الرؤية العربية، يساوي خريطة الطريق إلى تسوية النزاع العربي - الإسرائيلي بوضوح نقطة الانطلاق والمحطة النهائية. عندئذ، على إسرائيل، قيادة وشعباً، أن تقرر ما تريد أمام اجماع العالم، قيادات وشعوباً، على خريطة التسوية وطريقها. صورة إسرائيل اليوم على الساحة الدولية قاتمة بسبب ما أوصلها إليه رئيس الوزراء ارييل شارون بعقليته الأمنية الفاشلة التي تستند إلى البطش. حتى على الساحة الأميركية، حيث ينحاز الإعلام إلى إسرائيل تقليدياً ويجهل الفرد العادي القضايا الدولية، بدأت تظهر بوادر التململ من إسرائيل وخياراتها، إذ سقطت ذرائعها التقليدية. ومما ساهم في اسقاطها أولاً، ترابط الانتفاضة بالشق السياسي من الطروحات الفلسطينية التي أوضحت خيار السلام، وثانياً المبادرة السعودية لايضاح معالم السلام والتطبيع في مقابل انهاء الاحتلال كلياً. داخل المجتمع الاسرائيلي مقدار كبير من الانقسام، فجزء من القاعدة الشعبية ما زال في أحضان التطرف وجزء آخر يستدرك عواقب تغيبه عن المساهمة في القرار. كذلك، على ساحة القاعدة الشعبية انقسام، إذ يعارض جزء الحل السلمي ويرى في نشوة "الانتصار" ضرورة تبني الكفاح المسلح بديلاً من السلام، ويوافق جزء آخر قيادته على تجنب الانفعال لأن نشوة النصر زائلة بعد شهور اذا استمرت الحرب والقتال. يوجد ايضاً في المعسكرين من يمتلك من الشجاعة مقداراً يضع نبله في مرتبة عليا. هؤلاء هم أهالي الضحايا من الفلسطينيين والاسرائيليين الذين حملوا النعوش الرمزية من تل ابيب الى نيويورك الى واشنطن، 800 منها مكسوة بالعلم الفلسطيني، و250 بالعلم الاسرائيلي، ليقولوا كفى. السيد خالد محمد عبدالقادر البو، وقف بين النعوش والألم يطل من تجاعيد وجهه، سمعني اتحدث بالعربية فاقترب وتساءل: "أين الوجود العربي؟"، اخبرنا انه فقد ابنه فراس، طالب الجامعة، قبل 20 يوماً فقط. هذا الرجل، ابن الخليل، الذي يعرف معنى الاحتلال والإذلال ويعرف أسى الفقدان، دفن فلذة كبده ثم حمل نعشاً رمزياً ملفوفاً بعلم فلسطين ووقف مع أبٍ اسرائيلي ألمه ليس أقل وابنته في نعش رمزي آخر لُف بعلم اسرائيل ليقولا معاً: كفى جنازات، أمامنا خيار آخر. وإلى حين تحقيق ذلك الخيار، النظر الى الصورة الواسعة صعب جداً، لا سيما عندما تكون الصورة المحلية بذلك المقدار من المعاناة يومياً. وتفجر الغضب من ممارسات اسرائيل ضد الفلسطينيين قد يكون عنصراً مساهماً في وقف تسلطها. فما أعرب عنه الأمين العام للأمم المتحدة، كوفي انان، من امتعاض ومطالبته شارون بوقف القمع وانتهاك القانون الدولي والانساني، واستهداف سيارات الاسعاف وقصف المدنيين الأبرياء، جاءا صرخة مهمة في وجه إسرائيل لفضح رئيس وزرائها. إنما من الضروري أيضاً، من أجل عدم فقدان القدرة على النظر الى الامور الاستراتيجية، الا يتم التقوقع في الإطار المحلي بما يعمي عما يجري على النطاق الأوسع. المهم قراءة التطورات في السياسات من ناحية الجوهر وليس فقط من ناحية الشكل. وكمثال، نائب الرئيس الاميركي ريتشارد تشيني، أثار الاستياء بسبب تجنبه لقاء الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، فيما اجتمع مطولاً مع شارون، كما بسبب ربط لقائه عرفات بأرضية وقف العنف أولاً. من وجهة النظر الفلسطينية هذه صفعة لشرعية تمثيل الشعب الفلسطيني و"الشرعية تكمن في الشكليات"، كما يقول أحد أقطاب السلطة الفلسطينية، كما ان "الجوهر بمفرده ليس كافياً"، والإدارة الاميركية تتصرف كأنها تريد "دولة فلسطينية بديلة من شرعية التمثيل الفلسطيني". وأشار هذا المسؤول الى الفارق بين الرئيس السابق بيل كلينتون الذي "تعاطى مع التمثيل والقيادة الشرعية للشعب الفلسطيني" وبين الرئيس جورج دبليو بوش الذي رسخ الالتزام بدولة فلسطين وخفف ابراز شرعية التمثيل. في هذا الكلام كثير من المنطق، إنما ايضاً الكثير من خلط الأولويات. فقيام الدولة الفلسطينية أهم من شكليات غياب لقاءات لن تقضم من شرعية التمثيل مهما تأخر موعد اللقاء. ثم ان تشيني ضغط على شارون ليضمن عدم عرقلته أو تعطيله توجه الرئيس الفلسطيني الى القمة في بيروت. فأيهما أهم: مصافحة تشيني وعرفات في رام الله أو مشاركة الرئيس الفلسطيني في القمة التي قد تكون أهم قمة عربية في بعدها المعني بالقضية الفلسطينية؟ وللتأكيد، المسافة بعيدة بين ما تقوم به الادارة الأميركية في نطاق صنع موقف سياسي متطور جداً من القضية الفلسطينية، وبين ما لا تفعله ميدانياً للضغط على شارون كي يوقف بطشه وحقده واجراءاته الرامية إلى اضعاف السلطة الفلسطينية. إحدى وسائل التصدي لتكتيك شارون الرامي إلى إضعاف السلطة من خلال إفلاسها، تكمن لدى القمة العربية. هناك يمكن أن يقترن القرار السياسي باجراءات فعلية وفاعلة من خلال تمكين السلطة مالياً لتتمكن من دفع الرواتب والتصرف كسلطة. وإذا كان الفلسطينيون الآن في حاجة إلى الدعم السياسي وشراكة الدول والحكومات العربية في القرارات السياسية، فإن حاجتهم إلى الأموال أكبر كي يتمكنوا من الوقوف في وجه شارون الذي يحاصرهم ويحتجز أموال السلطة. ولاثبات الجدية، على القمة ان توفر بليون دولار اضافية إلى التعهدات السابقة، على أقل تقدير. فالسقف السياسي للقمة باتت نتائجه شبه واضحة. ولربما يكون الموقف العراقي بين ما سيفرز من مواقف لافتة، وهو بحسب المعلومات لن يتحفظ عن قرار الرؤية. وحسناً تفعل بغداد بذلك، إذ تكون في صدد تفكير جديد واعٍ للبيئة الاقليمية والدولية ولمتطلبات سحب الذرائع مع تمكين البيئة العربية من البناء على مثل هذا التفكير. فإذا اقترن التغيير في الموقف من الشق المعني بالنزاع العربي - الاسرائيلي مع عزم العراق على فتح الباب لعودة المفتشين، ومع تعزيز خطاب سياسي بنّاء نحو الجيرة، قد تصبح مستبعدة تلك الضربة العسكرية التي تفكر الإدارة الأميركية بتوجيهها إلى العراق. فمواقف الدول التي زارها تشيني تماسكت في معارضة ضرب العراق كما في تركيزها على القضية الفلسطينية، ما أجبره على تحويل مهمته من التركيز على العراق الى التركيز على الموضوع الفلسطيني - الاسرائيلي، ودخوله شخصياً طرفاً في دعم مهمات الجنرال انتوني زيني لتحقيق وقف النار. المهم الآن ان يحدث تزامن وموازاة بين شق وقف النار والاجراءات الأمنية وبين شق العملية السياسية، والمهم ان يعمل القادة في القمة على وضع تصور لكيفية استئناف المسارات السوري واللبنانيوالفلسطيني من العملية السلمية، وليس الفلسطيني فقط. ومع انتقال رئاسة القمة من العاهل الأردني الملك عبدالله الى الرئيس اللبناني اميل لحود، لا بد من الاعتراف بما انجزه الملك الشاب منذ توليه رئاسة قمة تبعثرت فيها المواقف العربية وخلت من المبادرات. فهو حرص على التشديد على الأسس الرئيسية مثل استحالة استبعاد المعادلة السياسية. وخاطب الرأي العام الأميركي والعالمي مرات لشرح وجهة النظر العربية، واثر في ذلك المجال. وهو زار أميركا ثلاث مرات للتأثير في تفكير جورج بوش وليؤكد مركزية استمرار الدور الأميركي وأهمية نفوذه لدى اسرائيل. والملك عبدالله طرح أيضاً فكرة أسلوب "السلتين"، سلة الدولة الفلسطينية ضمن حدود 4 حزيران يونيو 1967 وسلة الاعتراف بإسرائيل واعطائها ضمانات أمنية، على الساحة الأميركية. ومع تسلم لبنان رئاسة القمة العربية في ظروف تاريخية، توجد فرص عديدة له ولسورية لأخذ القمة الى عتبة جديدة، إذ نادراً ما لاقت قمة عربية هذا المقدار من الاهتمام العالمي، ونادراً ما كانت امام قمة عربية فرصة مخاطبة الرأي العام العالمي عبر وسائل الاعلام الغربية، لإيصال رسالة الوضوح المبسطة. فعساها موفقة. راغدة درغام - نيويورك