تمكنت اسماء هاشم من تأسيس مساحة متميزة لها عبر القصص الفصيرة التي داومت على نشرها وخصوصاً في جريدة "أخبار الأدب" المصرية. وما يزيد من تميز صوت اسماء هاشم هو كونه صوتاً آتياً من الجنوب، بل من أقصى جنوب مصر، وبالتحديد من أسوان. وظل الجنوب فترة طويلة وربما حتى الآن هو المكان الذي يتكثف فيه حضور الحضارة المصرية القديمة ما يجعله مكاناً سياحياً بحتاً يفرز شبكة متداخلة من الصور النمطية النيل، الحِنة، الجمال الفرعوني، المعابد، التي لا تسمح برؤية تفاعلات البشر مع المكان المختبئ تحت غلالة من الانبهار والتعميم. في روايتها الأولى "المؤشر عند نقطة الصفر" الصادرة عن دار "ميريت" 2002 في القاهرة نجحت أسماء هاشم في تحويل الجنوب من موضوع إلى ذات، وإلى مكان يعلن عن خصوصيته المحلية التي تتواصل فنياً وإنسانياً مع دوائر أكثر اتساعاً وأكثر رحابة، وبذلك تتحول قرية الحاجر الصغيرة الواقعة غرب النيل إلى رمز للقرية الجنوبية المفعمة بالعادات والتقاليد والموروثات التي لا يمكن الوصول إليها إلا بعد عبور نهر النيل وهو ما يحمل دلالة كبيرة. ولعل الحركة بين الهنا والهناك تنعت مساحة جديدة خارج الخطابات السائدة وتخلق تمايزاً لكيان لا يريد أن يتحول إلى جزء من السائد. من هذا الهامش ترصد اسماء هاشم العلاقة بين سمية القادمة من خلف التل الرملي لقرية الحاجر وبين المرشد السياحي الآتي من "مدينة الغرباء" الغارقة في دخان مصنع قصب السكر. "المؤشر عند نقطة الصفر" عمل يحمل قدراً كبيراً من الشجن الموروث والمفروض، شجن المكان كفضاء تتحرك فيه الشخصيات. والعنوان ذاته يعبر عن القسوة الكامنة في طبيعة المكان فهو عنوان يدل على الحياد المطلق والسكون التام. كيف يمكن الحفاظ على هذا الثبات في عالم مقسوم تعبره سمية كل يوم لتذهب إلى عملها السياحي ثم تعود أدراجها إلى البيت ذي المصطبة والمندرة والجدة الآمرة الناهية. وهذا لا يعني أن سمية تعاني من ازدواجية بل هي شخصية متسقة تماماً مع ذاتها تتحرك في الحدود المرسومة لها. كل ما في الأمر هو أن مؤشر القلب لم يعد عند نقطة الصفر بل تحرك لتعلن سمية أن "الثورات لا يصنعها إلا الحب"، لكن عدم تطور العلاقة في ما بعد هو ما يدفع سمية إلى الكتابة في محاولة لمعرفة سبب عدم التواصل. الكاتبة مشغولة بفكرة التواصل مع الآخر وهي على وعي شديد بمجيئها من عالم يختلف عن الآخر فتقول: "حين يلقيني المركب على ضفة النهر الغربية يبدأ خطوي على الرمل.. تتدحرج خطواتي تجاه الحاجز، يتغير لون حذائي الذي تراه لامعاً فأتهيأ لدور جديد وحياة أخرى قد لا تتصور أني أحياها لكني سأكتبها لأكتشف ظلالها في نفسي فربما أعرف سبباً لعجزي عن التواصل معك أو عجزك عن التواصل معي" ص 8. النص، إذاً، محاولة للتنقيب في الروح والمكان عن نقص التفاعل والتواصل، هل الأمكنة المغلقة تنغلق علينا أيضاً، أم أن انغلاق المكان هو الذي يدفعنا إلى البحث في الخارج وهي الحركة الدائمة بين الداخل والخارج التي تناولها يوري لوتمان بالتفصيل في مقاله عن المكان ودلالاته الفنية. عبر النص ومحاولة التنقيب، وعبر حكايات المكان تدرك سمية قوة المكان وسطوته: "أراك يا حاجر قابعاً في جب عميق تجذب إليك الذين خرجوا يبحثون عن أمكنة أخرى وشخوص آخرين". لا يقيم النص نفسه على أساس الكلام المرسل عن المكان بل إنه يعبر عن إشكالية المكان عبر الحكي، الحكي المتداخل عن الشخصيات وتحديداً النسائية، فكل شخصية تحمل على كتفها حكاياتها وتاريخها وأزمتها التي تتداخل معها سمية كجزء من المكان ذاته، مما يوضح في النهاية كيفية تحقيق المكان لنفوذه وقوته في بسط روحه على العلاقات. لم تلجأ الكاتبة إلى الوسيلة السهلة، أو بالأحرى الأسهل التي تولول على قهر المرأة، بل لجأت إلى الأصعب: التفصيل والحكي عن نساء تعيش معهن وتتأثر بهن ولا تملك سوى اللحاق بهن. بل إنها تعي تماماً موقعها وسط منظومة لا يمكن الفكاك منها: "على مدار تشكل الوعي كانت تتكشف لي تجارب عدة عن كائنات مقهورة، مفردات في كيان منظوم لا يمكنها أن تعيش خارج سياقه..." 40. تقوم الرواية بالتالي على الحكايات التي شكلت وعي سمية منذ الصغر إلا أن البنية لا تسير وفق الخط الطولي، بل وفق الحكي عن الأخريات الذي تتفاعل سمية معهن، فهي لا تقف خارج الحكايات بل هي جزء منها، يبدأ النص بفصل "المؤشر عند نقطة الصفر" حيث يتحرك المؤشر في الضفة الشرقية من النهر لنشهد التفاعل بين سمية والآخر "الذي لا نعرف له اسماً" وبالتالي فإن هذه البداية تبدد الحكايات التي تجيء بعد ذلك. فالعلاقة لا تتوطد والحكايات توضح السبب. يأتي الفصل التالي "مقاطع الحاجراوية" الذي تموضع فيه الكاتبة كيفية تصاعد قوة "مدينة الغرباء" التي قامت على اكتاف عمال التراحيل وهم الغرباء الذين عمّروا المدينة. في الفصل الثالث "ماذا أكتب؟" تدرك سمية أنها من عالم مختلف عن مدينة الغرباء التي جاء منها الآخر وتتداخل حكايات الحاضر مع الماضي مع العمة عيشة لتقر سمية في النهاية بأنها: "حكايات كثيرة تشكل نسيجاً متشابكاً من علاقات تتناقص، وتتأخر، وتلتقي أحياناً أخرى لكنها تشترك في أنها تحرس تعاليم المكان وتكرس عزلته". فيكون من المنطقي أن يتم سرد "حكاية عمتي عيشة". ثم يجيء الفصل الأخير "حكاية التي جاءت". النسوة في الرواية كثيرات وأهمهن هي الجدة التي تُنشئ بناتها وحفيداتها كما تعلمت وكما تربت، طريق صارم من دون مفاوضات، الحدود واضحة وما يجب وما لا يجب مفاهيم غير قابلة للنقاش. والجدة هي عماد البيت وهي الأصل أو بمعنى أدق هي مرجعية المكان: "أرست دعائم مملكتها وتربعت في قلب البيت مطمئنة القلب، وزرعت سلطتها على أخريات ربتهن بطريقتها الصارمة" ص 71. والجدة بالطبع تتوق لتزويج العمة عيشة وتمارس عليها مختلف الوصفات العمل، الحجاب، البخور، الأدعية، الأضرحة، الشيوخ، وتحاول أن تجعلها منضبطة. فالعمة عيشة لا تهتم سوى بالكحل وحِنة اليدين، وعلى رغم كل ما تظهره عيشة من تمرد إلا أن المنظومة لا يمكن الفكاك منها. وإذا كانت عيشة هي رمز انغلاق المكان وصرامة تقاليده في وضع المرأة فإن زينب لا تختلف كثيراً. فالمسألة ليست الزواج أو عدمه، بل هي مسألة التقوقع في الداخل التي تشد النساء بقوة. فقد تقدم سيد إلى عيشة راغباً في الزواج منها لكن الجدة رفضت لأنه "غريب". وزينب تزوجت من ابن عمها فرزقت ابنتين مشوهتين نتيجة زواج الأقارب وعندما كانت توصي سمية أن تحضر لها حبوب منع الحمل سراً ثارت ثائرة الجدة وأجبرتها على الحمل مرة أخرى لتجهض في النهاية. وفاطمة التي جاءت من الاسكندرية فتم تحويلها إلى زوجة ثانية تلقى صنوف العذاب على يد الزوجة الأولى نعيمة - والعمة عيشة. وشعور نعيمة بالعجز أمام "تطوع" زوجها لقبول فاطمة زوجة. كلها حكايات النساء في الناحية الأخرى من النيل والتي لا تسمح بالتواصل، حكايات لا يمكن لسمية ألا تتورط فيها: "أبكي حتى أتخلص من همومي قليلاً، أغسل داخلي وأعود كائناً يتعامل مع أزماته بحياد تام لأكتب حكاية جديدة ربما تفتح لي مساحة جديدة للتنفس" ص 89. في الناحية الشرقية تخفت العلاقة وتتساءل سمية "هل يمكنني ترتيب كوني من دونك؟ هل يمكن لمن مارس الحياة عند نقطة الصفر أن يعود إليها مرة أخرى؟!" ص 110. حكايات البر الغربي التي تصنع المكان تقيد سمية في البر الشرقي فيتفاعل المكانان معاً سلباً ولا يبقى لسمية سوى فعل الكتابة "حتى الكتابة ما هي إلا فعل يمارسه المتهورون والمعذبون" ص 123. وبذلك تحول سمية الكتابة سلاحاً تواجه به الجمود والسكون. فالمؤشر عند نقطة الصفر لا يعني سوى السكون التام أي الموت، الكتابة في مواجهة الموت هي ما تبقى لسمية لتواجه جمود المكان وسطوته على الروح. فالكتابة قد تفتح ثغرة للتنفس وقد تعبر عن عذابات وآلام لا يستوعبها المكان الذي تحرسه الجدة. هكذا تمكنت اسماء هاشم من رسم تفاصيل القهر من دون افتعال وادعاء، بل عبر تصوير حركة الشخوص في فضاء المكان وعبر نقل مفردات الحياة اليومية لنساء يعشن في البر الآخر، وعبر تحليل اسباب التمسك بالموروث الذي يراه الآخر "صورة مبهرة". التهميش والقهر والعزلة والعجز عن التواصل هي إفرازات مكان يُملي شروطه على الشخصيات. إلا أن اسماء هاشم لا تترك الدائرة سوداوية ومغلقة هكذا بل توظف مرة أخرى فعل الكتابة إيجاباً. فالجد عندما اكتشف تآكل حواف سجلات القبيلة، جمع كل أحفاده وطلب منهم أن يعيدوا نسخها. وهذه السجلات الدقيقة ترمز بالطبع إلى الروح القبلية التي لا تقبل الآخر الغريب مهما كانت مكانته وتضع حواجز شديدة في وجه التواصل مع الآخر، وكانت سمية إحدى المشاركات في عملية إعادة النسخ وعندما اكتشفت أنها أخطأت انتابها الفزع: "انتبهت وأنا اطابق الاسماء أنني كتبت سلمان بدلاً من سليمان وحامد بدلاً من حمد.. سريعاً قلبت الصفحة قبل أن ينتبه أحد، فكرت ربما أخطأت في تدوين اسماء أخرى..." ص 126. الخطأ هنا إيجابي من الدرجة الأولى، فهو الخطأ الذي يكسر دائرة العزلة والانعزال، وهو خطأ يحتاج إلى الكثير من الشجاعة للتغلب على الفزع الذي يسببه، كما أنه خطأ يأتي من أهل المكان - من الداخل - وليس مفروضاً عليهم - من الخارج، فهو الخطأ الطبيعي مع توالد الأجيال الأحفاد هم الذين يكتبون حتى إننا لنتساءل هل هو فعلاً خطأ أم تصويب لوضع ما؟ في النهاية لم يكن عبور سمية المستمر سلبياً طوال الوقت، فهو إن كان حرّك المؤشر من نقطة الصفر، فسمح أيضاً بدخول اسماء جديدة في سجلات القبيلة. بانتهاء الرواية هكذا لا يعود المؤشر عند نقطة الصفر كل ما في الأمر أنه يتحرك طبقاً لحركة أهل المكان وطبقاً لاتساقهم مع ذواتهم ومع البيئة المحيطة. وكما فتح الخطأ في تدوين السجلات مكاناً لآخرين تفتح الرواية الأولى لأسماء هاشم رؤية جديدة نسوية لكتابة الجنوب، رؤية هادئة ومتروية في التعبير.