مذ دعي ريمون إده إلى المشاركة في أعمال النواب اللبنانيين في مدينة الطائف السعودية، في 30 أيلول سبتمبر 1989، اتخذ موقفاً متشدّداً من التسوية المقترحة ومن مبدأ اجتماع هؤلاء خارج بيروت وخارج الأراضي اللبنانية. وهو ما أبلغه إلى حسين الحسيني، رئيس مجلس النواب، عندما خابره لدعوته قبل أيام قليلة. كان يركز معارضته على البنود التي تنظم العلاقة مع سورية لا على تلك المتعلقة في الشأن الداخلي اللبناني، وبقي من منفاه في باريس يتابع عثرات تنفيذ هذا الاتفاق ويشارك في اقتراحات لتصويب ما يمكن تصويبه في لبنان. عزا ريمون اده موقفه المعارض لاتفاق الطائف إلى إرغام النواب اللبنانيين على تبنّي القسم المتعلق بتنظيم العلاقات اللبنانية - السورية دونما تعديل بناء على إصرار سورية. قال: "عندما أُبلغت مضمون اتفاق الطائف كانت فيه عبارة "انسحاب" الجيش السوري. اتصلوا بي من الطائف ومنهم أمراء ودعوني إلى الحضور. قلت أريد إدخال تعديلات. قالوا تستطيع تعديل كل شيء ما عدا الفصل الثاني والفصل الرابع. وقبل أن يطّلع النواب على الإتفاق غضب الرئيس حافظ الأسد عندما قرأ فيه جملة "انسحاب الجيش السوري"، فشطبها وكتب مكانها إعادة تمركز الجيش السوري". وقال اده غداة إقرار اتفاق الطائف: "أنا موافق على معظم التعديلات الواردة في حقل الإصلاحات السياسية التي وافق عليها زملائي النواب، لكنني لا أوافق على ما ورد في الباب الثاني في ما خصّ سورية، وفي الباب الرابع … أهم ملاحظاتي هي غياب عبارة "انسحاب الجيش السوري من لبنان"، وإبدالها بعبارة "إعادة تمركز القوات السورية في البقاع وضهر البيدر وعين دارة وحمانا، وإذا دعت الضرورة في نقاط أخرى تُحدّد بواسطة لجنة عسكرية لبنانية - سورية مشتركة". أولاً عبارة "نقاط أخرى" مطّاطة، وعبارة "بواسطة لجنة مشتركة" تعني أيضاً أنه لا بد من ضغط الأعضاء السوريين على الأعضاء اللبنانيين في اللجنة. وأستغرب أيضاً التمييز بين الحكومتين، الحكومة السورية وحكومة الوفاق الوطني، وهذا ما ذُكر في نص الاتفاق. عبارة جديدة في نظامنا الديموقراطي البرلماني. كان يجب أن يقال: الحكومة السورية والحكومة اللبنانية. وأما عبارة "الوفاق الوطني" فتعني أن نصف الوزراء سيكونون من أتباع سورية أو من الموالين لها. حدود العلاقات المميزة وفي الباب الرابع تقع أسباب معارضتي في صيغة العلاقات اللبنانية-السورية. مثلاً: "تقوم بين لبنان وسورية علاقات مميّزة تجسّدها اتفاقات بينهما في شتى المجالات". هذه العبارة واسعة جداً كذلك. يمكن أن تعني حقل التربية وحقل الدفاع الوطني وخصوصاً الجيش وقوى الأمن الداخلي، وحقل الإقتصاد والتجارة. أنا ضدّ العودة إلى "المصالح المشتركة" بين لبنان وسورية التي وضع الرئيس رياض الصلح حداً لها عام 1950 أيام الرئيس خالد العظم. كذلك يقولون إن سورية الحريصة على أمن لبنان واستقلاله ووحدته ووفاق أبنائه، لا تسمح بأي عمل يهدّد أمنه واستقلاله وسيادته. هذا كلام جميل. لكننا جرّبنا هذا النوع من الضمانات قبلاً من سورية، فضربت إسرائيل لبنان مرّتين عامي 1978 و1982 ولم تحرّك سورية ساكناً، بل انسحب الجيش السوري من جزين وكذلك من بيروت. وكنت أفضّل أن تأتي الوثيقة على ذكر ميثاق الدفاع العربي المشترك الموقّع في الإسكندرية في 17 حزيران/ يونيو 1950 الذي يقول في مادته الثانية: "تعتبر الدول المتعاقدة أي اعتداء مسلّح يقع على أي دولة منها أو على قواتها، فإنها عملاً بحق الدفاع الشرعي الفردي والجماعي عن كيانها تلتزم أن تبادر إلى معونة الدولة المعتدى عليها، وأن تتخذ على الفور منفردة ومجتمعة كل ما لديها من وسائل بما في ذلك استخدام القوة المسلّحة لردّ الإعتداء ولإعادة الأمن والسلام إلى نصابهما". وبكل أسف أقول إن الدول العربية لم تتدخّل للدفاع عن لبنان، لا البارحة ولا اليوم، ما دامت اعتداءات إسرائيل مستمرة وخصوصاً في جنوبلبنان. وعندما اعتدى الجيش السوري على المسلمين في بيروت الغربية عام 1976، وعلى المسيحيين في بيروتالشرقية عام 1978، وعندما دخل مدينة طرابلس في ما بعد، لم تتحرك الجامعة العربية تنفيذاً لمعاهدة الدفاع المشترك. لذلك كيف يمكنني القول إن سورية تريد المحافظة على أمن لبنان واستقلاله وسيادته ما دامت هي من المعتدين؟". لكنه لم يتخذ موقف الرفض القاطع لكل ما ورد في هذا الإتفاق. أيّد إنشاء المجلس الدستوري وإنشاء المجلس الإقتصادي والإجتماعي وبعض الإصلاحات التي طاولت بنوداً في دستور عام 1926، ووجد الإتفاق أشبه بقانون-إطار. أما مبعث قلقه فليس إقرار الإصلاحات في متنه، وإنما ما توقع نشوءه تدريجاً من تطبيق العلاقات المميّزة اللبنانية - السورية في الحقول الإقتصادية والثقافية والعسكرية والأمنية. ولذا اعتبر ذكر هذه العلاقات في نصوص الإتفاق أخطر من أهداف الإصلاحات الدستورية لأنها تضفي على الوجود السوري في لبنان، بشقيه العسكري والسياسي، ما رفضه أكثر من عقد، ومنذ عام 1976، وهو الشرعية القانونية. وتأكد له ذلك عندما عارض توقيع البلدين في دمشق "معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق" اللبنانية - السورية في 22 أيار مايو 1991، ثم توقيعهما في شتورة "اتفاق الدفاع والأمن" بعد أشهر قليلة في الأول من أيلول 1991 بعدما أقر مجلس النواب إجازة إبرامهما. في ما بعد، قبل أشهر ستة من وفاته، أبرَزَ مآخذه على الإصلاحات السياسية التي أدرجت في اتفاق الطائف، خصوصاً ما يتصل بتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية: "يمكنني القول إن ضميري مرتاح لأنني لم أذهب إلى الطائف، حيث كل شيء كان معداً سلفاً ولا يمكن تعديل أي بند، كما حدث عندما قرّر المجتمعون الحدّ من صلاحيات رئيس الجمهورية اللبنانية مثلاً، فأصبح الرئيس الأقل صلاحية بين رؤساء الدول العربية في سورية وتونس ومصر والجزائر والعراق وليبيا ... لم يوقف اتفاق الطائف الحرب التي كان من الممكن وقفها لو أراد بعض الدول ذلك، وفي مقدّمها الولاياتالمتحدة الأميركية التي تريد القضاء على لبنان وضمّ جنوبه حتى الليطاني إلى إسرائيل التي تحتاج إلى مياهه العذبة". وأضاف: "إن اتفاق الطائف لم يُحسّن الحياة السياسية الداخلية في لبنان. والطائف نسخة عن الاتفاق الثلاثي الذي وُقّع في سورية وكان لمصلحتها، خصوصاً أن دمشق تفكّر في ما يسمّى الوحدة السورية أولاً عبر ضمّ الأقضية الأربعة، وبعد ذلك كل لبنان إليها. ولهذا السبب ترفض منذ أعوام عدّة تبادل السفراء مع لبنان". بدا، بالنسبة إليه، الإصرار على تقليص الصلاحيات الدستورية لرئيس الجمهورية دافعاً إلى تقويض البنى المتينة للنظام السياسي اللبناني. فأجرى تمييزاً حتمياً بين منصب رئاسة الجمهورية كموقع دستوري للطائفة المارونية تستمد منه امتيازاً سياسياً أكثر منه دستورياً بحكم اقتران ممارسة هذه الصلاحيات بتطبيق أعراف غير مكتوبة مقيِّدة وملزمة، والرؤساء الموارنة المتعاقبين الذين اختلف معهم جميعاً وبلا استثناء على مرّ عهودهم، متنقّلاً بين الموالاة والمعارضة ليرسو وإياهم على عداء متصلّب لا يحتمل المساومة. كانت تلك سمة صلته ببشارة الخوري وفؤاد شهاب وسليمان فرنجيه وأمين الجميّل، وبعتبة دنيا بكميل شمعون وشارل حلو والياس الهراوي. لذلك حداه تمسّكه بحماية مارونية رئيس الجمهورية وصلاحياته الدستورية غير منقوصة - وهو ابن رئيس ماروني للجمهورية - على التأكيد "أن المشكلة الأساسية هي في شخصية رئيس الجمهورية المسيحي وفي شخصية رئيس الوزراء المسلم. فالرؤساء الموارنة هم الذين خربوا لبنان، لا رئاسة الموارنة للدولة. وحدث ذلك غالباً بسبب وسواس التجديد وبسبب حاشية الأبناء والأصهار والأحفاد الذين يستذوقون، فيصير كل همّهم إقناع الرئيس بأن الشعب يطالب بالتجديد ...". كان يرى أيضاً في صلاحيات رئيس الجمهورية، على ما أسرّ إلى حزبيين، "عنصر توازن في تعايش الطوائف اللبنانية وصمام أمان في تحقيق المشاركة بين العائلات وإدارة السلطة. وهي ليست في أي حال مجرّد مكسب سياسي للموارنة". وفضّل دائماً ترك هذه الصلاحيات بلا تقييد أو انتقاص، في مقابل منح الطوائف الأخرى سلطات وصلاحيات أكثر، مراعاة لقاعدة المشاركة والتوازن. وأبدى خشيته تكراراً من أن يؤدي إضعاف موقع رئيس الجمهورية إلى إفقاد لبنان مبرّر وجوده. مع ذلك قال في مناسبتين متباعدتين إن التنفيذ الفعلي والسليم لاتفاق الطائف - الذي ظلّ يرفضه - نصّاً وروحاً ربما بدّد كثيراً من آثاره السلبية نتيجة الإخلال بنصوصه، فطُبّقت هذه على نحو أسوأ ممّا نصّ عليه. وربما قلّل ذلك أثر معارضته. إلا أن التنفيذ السيئ والإعتباطي جعله أسوأ. وأعاد تأكيد موقفه بأن اتفاق الطائف كان سيئاً في نصّه، ثم بات أسوأ في تنفيذه. لكنه في كل حال لم يتخلَّ لحظة عن رفضه القاطع له، ونادراً ما قال إنه يميّز بين النصّ والتطبيق. فكلاهما على الأقل سيئ. لبنان الكبير لا لبنان المسيحي لم يتردّد على امتداد سني الحرب في التحذير من "لبنان مسيحي"، متشبّثاً ب"لبنان الكبير" كمكان وحيد مناسب للمسيحيين اللبنانيين ومصالحهم وحرّياتهم. وعندما رفض حمل السلاح في بداية الحرب، أكد في المؤتمر السنوي السادس لمصلحة طلاب حزب الكتلة الوطنية في 29 آب أغسطس 1975، دفاعاً عن موقفه من العلاقات المسيحية-الإسلامية الملازمة لوحدة لبنان "أن المسلمين لا يستطيعون إلقاء المسيحيين في البحر، ولا المسيحيين يستطيعون إلقاء المسلمين في البحر، وعلينا أن نعيش معاً. نحن نفهم أن يُستعمل السلاح لتوحيد الشعب اللبناني. لكن إذا كان هذا السلاح قد فرّق بين المسيحيين أنفسهم، أفلا يستطيع التفريق بين اللبنانيين؟". وهي إشارة إضافية إلى تشبّثه برفض الإحتكام إلى هذه اللغة. إذ لاحظ في 6 تشرين الأول اكتوبر 1975 أن "المكسب الوحيد الذي ربحه الشباب المسيحيون هو أنهم أفهموا المسلمين أن في إمكانهم أن يقيموا المتاريس ويطلقوا النار ويقتلوا دفاعاً عن حيّهم وبيتهم، وبرهن المسلمون للمسيحيين عن الأمر نفسه. وإذا أراد الشعب اللبناني أن يثبت بفئتيه، الإسلامية والمسيحية، أنه على مستوى عال من القتال، فقد تأكد ذلك. لكن السؤال هو هل كنا في حاجة إلى الإقتتال لكي يثبت بعضنا للبعض الآخر إمكاناتنا القتالية، ولنا اليوم عدو مشترك يتفرّج علينا ويُصفّق وهو مرتاح؟". إلا أن وجهة نظره في الميثاق الوطني لا تختلف في أي حال عن تلك التي أحاطت بقسم أساسي من الطبقة السياسية المسيحية، والمارونية خصوصاً، مذ أرست هذا الميثاق حكومة رياض الصلح عام 1943. فظلّت مستمدة من التراث الكتلوي الطويل الذي أرساه والده عندما وازن الحضور المسيحي وحرّية عمله وضمان مستقبله السياسي والسكاني، ومن خلاله حماية الكيان اللبناني، بمصادر الحماية التي توفّرها العلاقات الوطيدة مع فرنسا. هي في الوقت ذاته مصادر الإمتيازات التي اكتسبها المسيحيون منها. ولذلك قيل في ما بعد، في كل مرّة طالب المسلمون بمشاركة متكافئة في الحكم، بأن رئيس الجمهورية الماروني ورث بالممارسة كل الصلاحيات التي كانت للمفوّض السامي الفرنسي. لكن هذا الواقع يعبّر أيضاً عن اعتقاده بأن المسيحيين "كانوا اعتادوا العيش في ظلّ وضع يتمتّعون فيه بأكثر من إمتياز، وما كان الأهم بالنسبة إليهم ألا يؤدي الإستقلال إلى الإخلال بهذا الوضع. كانت فرنسا قد بدأت تتهيأ للخروج، وبدا من الضروري الإتفاق على صيغة الوجود اللبناني الجديد ... كان الخوف أساساً من السنّة الذين ظهروا كعامل جديد في إطار "لبنان الكبير"، وهم غالباً من مؤيدي الدعوة إلى القومية العربية. في ذلك الوقت كانت اللعبة الدولية في المنطقة تقوم على صراع بين الفرنسيين والإنكليز الذين في سعيهم إلى إضعاف النفوذ الفرنسي، شجّعوا الدعوة القومية وخصوصاً الدعوة إلى الهلال الخصيب. ولذا من الطبيعي أن يناهض المسيحيون هذه الدعوة. ويميل الموارنة عموماً إلى التمسّك بالفرنسيين ومقاومة الإنكليز كسبيل لإبعاد شبح الوحدة السورية والعربية. في هذا السياق كان الميثاق الوطني الذي أكد من جهة الوجه العربي للبنان، ومن جهة أخرى وضعه الخاص واستقلاله عن العالم العربي" ذهب به هذا التفسير إلى استنتاج قاعدة "الميثاق الوطني"، وهي تحديد موقف من العروبة يُسلّم به المسيحيون، في مقابل إعطائهم ضمانات مفادها عدم اندماج لبنان في أي وحدة سياسية أو عقائدية قومية في البحر الإسلامي الكبير. أشعره التوازن العقائدي في الميثاق الوطني بضرورة التسليم كذلك بتوازن مماثل في بنية المجتمع اللبناني، من دون تخلّيه عن الإمتياز التي يتعيّن إعطاؤه للمسيحيين اللبنانيين حفاظاً على دورهم السياسي ووجودهم السكاني في المحيط العربي والإسلامي. وهو ما حداه على الإعلان أنه، من جهة، ضدّ الإمتياز الطائفي ومع حصول كل طائفة في لبنان وكل منطقة وكل مواطن على فرص متكافئة وحقوق متساوية، عارفاً بصعوبة إزالة الطائفية بالسهولة المرتجاة. ومن جهة أخرى تمسّك بحصر منصب رئاسة الجمهورية بالمسيحيين لوقت غير محدّد ضماناً إضافياً وضرورياً. قال: "في الواقع إن المثل الأساسي الذي يعكس حجّة لدى المسيحيين في ذلك هو تجربة عام 1958. في تلك الفترة قامت الوحدة بين مصر وسورية، وأحدثت مدّاً وحدوياً كبيراً كان له تأثير مباشر وخطير على سيادة لبنان. وشعروا آنذاك بوطأة تدخّل الدولة الجديدة وأصبح رئيس مخابراتها في سورية عبدالحميد السرّاج حاكماً فعلياً لجزء كبير من لبنان. ينهى ويأمر حتى في بعض المؤسّسات الرسمية. وأنا أطرح السؤال ببساطة كالآتي: ماذا لو كان رئيس الجمهورية اللبنانية عام 1958 مسلماً سنّياً؟ هل كان يستطيع التصدي لإغراء الوحدة مع سورية ولضغط الشارع الإسلامي؟ وإذا مَلَك الجرأة للقيام بذلك، هل كان سيبقى رئيساً للجمهورية؟" كمال جنبلاط اغتيل في 16 آذار مارس 1977 بإطلاق النار على سيارته في دير دوريت في الشوف، وهو في طريقه إلى بيروت. فأسقطت رصاصة قاتلة في الرأس قسماً من دماغه على الصحيفة التي كان يقرأها في المقعد الخلفي. بينما انتقل رشيد كرامي وصائب سلام إلى موقع التعاون مع الدور السوري في لبنان مذ خرجا من جبهة الإتحاد الوطني، قبل أن يجد الزعيم البيروتي نفسه أمام خيار منفى إرادي مشابه لما قرّره ريمون إده. ولكن في جنيف هذه المرّة في 30 آذار 1985 بعد إطلاق قذيفة صاروخية على دارته في المصيطبة في 13 آذار أثناء وجوده فيها. سبقت هذه المحاولة حادثة مماثلة في 22 كانون الثاني 1985 بإطلاق قذيفة اخترقت جدار البيت ونجا وابنه تمّام بأعجوبة. كانتا إيذاناً له بحتمية الرحيل وبإلغاء كامل لدوره السياسي في بيروت التي أُخضعت قبل سنتين لسطوة الميليشيات. ولم يعد إلى لبنان إلا عجوزاً متقدّماً في شيخوخته في 20 أيلول 1994، وغاب عام غياب ريمون إده، قبله بأشهر قليلة: توفي صائب سلام بهدوء في سريره القديم في المصيطبة عن 95 عاماً في 20 كانون الثاني يناير 2000، مبتعداً عن السياسة وقد خانته في السنوات الأخيرة ذاكرة تاريخ سياسي مديد من عمر قرن تقريباً. أما رشيد كرامي، فلم يتردّد - بعد سنوات من التخلّي عن رئاسة الحكومة ملازماً أحد بيتيه في طرابلس أو في الباشورة في بيروت - في التعاون مع أمين الجميّل بدعم من سورية، رئيساً لثانية حكومات عهده وهي "حكومة الاتحاد الوطني" في 30 نيسان ابريل 1984، قبل اغتياله في الأول من حزيران 1987، بتفجير عبوة ناسفة تحت مقعده في طوافة عسكرية فوق البحر، كانت تنقله من طرابلس إلى العاصمة. بعد إقرار اتفاق الطائف تمسّك برفضه أيضاً. لكن ذلك لم يقطع صلته بكل ما رفضه وناوأه. فالتسوية التي عارضها بشراسة حتى الرمق الأخير، لم تجعله مع ذلك يتردّد في تصويب الخطأ الذي أقدم عليه غلاة دعاتها. قاد اتفاق الطائفلبنان إذاً إلى جمهورية جديدة على وفرة الرافضين لها. بعيد توقيع الياس الهراوي في 21 أيلول 1990 قانون الإصلاحات الدستورية التي كان أقرها مجلس النواب قبل شهر تمهيداًً لنشرها في الجريدة الرسمية، وإعلانه ولادة "الجمهورية الثانية"، صحّح له ريمون إده التعريف: إنها "الجمهورية الثالثة" لا "الجمهورية الثانية". وُلدت "الجمهورية الأولى" في 17 تشرين الأول 1927 مع أول تعديل للدستور، ووُلدت "الجمهورية الثانية" في 9 تشرين الثاني نوفمبر 1943 مع تعديل الدستور مجدّداً لتحريره من الأحكام المتعلقة بالإنتداب الفرنسي، ثم وُلدت "الجمهورية الثالثة" في 21 أيلول 1990. كتاب "ريمون اده جمهورية الضمير" يصدر هذا الشهر عن دار النهار للنشر في بيروت. "دعاء البرلماني" " يا أيها الإله القدير، يا إله كل الحكومات، ساعدنا في ساعة افتتاح هذه الدورة الاشتراعية على إدراك قدسية الأعمال السياسية. أبعدنا عن الخطايا التي سنقع تحت إغرائها، عندما يعلو صوت الأحزاب والمصالح داخل هذا المجلس. جنّبنا التفكير في الانتخابات المقبلة، بينما علينا التفكير في الاجيال الطالعة. جنّبنا الكلام على مسائل الأشخاص، بدلاً من مناقشة المبادئ. اجعلنا لا نولي الأهمية الكبرى للحصول على الأكثرية، في الوقت الذي ينبغي ان نفكّر في صواب التدابير الواجب اتخاذها. جنّبنا في الساعات الحاسمة للمناقشات ان نقول المسائل التي تحدث وقعاً كبيراً، بدلاً من قول المسائل الحقّة. اجعلنا لا نتمتع في المضي في البحث عن الكلمات الجميلة، بدلاً من البحث عن الوقائع. جنّبنا اعتبار الحزب هدفاً في ذاته، بدلاً من التعامل معه على انه وسيلة لبلوغ الهدف. لا نطلب اليك ان تحمينا من الاغراءات المحيطة بالمجالس الاشتراعية فحسب، بل نطلب أيضاً ان تجعلنا ندرك على نحو أفضل ماهية الحكمم، كي نتمكن من خدمة مصالح مَن وضعوا حكم هذه البلاد بين أيدينا. ساعدنا على ان نتذكّر ان الاجيال التي ستأتي تشكل جزءاً من الهيئة الناخبة، حتى وإن لم يكن لها أصوات في صناديق الاقتراع. إجعل احترامنا للحقيقة اكبر من احترامنا للماضي. ساعدنا على ان نجعل حزبنا في خدمتنا أكثر منه سيداً علينا. اجعلنا ندرك ان لا نفع للنجاح في الانتخابات اذا فقدنا طاقاتنا. ساعدنا على أن نكون مستقلين عن الأكثرية الطاغية وعن الأقلية المتعقلنة، اذا لم يكن للحقيقة مكان عند هؤلاء او أولئك. اجعل الصدق وحياً لدوافعنا والعلم نوراً لمناهج عملنا. ساعدنا على خدمة الجماهير من دون مداهنتها، واجعلنا نصدّقها من دون الانحناء أمام تطيّرها". قبل وفاته بأسبوع، طلب ريمون إده من ماري جوزيه شدياق، المستشارة في البرلمان البلجيكي، تزويده دعاء Priere يتلوه برلمانيون أميركيون قبل مناقشاتهم. فأرسلت بالفاكس النصّ الذي نشرته جريدة "الشمس" في كندا، في 28 شباط فبراير 1946، قائلة ان برلمانيي ويسكونسن في أميركا يتلونه. على ان الفاكس وصل الى فندق "العميد" يوم وفاته.