منى عبد الكريم؛ مصوِّرة فوتوغرافية ترافق كاميراتها أينما ذهبت لتسجّل المشاعر المبعثرة على وجوه العابرين في وسط القاهرة، تتأملها من دون أن تكتبها، لأنها تؤمن أنّ منْ يكتب حكايتها وحكايات الآخرين ليس سوى «الحكاية الأم»، وما نحن سوى وسطاء بين الحكاية الأم والورق. هكذا تؤطر منى عبد الكريم لمجموعتها القصصية «حكاية الحكاية» (دار النسيم) بمقولات ذات طابع فلسفي تؤسس لمعنى القدرية في الكتابة عبر ثلاثين قصة قصيرة. ففي قصة «قبل الحكاية» التي تفتتح بها المجموعة، نجد أن القصص هدايا ونفحات تتفضل بها «الحكاية الأم» على المبدعين، ومنْ يغفل منهم عن الهدايا/ القصص يُحرَم منها، فتذهب لمن لا يغفل من المبدعين عن هدايا الحكاية الأم. فالغفلة نقيض الإبداع، لأن الإبداع هنا ليس القدرة على القول والإنشاء، وإنما قدرةٌ على الإنصات لمصدر الإبداع الذي لا ينضب، ألا وهو «الحكاية الأم». إنها ليست جنية تسكن وادي عبقر الشعراء، وإنما هي الأم التي تمنح ولا تنتظر من أبنائها سوى أن يكونوا رواة مخلصين لها. «الحكاية الأم» ليست كذلك نموذجاً مثالياً للحكي حتى لو كان نموذج شهرزاد في حكي ألف ليلة وليلة، ذلك أن شهرزاد في «حكاية الحكاية» ليست سوى «انعكاس مقابل للأنثى الأم (الحكاية) التي تمنح المخاض لكل الأقصوصات والروايات. كيان الأنوثة في مقام الأمومة هنا هو ما يُعوَّل عليه حتى يولد إبداعٌ. الحكي إبداع لا تقيده شروط الزمان والمكان وهيئات الجسوم؛ لأنه مفهوم له بعده الصوفي عند منى عبد الكريم، فالحكي فيض نور، حيث تبتهل الراوية إلى أمها الحكاية، ومن ثم لا يمكن لمن يستقبل ذلك الفيض من النور أن يحدِّد مسبقاً وفق إرادته الفردية الشكل النهائي لهذا الحكي/ الفيض. وهنا لا مجال للحديث عن نظريات النوع الأدبي، لأن المجالَ مجالُ الحديث عن دورٍ للكاتب لا يتجاوز دور الوسيط بين الحكاية الأم والورق، ومن ثم لا إرادة له في تحديد النوع الأدبي الذي يختاره الفيض/ الحكي لنفسه. «وحين أدركت سر الحكاية شعرت أنها تستعيد سيطرتها وترغب في تغيير معالم هذا الكتاب الذي يسجلها دون أن أجزم حتماً ما الذي يضمه، ربما أقاصيص، ربما خواطر نثرية (...) وتبقى الحكاية هي العنوان وهي المحتوى وأنا مجرد وسيط روحاني بينها وبين الورق». هل حقاً الكاتب وسيطٌ روحانيٌّ؟ وهل هؤلاء الوسطاء الروحانيون يعرفون الحزن ويعصف بهم الفَقْد؟! على مدى الثلاثين قصة ليس ثمة حكاية إلا وكانت حكاية لألم أو فقْد تعيشه الراوية التي لا تبرح أن تغادر ذاكرتها إلا لتعود إليها. إنها الذاكرة/ القوقعة التي تستوطن فيها الحكايات جسد الراوية. ومع ذلك لا شفاء من الحكاية لأنها نوع من الإدمان لا يستطيع أن يشفى منه المبدع والمتلقي على السواء. «ملعونة تلك العجوز؛ سرقت خيالنا لملء مقاعد شاغرة في جدول مستمعيها مدمني الحكايات (...) أقسمت أنها مثلنا أدمنت الحكاية» (ص9). إن الحكاية الأم التي تفيض لا تفيض سوى بآلام وكوابيس وعذابات، ونحن نروى ذلك لأننا إما أننا أدمنّا الألم أو أننا مازلنا نتوق إلى أن يكون الحكي ملاذاً لنا من ذاك الموروث الإنساني الذي ورثناه ونحن في رحم الأنثى الحزينة. «كلنا راوٍ وإن اختلفت الحكايات» (ص27). ومن هنا جاء البناء الفني لهذه المجموعة القصصية تجسيداً لمعنى أن تكون الكتابة أنثى حزينة تلد قصصاً شخوصها كائنات عابرة، وهو ما يكشفه الإهداء: «أيها العابرون بين الأوراق... أيها العابرون بين أيامي»، فضلاً عن الظهور المفاجئ لشخوص ثم الاختفاء المفاجئ لها بلا مبرر فني سوى أنها كائنات عابرة في الذاكرة (مثل مروان ودارين)... بل إن اسم المؤلفة ذاته يرد في إحدى القصص حاكيةً عن إحساسها بقدرية الحدوتة، وتشرح معنى أن تكون كائناً عابراً في حدوتة لم تملك فيها أن تختار اسمك «الاسم جزء من حدوتة قدر، مخطوطة منذ الأزل» (ص33). الكتابة أنثى حزينة بالفعل لأنها تلد قصصاً لغتها كلماتٌ تهجر المتكلمين بها، لأنهم لم يعطوها فرصة للتعبير عن نفسها؛ «قال لي صامتاً كل الأشياء، ولم يمنح الكلمات فرصة للتعبير عن نفسها وبإحساس عميق بالإقصاء قررت الكلمات هجره» (ص46). وهو ما يتجلى في ذلك الوعي الذي يقف خلف بناء منى عبد الكريم لقصة «العالم حكاية كبيرة تكتبنا حين ننساها»، ومن العبارات المسكوكة الجاهزة التي يمكن أن تكون قد قيلت أمامها عشرات المرات على ألسنة مئات البشر الذين لا يعطون لأنفسهم الفرصة ليعبروا عن ذواتهم الفردية، فثارت الكلمات نفسها عليهم حرصاً على أن تعبر هي عن ذاتها. والكتابة أنثى حزينة أيضاً، لأنها تلد قصصاً مبتورة، «القصص التي أكتبها مبتورة لا تعرف معنى النهاية» (ص13)، وهو ما يبرز في بناء جلّ قصص المجموعة على أساس البتر لتحقيق الفصل بين حكي طويل حول أحداث مؤلمة، وشخوص عابرة في الذاكرة وكأنه إملاءٌ من الحكاية الأم، وبين حكي قصير بفنط أسود بين علامتي تنصيص يلعب دور المؤول أو دور الناقد للحكي الأول؛ وذلك بعبارات قصيرة محكمة الصياغة تثير العقل ليتأملها، والوجدان ليتعاطف مع تلك الراوية التي صاغتها في إحدى لحظات الخروج من القوقعة/ الذاكرة للخروج على مرويات الحكاية الأم. ومن تلك النصوص، ذلك النص الذي يكشف إلى أي مدى تكون الأنوثة في مقام الأمومة بحاجة لحضن الأبناء، وإلى أي مدى بالمثل لا يكون للحكاية قيمة من دون قصة تبنيها بناءً فنياً متميزاً. «حول شجرة عيد الميلاد يعلّق الجميع هداياهم، إلا طفل صغير، احتضن الشجرة كأمه، وأصبح هو أمنيتها الوحيدة، ولم تعد الشجرة تحتمل مزيداً من الأمنيات» (ص28). تشير قصص «حكاية الحكاية» إلى أنّ رؤية العالم عند منى عبد الكريم تستند إلى حقيقة بسيطة لدرجة السذاجة وهي «أن الحكاية أنا، وأنا الحكاية، وكلنا الحكاية ولا أحد منا يعرفها فعلاً حق المعرفة» (ص90). ومع ذلك ليس أمامنا سوى أن نعيش لنحكي ونحكي لنعيش، حتى لو كان ما نحكيه هو صوت ارتطامنا ب «ماكينة الحياة» (ص59).