غريب أمر ردود فعل العرب على القمة العتيدة التي ستستضيفها بيروت بعد أيام قليلة... فهناك من هو خائف عليها من الفشل والانتهاء بالصيغ والبيانات والمواقف نفسها التي انتهت اليها القمم العربية السابقة، خصوصاً ان عملية "التسخين" تصاعدت أخيراً مع بدء العد العكسي لعقدها وشملت معظم ملفاتها ومفاصلها الرئيسة. وهناك من هو خائف منها بالترويج بأنها عقدت لتحقيق أمر ما، أو لغاية في نفس من سمح لها بالمرور والانعقاد، أي بمعنى آخر، تحويل المسار العربي من المطالبة بالحقوق الكاملة الى الرضوخ للأمر الواقع والموافقة على الشروط الاسرائيلية المذلة. وهناك من يبدي قرفه سلفاً ويعبر عن استخفاف ولا مبالاة بالقمة ومجرياتها وأسبابها ونتائجها، معتبراً ان عقدها وعدمه سيّان، لا فرق بينهما لأن كل شيء باق على حاله من التردي ولأن قراراتها لا تحقق الحد الأدنى المطلوب. وهناك من يبدي مخاوف مماثلة على هامش القضية الفلسطينية وإن كانت متعلقة بها وهو السير في ركاب الدعوة الأميركية والاسرائيلية للمساواة بين المقاومة المشروعة والارهاب تمشياً مع "الموضة" الحالية التي انتشرت بعد تفجيرات 11 أيلول سبتمبر وما تبعها من حرب على افغانستان أو ما أطلق عليه عنوان "الحرب ضد الارهاب". وهذه النقطة بالذات لا بد ان تشكل محور نقاش وجدل داخل أروقة المؤتمر وسط ضغوط أميركية شديدة تحمل عناوين مختلفة مثل "من ليس معنا هو ضدنا حتماً..." ولا حل وسطاً بالنسبة الى الارهاب. وبحسب المعلومات المتاحة قبل القمة فإن الاتجاه السائد يدعو الى رفع الإحراج بإصدار بيان واضح يدين الارهاب بأشكاله شتى، خصوصاً ما جرى في نيويورك وواشنطن، ويؤكد رفض الاسلام للارهاب لأنه دين محبة وسلام وتسامح يحرم التعرض للمدنيين والأطفال والنساء مع ترك نافذة مفتوحة تؤكد وجوب التفريق بين الارهاب والمقاومة. وبحسب هذه المعلومات فإن هناك ايضاً شبه توافق دولي وعربي على حصر الارهاب بصفته يمثل كل اشكال العمليات او الاعتداءات التي تهدد أمن المدنيين وحياتهم وتوجه لمناطق وأهداف مدنية مهما كان السبب والمبررات. تبقى قضية اشكالية تشغل بال القمة قبل عقدها وهي قضية حضور الرئيس ياسر عرفات رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية هذا المؤتمر الذي يُعقد في ظروف استثنائية بكل معنى الكلمة... ومعروف ان الضغوط العربية ولا سيما السعودية والمصرية على الولاياتالمتحدة أسفرت عن نجاح جزئي تمثل في الضغط على اسرائيل لفك الحصار عن عرفات والسماح له بالسفر الى بيروت لحضور مؤتمر القمة بطائرة مصرية أو أردنية أو حتى أوروبية. ولم تعد المعضلة تتمثل الآن بفك الحصار عن عرفات، كما قال لي مسؤول عربي كبير، بل بالسماح له بالعودة الى رام الله أو غزة وهو ما سيبحث وراء الكواليس بمشاركة دول عربية وأجنبية عدة. فليس المهم ان يخرج الرئيس الفلسطيني بل ان يعود لممارسة مهماته وقيادة شعبه في هذه المرحلة الحرجة علماً بأن شارون نفسه اعلن قبل أيام أنه يشعر بالندم لأنه لم يأمر بتصفية عرفات خلال الحصار على بيروت في صيف عام 1982. وهذه بدورها تشكل نقطة اشكالية في قمة بيروت، والارجح انها ستتحول الى حدث مثير من أبرز معالم هذه القمة. فالسيد عرفات خرج من بيروت عام 1982 مع الفدائيين الفلسطينيين في ما وصف آنذاك بالخروج الفلسطيني، أو انهاء الوجود الفلسطيني في لبنان بعد حرب أهلية مدمرة كان الفلسطينيون فيها الأداة والحطب والقوة المحركة في آن واحد. وها هو عرفات يعود، اذا أسفرت الجهود عن نتائج ايجابية، ليس زعيماً مطروداً بل رئيساً لسلطة فلسطينية معترف بها عربياً ودولياً، أي انه خرج نتيجة لمساومات ومداخلات عربية وأجنبية وسيعود بمساومات مماثلة بشكل أو بآخر. صحيح انه سيأتي الى القادة العرب جريحاً حزيناً خارجاً من أسر مذل وحصار مهين إلا أنه يعود ليطالب بالدعم المالي والمعنوي، وليأمل حتى بأن يحصل على دعم أو تفويض بإجراء مفاوضات مع حكومة صهيونية متعنتة ترفض مبادئ الشرعية وتضرب عرض الحائط بكل قرارات الشرعية الدولية والاتفاقات المعقودة مع الفلسطينيين في أوسلو وغيرها. والأرجح ان القمة العربية ستؤكد من جديد استعدادها لتقديم الدعم المعنوي والسياسي والمادي للشعب الفلسطيني الذي يتعرض الآن لأشرس فنون الارهاب والتعنت والمذابح الوحشية والتدمير الكامل للبنى التحتية إلا أنه من المستبعد ان يحصل عرفات على دعم او غطاء بشكل "شيك على بياض" بالنسبة الى أي اتفاق لا يتضمن عودة القدس والمقدسات واحترام حق العودة للاجئين الفلسطينيين، والعودة لحدود ما قبل السادس من حزيران يونيو 1967. وحتى لو اشتدت الضغوط لإبداء مرونة في هذا المجال فإن القمة ستكون غير قادرة على ارتكاب مثل هذا الفعل الشنيع وستكتب بيدها وثيقة فشلها وتتسبب بانشقاق جديد في الصف العربي. ولا يخفى على احد ان ما جرى اخيراً من تحركات مسرحية مشبوهة مثل لقاء شارون بعدد من القادة الفلسطينيين ولقاء شيمون بيريز مع شخصيات فلسطينية في نيويورك ما هو الا ذر رماد في العيون وتفريغ للقمة من معانيها و"تنفيس" المواقف قبل عقدها وذلك لمنع أي قرار عربي حاسم وقطع الطريق على مواقف قوية ستعلن ليس ضد اسرائيل فحسب، بل ضد كل من ينحاز اليها ويتخلى عن دوره كراع لعملية السلام وعن المبادرة الاميركية التي عُقد تحت ظلال مبادئها مؤتمر مدريد للسلام قبل عقد من الزمن، خصوصاً ان المملكة العربية السعودية قد رمت الكرة الى الملعبين الأميركي والاسرائيلي من خلال مبادرة الأمير عبدالله بن عبدالعزيز. ويبدو ان المساومات التي شهدتها الساحة أخيراً حول السماح بسفر عرفات وتخفيف الحصار والزعم بأن اللقاءات الفلسطينية الاسرائيلية قد استؤنفت تهدف الى أمر واحد هو نسف مقررات القمة قبل عقدها، فيما يبيت الاسرائيليون مكراً جديداً لتنفيذ مخططاتهم الجهنمية التي وصفها شارون وزمرته الليكودية ومساندوه المكلفون عمليات التجميل وحملات العلاقات العامة من جهة وتسخين الموقف العسكري من جهة ثانية لنسف كل احتمالات السلام وما سيترتب عليه. هذا بالنسبة الى القضية الفلسطينية التي يتوقع ان تأخذ حيزاً كبيراً من وقت القمة وأن تنتهي المناقشات باتخاذ مواقف معلنة لا تختلف في جوهرها ومعناها عن قرارات القمم السابقة من دعم وتأييد وشجب واستنكار وتأكيد التمسك بالسلام خياراً استراتيجياً وتشكيل وفد على مستوى القمة ليقوم بجولة عالمية تبدأ بالولاياتالمتحدة... ولكن ماذا عن القضايا العربية الأخرى... والتي تندرج في اطار ما يسمى بحال الأمة قبل القمة؟! يبدو ان عملية "التسخين" قبل القمة شملت هذا القضايا والملفات أيضاً، فالثابت أن الأمة العربية في حال لا تحسد عليه سياسياً واقتصادياً ومعنوياً بسبب تداعيات الأحداث الناجمة عن الوجود الاسرائيلي وما آل اليه من تعنت وتسلط وجبروت وتجبر من جهة والضعف العربي المتواصل الناجم عن الخلافات والحروب والفرقة والتشرذم والذي تحول الى شرخ رهيب يقسم الصف ويشل العمل العربي المشترك نتيجة للغزو العراقي للكويت عام 1990 من جهة ثانية. وجاءت تفجيرات أيلول في نيويورك وواشنطن لتطلق رصاصة الرحمة على هذه الحال المزرية، فانعكس سلباً على كل مناحي الحياة العربية من القمة الى القاعدة ومن القيادات والدول الى الشعوب والأفراد. وتحولت الحرب على الإرهاب الى سيف مصلت على رؤوس العرب المسلمين ليرهبهم ويصنفهم ويبتزهم ويدفعهم الى القلق من الآتي الأعظم حيث أصبحت كل دولة مهددة بالانتقام بزعم انها دولة راعية للارهاب او مؤيدة له. ولا شك في ان من خطط ونفذ وحرض على هذه التفجيرات قد ضرب القضية الفلسطينية في الصميم بعدما استغلها شارون لتمرير كل مخططاته. وتداعيات ما جرى لا بد من ان تكون ضمن أولويات القمة العربية من اجل البحث في ايجاد مخارج وحلول للأزمات الاقتصادية التي خلفتها والانطلاق في عملية الحوار وإصلاح الخلل والتخفيف من محنة المتضررين. ومن هذا البند لا بد من بحث مستفيض للهاجس الأمني وأساليب اقتلاع جذور التطرف والارهاب ومنع المغرضين من استغلال الدين لأهداف ومصالح حزبية وشخصية وخاصة، وإيجاد حلول لمشكلات الشباب وقطع الطريق على كل من يحاول تضليلهم او التغرير بهم كما جرى أخيراً من قبل "القاعدة" و"طالبان" والحركات المتطرفة الأخرى. وقد يبدو هذا الطرح غريباً وبعيداً من اجواء القمة، ولكن من يتعمق جيداً يعرف انه يدخل في صميم حال الأمة، ما يتطلب تضامناً وتعاوناً من اجل حل المشكلات الاقتصادية وأولها البطالة التي وصلت نسبها الى حافة الخطر خصوصاً عندما نقرأ ان غالبية أبناء الأمة العربية هم من الشباب دون سن الخامسة والعشرين، أي في سن العطاء والعمل. وإلى ايجاد فرص عمل، لا بد من قرارات على مستوى القمة مثل تفعيل السوق العربية المشتركة وبث روح الحياة فيها بعد ان تبين انها ما زالت حبراً على ورق، اضافة الى بحث سبل مواجهة مفاعيل العولمة ومنظمة التجارة الحرة ومشكلة الديون الضخمة التي تثقل كاهل الدول العربية. اما بالنسبة الى الخلافات العربية فإن حال الأمة اليوم أفضل مما كان عليه قبل القمة السابقة، فقد أُنهي معظم مشكلات الحدود، لا سيما بين دول الخليج وبين السعودية واليمن وبين البحرين وقطر، ولم يبق سوى قضية الصحراء المعلقة بين الجزائر والمغرب والتي تفجرت من جديد أخيراً، وحرب جنوب السودان التي تستنزف طاقاته البشرية والمادية، وأوضاع الصومال المزرية، والمخاوف من تعرضه لضربة عسكرية ساحقة بتهمة إيواء عناصر من "القاعدة". أما بالنسبة الى الحال بين العراق والكويت فهناك الآن مساع تطبخ على نار باردة لإيجاد صيغة مشرفة تخرج بها القمة وتنهي هذه المحنة التي أدمت قلوب العرب وتمهد لإزالة الشرخ الناجم عن الغزو العراقي للكويت. وعلى رغم التحفظ على الوساطة التي تقوم بها الجامعة العربية وتخلي مصر عنها فإن هناك اختلافات هي في التقويم يتراوح بين التشاؤم والتفاؤل حيث تردد بعض المصادر ان الطرح العراقي الأولي يفتقد الى المصداقية لأنه يقترح تجميد كل الخلافات والأمور الى وقت غير محدد والالتفات الى القضايا الأخرى في الوقت الذي تواجه القمة باحتمال غير مستبعد قد يتسبب بجرح نازف وهو تعرض العراق لضربة عسكرية عنيفة تستهدف نظامه وربما وحدة أراضيه. هذا هو حال الأمة التي لا تحسد عليها كما ذكرت، ولكن هناك في المقابل بصيص أمل بإيجاد حلول للقضايا المطروحة وتوصل القادة العرب الى صيغة مقبولة تحفظ الكرامة العربية وتوحد الصف وتساعد على التحرك في اتجاه العالم بقوة الموقف العقلاني والحازم في آن وهو ما عبرت عنه المملكة العربية السعودية أخيراً وتكرس في قمة مجلس التعاون الخليجي الأخير في مسقط حيث اعتبر خطاب الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد السعودي وثيقة عمل للقمة العربية وأساساً لمنطلقاتها وقراراتها مع خطابه المنتظر في القمة الذي قد يسفر عن مبادرة تتبناها القمة وتحفظ حقوق العرب وتخاطب العالم بلغة السلام العادل الذي ذبحه شارون. بانتظار جلاء موقف القمة لا بد من التكرار بأنها تُعقد وسط بحر من الأخطار قد تكون الأكبر بالنسبة الى القمم السابقة، لا سيما التي عُقدت بعد احداث جسام مثل حرب حزيران 1967 وغيرها. ومهما قيل قبل عقدها، وما سيقال بعده وما يوجه اليها من انتقادات، فإن مجرد عقدها في هذا الظرف بالذات يعتبر انجازاً ودلالة على توفر الأمل بعمل عربي موحد، خصوصاً اذا اتخذت شعاراً لها قمة العمل استكمالاً ل"قمة الأمل" التي سميت بها قمة عمان الأخيرة. * كاتب وصحافي عربي.