في التحولات المتكررة لسؤال الهوية، في التفكير العربي الحديث والمعاصر، استقر رأي النقاد اخيراً على اختيار الرواية ووضعها في اختبارات التناسب مع المقاييس التي قد تصبح ذات يوم ايزو عربي خاص بالرواية في الإنتاج الروائي العالمي. إلا ان المربك في السؤال، هو محتواه نفسه. فعلى رغم مرور اكثر من ثلاثة عقود على الجدل الذي فجره النقد حول الرواية حصراً، إذ إن الحوار حول الهوية قديم يعود الى بدايات عصر النهضة لا يزال النقاد حائرين في الاتفاق حول المواصفات الضرورية لجعل الرواية العربية عربية. وبسبب هذا الارتباك القهري فإنّ الهارب منه يحاول ان يلتف عليه فيسأل: ما الروسي في الرواية الروسية؟ ما الأميركي في الرواية الأميركية؟ ما الفرنسي؟ ما الألماني؟ ما الهندي؟ ما الياباني؟... ويستتبع هذا السؤال سلسلة من الأسئلة، واحد منها يقول: "من منَ الروائيين الروس يمثل الرواية الروسية؟ دوستويفسكي أم تولستوي ام غوغول أم تورغينيف؟ ما العمل إذا كان كل روائي منهم يقدم اقتراحات مختلفة عن الآخر من دون ان يتمكن احد من حذفه أو إلغائه روسياً؟ نظرياً لم يتفق النقاد العرب على "توصيف" واحد، او جملة توصيفات يمكن الاستعانة بها من اجل تحديد هوية الرواية العربية. بعضهم يقول بأن إلغاء الشكل الأوروبي هل هناك شكل اوروبي للرواية؟ وماذا عن الهويات القومية في أوروبا؟ هو الحل المثالي لابتكار رواية عربية، وسوف يلتحق بهذه الأطروحة دعوة مجيدة لتمثل الأشكال الحكائية العربية، التي اضحت منذ ثلاثة عقود اشكالاً قومية مثل ألف ليلة وليلة، السير الشعبية، المقامات، الحكايات... الخ وهؤلاء يمثلون بنموذجين روائيين اثنين فقط يقدمان كعلامتين على طريق تأسيس رواية عربية هما "الزيني بركات" لجمال الغيطاني و"المتشائل" لإميل حبيبي. فكلا الروائيين تمكن من اكتشاف البناء المناسب النابت من التجربة المحلية العربية. جمال الغيطاني استعار نمط كتابة ابن اياس في "بدائع الزهور" وإميل حبيبي شحن الحكاية الشعبية بالمكونات الروائية الفنية المعاصرة، لكن هذا الرأي الذي يرشح هاتين الروايتين لتصدر لائحة المواصفات العربية عن عربية الرواية، لا يقدم اكثر من قياس وحيد لا يزيد عن بضع عبارات جذابة من دون ان يتمكن من تقديم الوصفة الحكيمة لكتابة الهوية. والطريف ان الغيطاني عمد في اعماله اللاحقة الى ابتكار انماط مختلفة عن "الزيني بركات". اما إميل حبيبي فامتصّ النجاح موهبته وقدم اعمالاً باهتة حاولت ان تقلّد "المتشائل" من دون ان تنجح. ثم إن روايتي الغيطاني وحبيبي لا تتشابهان فأي واحدة منهما تمثل هوية الرواية العربية؟ أعرف انني أبسط القضية هنا، وأعرف ان الدعوة يمكن توسيعها للقول بأن المطلوب هو تمثل اشكال الكتابة العربية عامة، ولكن الشكل وحده لا يصنع هوية. أضف الى ذلك اننا سنحاصر بالسؤال عما اذا كان بوسع هذين الروائيين على جمال وفرادة ما كتبا إلغاء نجيب محفوظ أو عبدالرحمن منيف أو حنا مينه أو حيدر حيدر أو... أو... وكل واحد من هؤلاء كتب رواياته متأثراً بأنماط من الرواية الأوروبية. بل ان بعض النقاد عمّدوا نجيب محفوظ "بلزاكاً" للرواية العربية وقام لاحقاً ناقد سوري بتعميد نبيل سليمان في موقع مماثل. آخرون يقولون بلغة الرواية، وغيرهم يصرّ على ان المضمون الذي يتناول الواقع العربي، يكشفه، أو يؤرخ له، أو يسجل متغيراته، هو الذي سيحدد اخيراً هوية الرواية. المشكلة ان النقد الذي يعمل على إحياء عربية الرواية، ينظم مفاهيمه وفرضياته اعتماداً على فاعليات النقد الغربي الغرب الأوروبي والأميركي يسيطران سيطرة شبه مطلقة على النقد العربي مع تطعيمات شرقية أوروبية احياناً فالماركسية ونظريتها الأدبية ليستا عربيتين ومدرسة النقد الجديد نشأت في اميركا، وجورج لوكاش مجري والبنيوية فرنسية والتفكيكية اطلسية، وباختين وهو شيخ الطريقة العربية اليوم في النقد سوفياتي نصف ماركسي... والملاحظ مثلاً ان المبدأ الحواري الباختيني وهو مبدأ غير عربي بحسب منطق التفكير النقدي لبعض نقادنا جعل هؤلاء النقاد يخرجون عدداً كبيراً من الروايات العربية من جنة الرواية كلها لا نتجاهل ان نقاداً معاصرين ينادون اليوم بنظرية نقدية عربية والمرجع ماضوي بكل تأكيد. الأخطر ان الروائي العربي مطالب من جهات نقدية اخرى بتسجيل تقدم حرفي وتقني عاجل في مواجهة انجازات الرواية العالمية غرباً وشرقاً. وغالباً ما تكون هذه المطالب وقد انضم القراء فيها الى النقاد مقرونة بأمثلة مختلفة من العالم أوروبا، أميركا اللاتينية اليابان وافريقيا اخيراً تضعها كعقبات، أو كتحديات عجز الروائي العربي - وهناك من يقول انه سيعجز - عن مجاراتها في اعماله. سؤال: ما التقني الرفيع في روايات امين معلوف والطاهر بن جلون التي يقبل القارئ الغربي، والعربي ايضاً على قراءتها؟ مع العلم ان هذين الروائيين يكتبان بعيداً من العربية ومن عربية الرواية! هكذا يجد الروائي العربي نفسه محاصراً بسؤالين: سؤال الهوية، وسؤال الفن. فعلي اي جانبيه يميل؟ ما نشك فيه هو ان دوافع السؤال عن الهوية ليست روائية صافية، بدليل ان النقد العربي، أو ان التفكير العربي ينشغل بها في المواسم وحدها، ثم ينساها الى حين ليعاود مناقشتها من جديد. والمرجح انه ناجم عن المصاعب والتحديات التي تواجه الأمة، وربما كان له العذر، سوى انه لا يعذر إذا كان سيستخدم من اجل اخراج الرواية العربية - الموجودة بالفعل - من الرواية.