تعتبر غالبية المحللين السياسيين ان الوضع العربي والوضع العالمي يواجهان مرحلة انتقالية جديدة. وهي الآن في بدايتها، لم تتبلور ملامحها بعد. سلّم بيل كلينتون اميركا لجورج دبليو بوش، وهي في حالة فشل على مستوى رعايتها للتسوية، وفي موقع لا تحسد عليه من ناحية سمعتها. وقد انهالت عليها الانتقادات من كل حدب وصوب في البلاد العربية، ليس من جانب معارضيها السياسيين والايديولوجيين فحسب، وانما ايضاً، من جانب الكثيرين من أصدقائها، وممن تأملوا فيها خيراً بعد انتهاء الحرب الباردة. وتكفي ملاحظة الهوة التي قامت بين سياساتها في المنطقة وبيانات القمتين العربية والاسلامية. اما الأسوأ عليها فجاء من انتصار المقاومة في جنوبلبنان، واندلاع انتفاضة الاقصى، وتظاهرات الشارعين العربي والاسلامي. وتغني دليلاً انطلاقة حملة مقاطعة لبضائعها، معظمها بمبادرات فردية وشعبية عفوية، وهي في حال تزايد مع كل موقف تُشتمّ منه رائحة الانحياز للدولة العبرية، ومع كل عدوان على العراق. أما على المستوى العالمي فقد سلم كلينتون اميركا الى خلفه، وهي عاجزة عن اتخاذ قرارات في مجلس الأمن، عكس ما كانت عليه الحال في عهد جورج بوش الأب، قبيل اندلاع حرب الخليج الثانية وبعدها. ووصل الأمر في ذلك الوقت الى انتزاع قرار من الجمعية العمومية للامم المتحدة يلغي قرارها السابق باعتبار الصهيونية شكلاً من اشكال العنصرية. أما اليوم فلم يبق في يدها غير الفيتو لتحافظ على ما اتخذ من قرارات، ولعل في هذا مؤشراً الى فقدانها امكان اقامة نظام القطب الواحد، ودخولها في صراعات، بهذا القدر أو ذاك، مع بقية الدول الكبرى. وأصبح الأمر كذلك بالنسبة الى ضعف سيطرتها على النقاط الساخنة من البوسنة والهرسك وكوسوفو الى البحيرات الكبرى في افريقيا، والآن الى مقدونيا. فقد نافستها أوروبا، وبنجاح في أغلب هذه المناطق. ولهذا فإن ادارة جورج دبليو بوش ستكون في مواجهة مهمات صعبة للعودة بأميركا الى ما كانت عليه زمن جورج بوش الأب، أو على الأقل وقف التدهور واستعادة بعضاً من الهيبة المجرحة، والنفوذ المهتز. وكان من أولى علائم ذلك تبني استراتيجية الدرع المضاد للصواريخ من أجل مواجهة الدول الكبرى الأخرى وابتزازها. وقد شعرت جميعها بخطورة ذلك، وراحت تبدي معارضة وقلقاً. اي عادت اميركا في عهد جورج دبليو الى سياسة القوة في مخاطبة الدول الكبرى الأخرى. فمشروع الدرع الصاروخي يجب ان يقرأ باعتباره اعلان حرب يستهدف تعطيل القدرة العسكرية الصاروخية والنووية لروسيا ثم الصين ثم أوروبا. من هنا يمكن القول ان ثمة توتراً في علاقات اميركا مع روسيا. وقد يحتاج الأمر الى كثير من الجهد والمساومات حتى لا يتحول الى ما يشبه الحرب الباردة... واعادة سباق التسلح، والضرب تحت الحزام. وهنالك تأزم في علاقات اميركا بالصين، وعلامة ذلك، فضلاً عن معارضة الصين للدرع الصاروخي، خطة التسليح الاميركي الجديد لتايوان. وهذان أمران يعجّلان بتشكل محور روسي - صيني. اما العلاقة بأوروبا فيشوبها التعارض، في أكثر من قضية وسياسة، مع "دعّ بالكوع" هنا وهناك. وتحتاج الى اعادة نظر واعادة بناء. وهذان ليسا بالأمر السهل لأنهما يتطلبان من اميركا مخاطبة أوروبا بلغة التنازلات والمساومات وليس بلغة الفرض واعطاء الأوامر باعتبارها حامية أوروبا والدولة الكبرى الوحيدة. أما علاقة اميركا باليابان فيصعب اعتبارها من ناحية اقتصادية، وحتى سياسية، مرضية أو على ما يرام. تضاف الى هذا السياق صعوبات ستواجهها ادارة جورج دبليو بوش مع اللوبي الصهيوني داخل الولاياتالمتحدة، ليس على مستوى السياسات الاميركية في منطقتنا، فهذه الأسهل على المساومة، وانما من جهة الصراع على النفوذ داخل المواقع ومراكز القرار في الدولة الاميركية نفسها. فهذا اللوبي الصهيوني بلغ شأواً بعيداً في النفوذ المذكور في عهدي كلينتون، وخرج من الانتخابات الاخيرة مأزوماً. وهو يستعد للانتقام في الجولة الانتخابية الرئاسية المقبلة. اما مجموعة جورج دبليو بوش فستحاول بالضرورة اعادة التوازن مع اللوبي الصهيوني الى معادلة ما قبل رئاسة كلينتون. وهو ما لا يقبل به اللوبي الصهيوني من دون صراع وليّ أذرع. بكلمة، ان ادارة بوش ستغرق الى آذانها في المشاكل والصراعات داخلياً وعالمياً وفي كل اقليم على حدة. ففي منطقتنا استهلت أولى غزواتها بقصف بغداد، وبطريقة فجة، لم تهيئ لها أو تتمكن من تسويغها. فقد وضعت هدف اعادة احياء الحصار الذي راح يتصدع بدلاً من التخلص منه "بالتي هي أحسن"، انه حلم العودة الى "أيام زمان". وجاءت الخطوة الثانية من خلال زيارة وزير الخارجية كولن باول الى المنطقة لتسويق ما سماه "بالحصار الذكي" للعراق، الأمر الذي يبيت، في ما يبيت، النية السيئة الى اعادة الانقسام للصف العربي، وقلب الأولويات، واحباط ما تحقق في القمتين العربية والاسلامية. والى جانب ذلك جس النبض حول مو ضوع التسوية، مع إشعار العرب والفلسطينيين بأن الموضوع غير ملح ويمكن ان ينتظر. ثم جاءت الخطوة الاستفزازية الثانية بعد قصف بغداد بالاعلان عن استمرار التمسك بسياسة نقل السفارة الاميركية الى القدس، مما تكشف عن ارتباك في السياسة الاميركية حين حاولت وزارة الخارجية التخفيف منه. على ان من الضروري رصد ما تسرب من أخبار تقول ان ادارة بوش شجعت أوروبا على لعب دور تهدئة في فلسطين وتقديم تصور للتسوية. فإذا صحت هذه التسريبات فيعني ان اميركا لا تشعر بالضعف فحسب، وانما ايضاً، تريد التعاون مع أوروبا لمواجهة الضغوط الصهيونية المحتملة عند محاولة وقف التدهور الميداني، أو التقدم بمشروع يمكن اخراج التسوية من المأزق الذي وصلت اليه. الى هنا، يمكن القول ان اميركا، ان بدأت متخبطة، أمام بداية مرحلة جديدة عندما وضعت هدفها الأول العراق. واطلقت يد أوروبا للتمهيد في مواجهة موضوع التسوية. بيد ان السمة الثانية الأساسية في المرحلة الانتقالية الجديدة، تتمثل بتشكل حكومة شارون الائتلافية، وعمودها الفقري شارون - بيريز، اليفي ليكود - العمل. وقد تكشفت حتى الآن عن ان ائتلافها يقوم على هدف واحد في مرحلته الأولى، وهو مواجهة الانتفاضة واسكاتها وفرض سياسة حماية الأمن الاسرائيلي على السلطة الفلسطينية. ثم بعد ذلك يمكن ان يفتح باب التفاوض الذي قد لا تصل اليه مع صمود الانتفاضة، والوضع العربي، وربما الضغط الدولي. على ان ما كشفت عنه السياسة الاميركية ازاء العراق، وما راحت تتعرض له المناطق الفلسطينية بقيادة تحالف ليكود - العمل من حصار مكثف، وتقطيع للقرى والبلدات، وتقتيل، يتطلب من الجانب العربي رداً مناسباً خلال مؤتمر القمة العربية القادم، تهيئ له مبادرتان عراقية وفلسطينية. فعلى المستوى العراقي فإن أقوى رد يجب أن يأتي من العراق نفسه، وذلك بالاقدام على خطوة ذكية، وشجاعة، تتخطى الذات، بتلبية ما تتطلبه المصالحة مع الكويت والسعودية، وتقديم التطمينات الكافية، وهذا هو الأهم، على أن ما حدث لن يتكرر. الأمر الذي يرفع من دور العراق ومكانته ويسهم في توحيد الصف العربي لفك الحصار واحباط المخطط الاجرامي الذي تعد له أميركا للعراق. وان مثل هذه الخطوة تترجم فعلا أولوية الانتفاضة، وتتصدى للحصار، وتسهم في سرعة تخلص الخليج من القوات الأميركية. أما على المستوى الفلسطيني فالمطلوب، كما كان الأمر منذ بدء الانتفاضة ان تعمل الوحدة الوطنية تحت هدف واحد، لا يخلط بأهداف أخرى، ولا يغيّب لحظة واحدة وهو دحر الاحتلال. وهذا يتطلب التأكيد على أن الضفة والقطاع وسيناء والجولان أراض احتلت في حرب حزيران 1967، ومن بعد احتل جنوبلبنان 1978، وهي جميعاً في حكم واحد. ولا ينبغي لأحد أن يستثني قطاع غزة أو الضفة الغربية بما في ذلك القدسالشرقية والحرم القدسي، والحدود أو المياه الجوفية أو الأجواء، من اعتبارها مناطق محتلة، أو يستثنى ما قام عليها من مستوطنات عن مثيلاتها في الجولان أو سيناء. هذا يعني تصحيح الخلل الذي حمله اتفاق أوسلو، وما حدث من تناقضات وتلاعب بين المسارات، أو الايقاع بينها. أي اعادة الوضع الى نصابه: احتلال ومقاومة احتلال. والهدف دحر الاحتلال من خلال استراتيجية الانتفاضة والمقاومة. وان حصر الاشكالية باعتبارها احتلالا ومقاومة احتلال تتضمن الميزات الآتية: 1- يكون الهدف محدداً، ودعمه عربياً واسلامياً، رسمياً وشعبياً، واضحاً. ويصعّد المواجهة ويزيد من التعبئة والحشد، ويجعل التضحيات، مهما غلت، ضريبة تدفع في مقاومة احتلال كما هو الشأن حيثما كان هناك احتلال. 2- لا يسمح لأميركا والدولة العبرية بأن تلعبا على ما يسمى تعدد المسارات، فبدلاً من وحدة المسارين السوري - اللبناني تصبح هناك وحدة المسارات الثلاثة الفلسطينية والسورية واللبنانية، مدعومة من مصر والسعودية والأردن والموقف العربي عموماً. ويمكن في هذه الحال ان يتعاظم الاسهام الايراني والاسلامي عموماً. 3- تسقط سياسات تصوير الوضع كأنه عدم اتفاق بين متفاوضين بدلاً من ان ثمة مشكلة احتلال لا يريد أن يرحل. وتسقط عبارة "إعادة الانتشار" والتي تخفي بقاء الاحتلال. وينهار شعار "وقف العنف" أو "العنف المتبادل" الأمر الذي يصف الانتفاضة بالعنف ويضعها على قدم المساواة مع عنف الاحتلال وجرائمه بدلاً من اعتبارها هي والمقاومة كفاحاً مشروعاً ضد الاحتلال. ولا يصبح طلب الحماية الدولية أو العودة الى وضع 28 أيلول سبتمبر بديلاً لمواصلة الانتفاضة والمقاومة لدحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات. 4- يحول دون طرح شعار خاطئ، كما فعل البعض، في تظاهرة بيرزيت 12/3/2001 حين وصفوا محاصرة القرى والبلدات "بالابارتايد" المعازل العنصرية بدل أن ترى جيش احتلال ينقضّ على القرى والبلدات ليكرس الاحتلال والمستوطنات. باختصار إذا حدد الهدف جيداً، ووحدت الصفوف الفلسطينية حوله، وتضامن العرب والمسلمون في تأكيده ودعم الانتفاضة، ورُد على شارون باللغة التي يفهمها وهي كسر ارادته في اخضاع الانتفاضة أو إذلال الشعب الفلسطيني، وأوصل الى التخوم التي لا يحتملها ائتلافه، ولا الموقف الأوروبي، وربما الأميركي، فسوف يهزم. فتكون تلك خطوة ضرورية لدحر الاحتلال حتى بلا قيد أو شرط، ولرفع الوضع العربي، عن كاهله، تهديدات شارون. فالكل يحب أن يقتنع بأن هناك عرباً، دولاً وشعوباً، يجب أن يؤخذوا في الاعتبار فلا يتجاهلن أحد مصالحهم وقضاياهم. * كاتب فلسطيني.