سادت أجواء انفصام على مدينة نيويورك وهي تسجل ذكرى مرور ثلاثة شهور على عمليات الطائرات الانتحارية التي اسقطت برجي مركز التجارة العالمية وحوالى ثلاثة آلاف ضحية. جزء من المدينة يكتظ ليلاً نهاراً بالمهرولين إلى الأسواق والمسرحيات، كأن ما وقع في المدينة حدث منذ سنوات وكأن لا حرب "هناك" في أفغانستان تخوضها الولاياتالمتحدة. جزء آخر يخيم عليه شبح الدمار وما خلفته العمليات الإرهابية من مأساة إنسانية ومن تدمير للاقتصاد يربض تحت الخوف من تكرار العمليات. أمس بالذات فرضت الذكرى نفسها على كامل المدينة. قبل أمس اختار كل فرد وسيلته الشخصية للتعامل مع ما حدث. بعض الناس شعر بالذنب وهو يتسوّق بمناسبة الأعياد فيما الحرب في أفغانستان تودي بأرواح أبرياء من الأفغان وتأتي إلى الولاياتالمتحدة بجثث أميركيين. بعضهم اعترف بالحاجة إلى الهروب من الواقع ومن الخوف لاستدراك عقله لئلا يسقط في دوامة البحث عن أجوبة شبه مستحيلة، وهناك البعض الذي حقن فيه الانتصار العسكري على "طالبان" نزعة القومية المتطرفة، فأخذ بالتوعد بتلقين الدروس لكل من يتطاول على أميركا بعسكرية متطرفة أينما كان. نيويورك مدينة منقسمة إلى الجانب الشرقي والجانب الغربي وإلى المنطقة الجنوبية والشمالية ليس جغرافياً فحسب، وإنما على مستويات المعيشة ونوعية العيش. الأممالمتحدة التي تقع في الجانب الشرقي من منتصف المدينة، لا تزال محصّنة بشاحنات النفايات. الفارق الوحيد اليوم هو استبدال الشاحنات البرتقالية بشاحنات بيضاء. والسبب له علاقة بموسم الشتاء، إذ أن المدينة في حاجة للشاحنات البرتقالية في موسم الشتاء. فارق آخر، رمزي، بتمثيله العاطفة السائدة، يتمثل بقيام أحد سائقي الشاحنات بوضع رأس بلاستيكي يشبه أسامة بن لادن في مؤخر الشاحنة حيث تودع النفايات. داخل المنظمة الدولية يتداخل الاحتفاء بنيلها جائزة نوبل للسلام مع الإعداد لدور لها في ملفين أساسيين لهما علاقة بأحداث 11 أيلول سبتمبر وافرازاتها هما: ملف أفغانستان ما بعد العمليات العسكرية، حيث يبذل الجهد لتجنب الورطة التي وقعت فيها الأممالمتحدة في الصومال بعد انتهاء العمليات العسكرية فيها، وملف مكافحة الإرهاب تطبيقاً للقرار 1373 الذي ألزم الدول باجراءات عملية تتضمن التعاون والتنسيق الاستخباري والمصرفي والقضائي للقضاء على الإرهاب، في سابقة لها أبعاد فائقة الأهمية على النظام الدولي الجديد. الجانب الغربي من منتصف المدينة، حيث تقع منطقة "تايمز سكوير"، يكاد يكون العكس تماماً لمنطقة الأممالمتحدة المعزولة. هناك تكتظ الشوارع بالإعلانات وبالأضواء وبالمارة الذين ينتقلون إلى منطقة "روكفلر سنتر" حيث شجرة الميلاد الضخمة. بعضهم يذهب إلى كاتدرائية "سانت باتريك" للصلاة على أرواح الضحايا الذين سقطوا في برجي مركز التجارة العالمية ساعياً وراء الجمع بين المضي بحياته وبين الذكرى، بمزيج من تحدي الخوف والاعتراف به. في موقع البرجين لا يزال الحطام موجوداً، كذلك العمل الدؤوب في البحث عن بقايا جثث. معظم السوّاح يقصد الموقع ويلتقط أنفاسه. إذ أن رؤية ما حدث له أثر غير الذي تسجله التلفزة. بعضهم يمضي إلى مواقع مؤلمة أخرى حيث بحث أهالي الضحايا عن احبائهم أو حيث لا تزال الشموع تُضاء. البعض الآخر تحبطه العاطفة ويعود إلى حياته اليومية مسرعاً. يوم الذكرى أمس كان أيضاً يوم التعهد بعدم النسيان. لكن الذاكرة الأميركية تعجز أحياناً عن الاستيعاب لفترة طويلة، لذلك من المدهش في بعض الحالات سرعة العودة إلى الحياة العادية وكأن شيئاً لم يحدث "هنا" في نيويورك، وكأن لا علاقة لهذه المدينة مع حرب بعيدة تُشن "هناك" في أفغانستان، إنما هذا فقط في بعض الحالات. فجزء من هذه المدينة غير قادر على الخروج من الألم والدمار والخوف والحداد على ضحاياه، وهو ليس في بقعة معينة في خريطة المدينة. أمس توجّه الإعلام إلى منطقة "غراوند زيرو" حيث سقط البرجان، ورافق ذلك توجيه الانظار إلى الانذار الذي وجهته واشنطن إلى تنظيم "القاعدة" للاستسلام في غضون ساعات. غداً قد يحمل جديداً إلى "الذكرى" وإلى سيرة الانفصام والنسيان والحيرة.