لا يزال أرييل شارون يبطش ويزداد فتكاً وتقتيلا، إلا أنه قد هُزم. بات ذلك في حكم اليقين، ما لم ينجده الطرف الآخر، أو بعضه، بخطأ فادح في الحسابات أو في السلوك، يعيد إلى رئيس الحكومة العبرية هامشاً من حركة ويمدّه بنفَس جديد، ولو إلى حين. وخطأ كهذا ينتهزه شارون في ارتكاب المزيد من المجازر وفي سفك المزيد من الدماء، وفي تأجيل التوصل إلى تسوية لا يريدها لكنها، من وجه آخر وبقوة الأشياء، أمر لا مناص منه. فإذا سعيه إلى التهرب منها فعل محض عبثي، الا انه عبث قاتل مدمر، وقوده الناس والطبيعة. فأرييل شارون يبدو أنه لا يمتلك خطة "ب"، يلوذ بها بديلا عن تلك التي وضعها نصب عينيه منذ صوله إلى سدة الحكم. حتى إذا ما فشلت هذه الأخيرة لم يجد ما يفعله سوى الإمعان فيها، معتبرا ربما أن تصعيدها كمياً، كفيل بمفرده بسدّ ثغراتها وبتدارك إخفاقاتها. وأما الخطة المذكورة، فبسيطة معلومة، تقوم على نسف فكرة التسوية من خلال السعي إلى إلغاء الشريك المحتمل فيها، أي الوطنية الفلسطينية، تلك المعترف بها دولياً، سواء تجسدت في السلطة الوطنية أو في سواها من الهيئات الناظمة للوجود الجماعي للشعب الفلسيطيني. وغني عن القول إن الخطة تلك، مثلها في ذلك مثل أي فعل تطرف، لا عقلانية ومجنونة، لأنها تنافي منافاة جذرية عناصر الواقع، تلك التي لا يمكن حتى للقوة أن تغير من أمرها شيئا. وهي، لأنها كذلك، بصدد الارتداد على صاحبها. لكل ذلك، فإن الكفة باتت راجحة، على الصعيد السياسي، لصالح الجانب الفلسطيني، على نحو واضح لا لبس فيه. وليس مهما ما إذا كان ذلك عائدا إلى كفاءة الطاقم القيادي الفلسطيني أم إلى تعنت شارون وتهوره. والحقيقة أنه بلغ من إسراف هذا الأخير في العنف، وفي استهداف المدنيين من سكان مدن ومخيمات الضفة والقطاع، ما قد يبهّت حتى من مفعول العمليات التي نفّذها بعض الفلسطينيين ضد أهداف مدنية داخل "الخط الأخضر"، تلك التي جلبت عليهم استياء العالم الخارجي أو عدم تفهمه، وتلك التي طالما تذرع بها شارون وتوسّلها. الصورة إذاً مغايرة تماما بالنسبة للفلسطينيين عما كانت عليه قبل أسابيع قليلة، خصوصاً غداة حدث الحادي عشر من أيلول سبتمبر، وما كان ينذر به من تداعيات وخيمة عليهم. هم مدينون في ذلك إلى صمودهم، ذلك الذي كان فاعلا في استنفاد خطة رئيس الوزراء الإسرائيلي الآنفة الذكر. وهم إلى ذلك باتوا "يمتلكون" مبادرة ولي العهد السعودي، الأمير عبد الله، خصوصاً إذا ما تبنتها قمة بيروت وحولتها إلى مبادرة عربية، ومساندة أوروبية متزايدة وصريحة، بعد أن اعترى أوروبا فتور أو إعياء أو ضمور، في الأشهر الفائتة. كما بات يوجد إلى جانبهم، وإن موضوعيا، حرج أميركي متزايد حيال تصرفات شارون، تلك التي باتت تبدو مشتطّة حتى في نظر إدارة كتلك الجمهورية التي تتولى مقاليد الأمور حالياً في واشنطن! كل ذلك للقول إن المهمة التي بدأها، يوم الخميس الماضي، المبعوث الأميركي إلى المنطقة الجنرال أنتوني زيني، وإن تمحورت حول نفس البنود والعناصر التي تمحورت حولها سابقاتها أي إقرار العمل بخطتي ميتشل وتينيت تمهيداً لعودة المفاوضات، لا يمكنها إلا أن تكون مختلفة عن هذه الأخيرة. فمجرد تكليف الجنرال زيني هذه المهمة الجديدة، في حين أن المواجهات على أشدها في الأراضي الفلسطينية، بل بلغت أقصاها منذ بدء الانتفاضة، مؤشر على تغير ما في الموقف الأميركي من هذه المسألة. إذ من المعلوم أن المبعوث ذاك قد اعتاد على قطع مساعيه السابقة والعودة أدراجه إلى بلده متذرعاً، في كل مرة، باستمرار أعمال العنف، زاعما أن ذلك يعني أن الظروف غير ناضجة لإنجاح مساعيه تلك. وهو ما مثّل مقاربة غريبة تعتمدها القوة العظمى الوحيدة على وجه البسيطة في معالجة الملفات والأوضاع الساخنة والمتفجرة في العالم! هذه المرة، إذاً، يأتي زيني والمواجهة على أشدها، أي أنه يأتي للتعامل مع وضع متفجر، أي أنه، بالتالي، يأتي إطفائيا لا لمجرد السعي إلى معالجة آثار الحريق، على ما زعم في المرات السابقة على نحو ينافي كل منطق. وهو إلى ذلك يصل مدججاً ببعض الانتقادات الأميركية، غير المسبوقة من قبل الإدارة الحالية، حيال الحكومة الإسرائيلية وإسرافها في العنف، بما يكاد يوحي بأن واشنطن باتت تعرف من الذي يجب أن يُطلب منه وقف إطلاق النار. هل يعني ذلك أن مهمة زيني ستُكلل هذه المرة بنجاحٍ معلومةٌ شروطه، وتتمثل في الضغط على إسرائيل على نحو جدي وفاعل؟ ذلك ليس بالأمر المؤكد. لكن ما بات في حكم اليقين أن الجانب الفلسطيني، والعربي عموما، سجل نقطة لصالحه، حيث دفع الولاياتالمتحدة إلى العدول عن تلك اللامبالاة التي توخّتها حيال المسألة الفلسطينية منذ صعود جورج دبليو بوش إلى سدة الرئاسة، وإلى تخليها عن موقف "غسل اليد" من تلك القضية جملة وتفصيلا، ما يعني وضعها بين يدي أرييل شارون يفعل بها وفيها ما يشاء. صحيح أن للهجوم الذي تزمعه الولاياتالمتحدة ضد العراق دورا في ذلك التحول في الموقف الأميركي، وأن واشنطن تعلم أنها يتعين عليها أن تقدم إلى العرب شيئا على الجبهة الفلسطينية لتنال دعمهم، أو دعم حلفائها منهم، على الجبهة العراقية، وأن لمهمة زيني علاقة وثيقة بالجولة التي قام بها نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني في المنطقة، بقصد حشد مثل ذلك الدعم، بأكثر مما تعترف به واشنطن اذ تزعم أن المشكلتين، الفلسطينية والعراقية، مستقلتان أحداهما عن الأخرى ومتوازيتان لا متلازمتان. لكن نائب الرئيس الأميركي سمع، في العواصم العربية التي زارها، عكس ذلك. ولا يُعتقد بأنه فوجئ بذلك أو ووجه بما لم يكن متوقعا… سمع إصرارا على حل المشلكة الفلسطينية، واعتراضا على ضرب العراق، أو تحفظاً على الأقل. ولمس أن أولويات الولاياتالمتحدة ليست أولويات المنطقة، وأنه ربما تعين السعي إلى التقريب بين هذه وتلك. والأمر قد يتخذ منحى المقايضة بين دعم الهجوم على العراق، مقابل مكاسب للفلسطينيين لا تزال غير محددة المعالم، بالرغم من تصويت مجلس الأمن، قبل أيام قليلة، على قرار تقدمت به الولاياتالمتحدة، يقضي بإقامة دولة فلسطينية ذات حدود آمنة ومعترف بها، إلى جانب إسرائيل. والمقايضة تلك تطرح إشكالا سياسياً وأخلاقياً مريراً، إذ تضع العرب في موقع البذل على حساب العراق لا شفقةً على رئيسه، وعلى نظامه، بل من باب الخوف على ذلك البلد شعباً وكياناً، لنيل ما قد يتحقق لصالح الفلسطينيين. الا ان ضرب العراق يبدو أمراً محتوماً، سواء وافق العرب، وسواهم من القوى في أرجاء هذا العالم، أو لم يوافقوا. لذلك لا يبقى متاحاً غير المساومة على ضرب العراق قدر المستطاع وإلى أبعد حد ممكن، حتى لا تكون الخسارة، في المحصلة الأخيرة، مطلقة وعلى كل الجبهات.