ما زالت الأكثرية الأميركية تبحث عن هوية تصقل توجهات الوطنية التي تتربع أولوية المشاعر. عملية البحث بطيئة ومترددة، تارة انعزالية وتارة فضولية. والفرد الأميركي العادي يتمسك بالاصرار على ألا ينسى ما حدث في 11 أيلول سبتمبر فيما يعود الى ما يسمى الحياة الطبيعية. الحيرة تنافس اللامبالاة، والانزواء يتحداه واقع حروب تخوضها أميركا خارج ديارها. والخوف من تكرار ما حدث قبل ستة شهور يطل من بين طيّات عنفوان العظمة. وعندما توقفت أميركا أمس في دقائق صمت احياء لذكرى ضحايا برجي مركز التجارة العالمية، بعد مرور ستة شهور على المأساة، استعادت الرعب من هشاشتها وتمسكت بالعظمة. فهي ليست في وارد الخضوع حتى عند الخشوع، لكنها قلقة. أمس، عادت الى شاشات التلفزيون مشاهد اختراق الطائرات الانتحارية البرجين التوأم، ومفاجأة انهيارهما حطاماً، وعادت معها الدهشة. وفي برنامج وثائقي عرضته شبكة "سي. بي. اس" سجل وقائع ما حدث، غاب أكثر "المشاهد" تأثيراً: كان ذلك صوت الجثث وهي ترتطم بالأرض، جثث رجال ونساء فضلوا القفز من الطوابق العليا، على الموت احتراقاً. عادت الذكرى الى ذاكرة تتقلب بين الرغبة في النسيان وبين عدم القدرة عليه. بعض أهالي الضحايا الذين تعدى عددهم ثلاثة آلاف، تجنب المشاركة في احياء الذكرى لأنه ما زال في انتظار بقايا جثث احبائه. آخرون انتظروا ان يشع برجان بالضوء في سماء نيويورك من ساحة "غراوند زيرو" حيث وقف التوأم يوماً. راجع ص15 المسؤولون الحكوميون في نيويورك، تجنبوا أثناء الوقوف دقيقة الصمت، التحريض والوعيد. تحدثوا عن المحبة والخير في وجه الرعب والشر. والرئيس جورج بوش سجل الذكرى وسط اعلام الدول العديدة التي كانت لها ضحايا في 11 أيلول والتي تشارك في الائتلاف الدولي. وفي حضور أكثر من مئة سفير، شدد بوش على ضرورة التضامن العالمي في وجه الارهاب، وتوعد من يمارسه و"الحكومات التي تختبئ وراءه". الأميركيون يوافقون رئيسهم على العناوين الرئيسية لكنهم اما في جدل ونقاش حاد حول التفاصيل، واما ممتنعون عن الاهتمام بما يجري خارج الساحة الأميركية. يربطهم إجماع على "الوطنية" العارمة، وكل ما تقتضيه المصلحة الوطنية الأميركية، لكن بعضهم وضع وراءه ما حدث بعد 11 أيلول من اهتمام بالسياسة الأميركية الخارجية، وعاد الى الاهتمام بيومياته. وهناك آخرون انقسموا: جزء يريد إحداث تغيير في السياسة الأميركية لا سيما في الشرق الأوسط إزاء النزاع العربي - الاسرائيلي، وجزء ازداد كراهية لكل ما هو مسلم وعربي. ثلث الأميركيين ما زالوا في حال خوف من السقوط ضحايا للارهاب في عقر دار اميركا، والأكثرية الساحقة تدعم الرئيس والكونغرس في تبني كل ما يجدان فيه حماية للأمن ولمصالح الولاياتالمتحدة. أمس عادت الى الأذهان وقائع ما حدث في 11 أيلول لتوقظ الأميركي المواطن الى المأساة ذاتها. اما إيقاظه الى ما يتطلبه صقل هوية متكاملة لمواطن الدولة العظمى الوحيدة في العالم، فما زال غائباً نسبياً، سوى عند الحدث وفي المناسبات.