ثلاث نساء شابات من سورية يربط بين اوضاعهن ضيق الحياة ومصائر تسبب فيها وقوعهن في زواج مبكر او اوضاع اقتصادية ومعيشية ضيقة بالاضافة الى التقاليد التي تنزل بالشابة ما لا تنزله بالشاب. يجمع بين النساء انهن نسوة وشابات، ودراما اجتماعية وعائلية متفاوتة المصادر ولكنها متشابهة في نتائجها. امينة ويمنى وأمل تجاوز ثلاثتهم الثلاثين عاماً ولكنهن وهن على تخوم الكهولة تجاوزنها منذ سنوات الى أمومة كان يمكن ان تعوض بعض الخسائر ولكنها ايضاً أمومة الخسارات والسنوات الضائعة. من النظرة الأولى سنحار في تقدير عمرها، ونظنها تجاوزت الكهولة، لكنها في الحقيقة لم تقاربها بعد، وربما كان وجهها المعفر بالبؤس والشقاء هو الذي أخفى مظاهر المرأة الفتية، من دون أن يشفع لها قوامها الملفوف، ولا مشيتها المتوثبة، وهي تتنقل بين أكوام البضائع في مستودع ناء، اختارته مكان عمل ومعيشة مع أطفالها الثلاثة وزوجها المريض. أمينة امرأة شابة لا توحي سنوات عمرها الثلاثون انها شابة في عز شبابها، فهي ليست كبقية النساء اللواتي يجايلنها. لم تعش طفولتها ومراهقتها ولا صباها. فما ان بلغت من العمر ال14 عاماً حتى وجدت نفسها في كنف زوج من البدو الرحل دخل الأراضي السورية مع عشيرته، وتمكن حينها من شراء أمينة كزوجة قبض ثمنها الوالد. أخذها معه الى بلده البعيد وهناك رزقت بثلاثة أطفال وابتلي زوجها بمرض عصبي استعصى على الشفاء، وتدهورت أوضاعه المالية. لم تستطع أمينة التأقلم مع ظروف حياة الغربة والمرض ما دفعها الى التفكير بالعودة الى بلدتها لتعيش الى جوار أهلها الفقراء، ولم تكن تتصور أفق العذاب والشقاء الذي سينفتح عليهم، خصوصاً ان والديها انفصلا وشق كل منهما طريقه مع شريك جديد، فكانت إذا لجأت الى والدها فرض عليها الطلاق من زوجها العليل لتتزوج ثانية بمهر أعلى، وإذا لجأت الى والدتها أحاطتها بنات زوج أمها بالشكوك والظنون السيئة لأنها زوجة فتية لرجل مريض، أما أخوتها الذكور فكل منهم غارق في مشكلاته الكثيرة، تارة ينحازون لموقف الأب ويضغطون عليها لتطليق زوجها علَّ نصيبها الآتي يكون أفضل فتنقذهم هم أيضاً من فقرهم وبؤسهم، وتارة أخرى يعنفونها بسبب أقاويل بنات زوج أمهم. غريزة الأمومة كانت أقوى من ضغوط الأهل، وقررت أمينة النأي بعائلتها الصغيرة الى مكان تتحرر فيه من رقابة مجتمعها الصغير والمحدود، فتنقلت بين مزارع كثيرة واستقرت منذ بضع سنوات في مستودع للبضائع خارج احدى المدن الصغيرة في محافظة حمص، وحاولت تأسيس بيت لها، لم يكن أكثر من غرفة أشبه بالكوخ، نافذتها طاقة وبابها بطانية وأكياس خيش، أثثته بعدة طناجر وصحون المنيوم وموقد حطب وتلفزيون أبيض وأسود، هذه كانت ممتلكاتها. أما ثروتها الاحتياطية، فشبابها الذي تستثمره في العمل وتربية الأولاد. طموحها جمع مبلغ من المال يمكنها من ادخال أولادها المدرسة. كانت تحلم بأن تنال ابنتها الكبرى يوماً ما بعد أن تكبر شهادة جامعية تؤهلها لحياة أفضل من حياتها. لكن فرحة أمينة الحالية كانت المساعدة التي قدمها صاحب العمل ليدخل أطفالها المدرسة. تصف مشاعرها فتقول: "لم أصدق نفسي عندما اشتريت لأبنائي الحقائب والأقلام والدفاتر، أشعر بأنه أهم انجاز قمت به في حياتي، سأدافع عنه حتى الموت". ما الذي يبرر استخدام تعبير الاستماتة أو الاستقتال من أجل التعلم الذي يراه الناس في سورية حقاً من الحقوق البسيطة والعادية التي ينالها جميع المواطنين من دون استثناء، سوى الفاقة والحرمان من عيش هو أقل من متطلبات سد الرمق؟! اختارت أمينة الحفاظ على أولادها على رغم ظروفها الاجتماعية المتدنية، كي لا تخضع لقيود الأهل، "أهلي لا يرضون عن عيشي هنا في العراء الموحش، وأنا حريصة على اخفاء تفاصيل صعوبات الحياة، في مقابل أن أبقى بعيدة عنهم ومتحررة منهم، فهم لا يحبون زوجي ولا أولادي". المفارقة ان أمينة لا تحب زوجها أيضاً وهي غير سعيدة معه، وأحياناً كثيرة تفيض كراهيتها له الى حد لا يطاق، فعدا وضعه الصحي السيئ، لا يحترمها، ولا يقدر صمودها الى جانبه، بل يشتمها وأحياناً يضربها ويهددها بالطلاق، ومع ذلك هي متمسكة به، فقط لأن وجوده يجنبها العودة الى كنف الأهل الذين يتطلعون نحو الاتجار بها، فلم يكلفوا أنفسهم عناء تحمل جزء من عواقب خطأهم بتزويجها لشخص غريب لمجرد انه دفع ثمنها غالياً. ما معنى الحرية بالنسبة لشابة تم بيعها واهراق طفولتها وتضييع شبابها الغض ببؤس مجاني وأعباء باتت مرهقة حتى للرجال الأشداء؟! لعل للحرية وجوهاً كثيرة، هي أقل بهاءً بكثير مما نتصور أو نتوقع مهما بدا لنا الشعور بها عظيماً وغامراً. يتراءى وجه أمينة الشاحب والمتعب، الذي عرف الجمال يوماً ولم يعرف بعد الزواج والعذاب قدراً ضئيلاً من التجمل، أن حريتها الجديدة تفتقر للتجميل ولا تفتقد للحيوية المريرة" هكذا حرية المهقورين، تتلخص بالنجاة بالأطفال من واقع محكوم بالفشل الى واقع محكوم بالتعاسة. ومع انه توافرت لأمينة شروط عمل وأماكن سكن أفضل بكثير، اختارت ان تعمل ناطورة مستودع في مكان بعيد من العمران، لأن: "غالبية من جربت العمل لديهم كانوا ينظرون الي كفريسة سهلة كوني شابة وفقيرة ومتزوجة من رجل معلول. عملي في منطقة خالية من السكان له مخاطر وصعوبات كثيرة، لكنني لا أتعرض لمضايقات ولا لكلام جارح". أما عن مخاطر العمل، فتبتسم بمرارة متابعة: "الناس تعتقد ان زوجي هو الناطور لكن في الحقيقة أنا التي أحمل بندقية وأحرس باب المستودع ليلاً، وتمكنت أكثر من مرة من تخويف اللصوص بإطلاق الرصاص في الهواء، وربما لو عرفوا انني امرأة لما هربوا، وزوجي آخر من يعلم". وتضيف ساخرة: "حتى صوت الرصاص لا يوقظه إذا غط في النوم". لكن ألا تخاف أمينة؟!! تنظر بعينين واثقتين وتتسائل: "هل أخاف؟! أشعر بنفسي أموت من الخوف، وعندما أضغط على الزناد، فمن شدة الرعب الذي ينتابني، خشية اقتراب اللصوص فأضطر لمواجهتهم". هذا "البورتريه" ليس صورة غرائبية أو فريدة من نوعها، بل قد تصادفنا كثيراً في المجتمعات المهملة، على أطراف القرى والمدن الصغيرة. فطبقة الفقراء تزداد فقراً وتتمدد في شكل حثيث، لتأتي على القيم التي تميز الريف السوري، ويكاد نموذج أمينة يمثل استثناء في الحفاظ على الأسرة والطموح الى الحرية مهما كان الثمن باهظاً، فمع ان حريتها التي تعيشها ليست سوى قيود من شكل آخر، لكنها تعتبر حرية بالنظر الى العادات الاجتماعية، واذا كان الزواج وشبح الزواج يؤمنان جزءاً من تلك الحرية لدى أمينة التي لم تعرف لشبابها فضاء خارج بوتقة القهر، فتلك الحرية لها معان أخرى في صورة أخرى لشابة تعيش على أطراف مدينة دمشق. طعم الاستقلالية يمنى امرأة في حدود الثلاثين من عمرها لديها ثلاث بنات وصبي، تزوجت في سن مبكرة من رجل كسول ومتواكل، ومع ذلك لم تمض عشر سنوات على زواجها حتى أسست بيتاً متواضعاً من دخلها من العمل بتنظيف البيوت لفاية مياومة، وكان جزاؤها ان جلب لها زوجها ضرة، فاختارت التخلي عن بيتها البسيط على ان تعيش مع زوجة ثانية، وهكذا عادت أدراجها الى أهلها مع أولادها الأربعة، لتبدأ من جديد رحلة الحصول على غرفة تؤويها وأولادها، وتيسر لها ذلك بعد تعب وجهد مضنيين، لتستقل بنفسها بعيداً من الأهل والزوج. تعبر يمنى عن مشاعرها: "لم أعرف طعم الحرية كم هو جميل، إلا عندما تمكنت من الاستقلال مع أطفالي في غرفة هي ملكي الشخصي. بعد طلاقي أحسست بالغبن. لقد خسرت بيتي وزاد منه سكني في منزل أخي" لكن عندما استقللت بغرفة وعشت وحدي مع أولادي عرفت معنى الحرية، حتى الطلاق صار واحداً من معاني تلك الحرية. في الماضي عندما كنت أرى الشباب يستشهدون من أجل تحرير بلدلانهم كنت استخف بموتهم وأعتقده بلا معنى، لكن حين تحررت من زوج اتكالي كسول وعائلة مفككة عرفت معنى الحرية الإنسانية". أما عن نظرة المجتمع لها كمطلقة من الأفضل ان تعيش في كنف رجل ولو شكلياً؟! تجيب يمنى، مارة بكفها الكبيرة والخشنة بفعل تأثير "الكلور" ومواد التنظيف تحت عينيها لتزيل بقايا كحل ساخ مع دمعة ترددت في الانهمار على خدها مطلقة تنهيدة عميقة: "المظاهر أكبر قيد نخنرعه لأنفسنا، أنا لا أهتم بالناس، سواء فكروا بحسن أو بسوء نية، دعهم يقولون ويتقولون حسبما يحلو لهم، لكنهم لن يحلوا مكاني حين أعمل طوال النهار في البيوت، وعند المساء يتقاضى زوجي أتعابي ويضربني، وإذا ما حلت ساعة النوم لا يمنعه ضميره من المطالبة بحقوقه الزوجية بكل بلادة، حتى من دون ان يحاول تطييب خاطري بكلمة لطيفة. إذا كانت هذه حقوقه، فأين حقوقي؟! لا أحد يتصور تلك المشاعر إذا لم يعشها، أي مجتمع يقدر لي حرماني من مشاعر الحب والحنان أو الرأفة، هي يشفقون على شبابي الذي ضاع بين الممسحة وسطول المسح؟!". تتابع يمنى بثقة بالغة: "لا أشك أبداً بنفسي وقدرتي على انتزاع احترام المجتمع لي، عندما يلمسون اصراري على تربية أطفالي بأفضل ما أستطيعه، الناس يحترمون القوي والحر، ويدوسون على الضعيف". تتلخص هموم يمنى في أن يتابع أولادها دراستهم، أما العيش في كنف رجل فهو ما يقلقها ويحيرها، تقدم الكثيرون من الفقراء أمثالها لخطبتها لأنها امرأة عاملة، لكنها تريد رجلاً يحمل معها عبء الحياة لا رجلاً تحمل أعباءه فوق ظهرها مع مشكلاتها الكثيرة. رفضت محاولات عدة من زوجها لإعادتها الى بيت الزوجية، وساومها على تطليق زوجته الثانية، وفي الحقيقة ترددت في الرفض تحت ضغط ظروفها السيئة، كانت تتمنى ألا يحرم الأولاد من أبيهم، لكن ما العمل إذا كان الأب لا يرغب في ممارسة دور رب الأسرة والوفاء باحتياجاتها؟! تحلم يمنى بالاستقرار مع رجل يقدرها. تقول: "احتاج للحب ككل البشر، لكن طعم الحرية الذي تذوقته وشبابي الشقي يمنعني من الارتباط بأحد لمجرد السترة". ومهما بدت لنا هاتان الصورتان غريبتين وبائستين لشابتين سرقت منهما زهرة العمر الجميل، وتعيشان تحت وطأة الفقر، فإن ما يعيشانه من مشاعر لها علاقة بالحرية قد لا يختلف عما تعيشه كثيرات يتمتعن بحياة أفضل بكثير. تجربة من نوع آخر أمل فتاة مثقفة حاصلة على شهادات عليا في الأدب العربي، تجاوزت الثامنة والعشرين من العمر. وهي مثل أمينة ويمنى، وان كانت بعد ما تزال تحلم بالحرية. عندما يطالعنا وجهها النضر لا نتخيل انها تعرضت للحرمان في حياتها، فأصابعها الغضة والصغيرة زينت بالخواتم وأظافرها خضبت بالمانيكور، أما صوتها الرخيم فينم عن رخاء ودلال ترعرعت في ظلهما. كل هذه المظاهر الجذابة التي تحوزها تجعلها تبدو "كاملة مكملة" بحسب قول العامة، مع جمال وأدب وأخلاق. لكنها تفاجئنا بحسرتها العميقة بعد أن ترجونا التكتم على اسمها الحقيقي وتبادرنا بالحديث عن سلسلة حرمانها: شبابها الضائع بين الكتب والتحصيل الجامعي والدراسات العليا، ولأنها سليلة حسب ونسب لم تتزوج الشاب الذي أحبته في الجامعة. تقول: "حب أهلي البالغ عقدني وكبلني بقيود فوق طاقتي على الاحتمال، الناس يرونني فتاة منفتحة متحررة ومنطلقة، تعيش حياتها كما ترغب، لكنهم لا يعرفون كم أنا مقهورة من الداخل، إذ لا أستطيع اتخاذ أي قرار يخص حياتي من دون مراعاة مشاعر أهلي والحرص الشديد على سمعتهم. أحرم من علاقة حب لأنها قد تجلب لي سوء السمعة. وأحرم من التجربة الحياتية التي تغني عملي في الكتابة والنقد بحجة الانتماء الى طبقة راقية. أحرم من الزواج والأمومة لأن الرجل المناسب لي ولعائلتي، لم يظهر بعد وقد لا يظهر. هل يصدق أي كان أنني أحسد الفلاحة التي تبيعنا الحليب، فهي شابة في مثل عمري متزوجة ولديها أطفال، تعمل وتتحرك باستقلالية تامة وحرية افتقدها أنا الفتاة المتعلمة والمنخرطة في الميدان العام، حتى علاقة بائعة الحليب بزوجها وأسرتها السيئة تبدو لي أفضل من علاقتي الوطيدة بأهلي وأخوتي، على الأقل لديها أسباب تبرر تمردها أو أخطاءها ان وقعت، لكن أنا إذا حاولت التمرد على مجتمعي، فما الدافع لذلك، أليست السمعة الحسنة قيداً لا يطاق؟! حتى الحب المبالغ فيه قتل رحيم للذات ولا يخلو من عذاب مقيت. لكم أتمنى لو كنت بنت عائلة فقيرة، لكن حرة بحياتي وقراراتي التي تجعلني أؤسس بيتي الخاص. في لحظات الصدق مع نفسي أعترف أن لا شيء يعطي للشباب معناه سوى أن يعاش بحرية، ولا شيء يعطي معنى لحياة المرأة سوى الأمومة، كل ما قد نكتسبه في حياتنا من أموال وشهرة وشهادات علمية هو امتيازات مغشوشة إذا غاب عنه الاستقلال الذاتي، أسوأ معاني الحرية تلك التي تبدو ظاهراً كحالي، وهذا الشعور تحديداً يقهرني". لا تخفي الصورتان الأولى والثانية، حرية شاقة ومؤلمة، تقضي عليها الأعباء الكثيرة، وحياة لن توفر حرية فعلية، وانما مجرد الإحساس بالحرية وليس الحرية نفسها، التي من الممكن استعمالها وربما التمتع بمسؤولياتها، لا حرية ثقيلة الوطأة تسحق تكاليفها الإنسان نفسه، ومع هذا ربما كان الشعور بالتخلص من المزيد من القهر، أمراً يبعث على الأمل.