يثير الناقد البريطاني كريستوفر هتشنز في كتابه الجديد "كتّاب في المدار العام" مسألة الأدب في علاقته بالسياسة. مجال الدراسة يمتد من أعمال شعراء انكليز برزوا في النصف الأول من القرن العشرين الى أعمال سلمان رشدي وآخرين معاصرين. هنا قراءة في المسألة: من الخرافات التي اطمأن اليها مريدو الحداثة الادبية ان لا علاقة بين الادب والسياسة تستحق الاهتمام. فشكل التعبير، او البنية اللغوية للنص الادبي، هو موضع عناية الحداثة الرئيسيّ، فهي ُتسلّم بأن ما يرد في النص من مضامين سياسية واخلاقية ليست بذات اهمية للحقيقة الجمالية التي تعطي هذا النصّ هويته. والاقل اهمية من ذلك كله، موقف صاحب النص السياسي. مثل هذه الخرافة تقوم على اختزال لحقيقة الادب بمقدار اختزالها لحقيقة السياسة. فكما ان السياسة، تُبعاً لظن كهذا، هي الموقف الذي يلتزمه المؤلف، ومن ثم العبارة السياسية التي ينطق بها العمل الفني، كذلك فإن الادب هو شكل التعبير الذي يختاره الاديب "الحداثويّ"، الساعي ابداً الى الانقلاب على اشكال التعبير الموروثة. والنتيجة، بحسب هذه الخرافة، ان لا دور للثقافة عموماً، للمدار العام السياسي، او لأي عامل خارجيّ، وغير نصيّ، يُملي، او يحض، على استخدام شكل من التعبير دون آخر. مواقف متطرفة ولكن على رغم هذا الموقف، او بفعله على الارجح، لم يتوان روّاد الحداثة، امثال عزرا باوند وت.س. إليوت وييتس وويندهام لويس، وغيرهم، عن التعبير عن مواقف بالغة التطرف، وغالباً ما تستند الى مفاهيم عنصرية او اهواء متحاملة. وهذا ما يدل على ان موقف الاستخفاف المُعلن تجاه السياسة، والاصرار بالتالي على طهارة الادب من ادرانها، انما هو تعبير عن موقف سياسي بحد ذاته، بل وفي بعض الاحيان من اشدّ المواقف السياسية بذاءة. الادهى من اصحاب هذا الموقف هم اتباعهم وورثتهم، والذين لعجزهم على الارجح، عن حسم الجدل لمصلحة اسلافهم تجدهم يسارعون الى الزعم بأن الكلام على العلاقة ما بين مداري السياسة والادب امسى مستنفداً. ولئن انطوى هذا الموقف على قسط من الصحة، فإن هذا القسط ينحصر في حقيقة ان إجابة نظرية مفهومية تحدّد على وجه حاسم طبيعة العلاقة ما بين المدارين، غير ميسورة. لكن هذا لا يعني بأن من المتوجب علينا الكف عن محاولة تحديد العلاقة المعنيّة، وإن ليس نظرياً، فعلى المستوى العمليّ، والوقتيّ الآني وثيق الصلة بما يثيره اي عمل ادبيّ بالمدار العام الذي يوجد فيه. فكيف يمكننا الكف عن محاولة كهذه ولا تكاد تنتهي قضية يثيرها كتاب حتى تندلع قضية ثانية يثيرها كتاب آخر؟ وأي سؤال أثارته مشكلة "آيات شيطانية" او مشكلة رسائل الشاعر الانكليزي فيليب لاركن او موقف إليوت من السامية، الاّ السؤال حول العلاقة ما بين الادب والسياسة؟ وعلى ما يشهد، ويتابع، الصحافي والناقد البريطاني كريستوفر هتشنز في كتابه الصادر حديثاً: "تشريع عن مُعلن: كتّاب في المدار العام"، فإن اللقاء، بل المواجهة ما بين الكاتب والسياسة لم تكن أخفّ جدالية حتى حينما بدا الكاتب مُعرضاً عن السياسة، او على صلة واهية بشؤون الدولة والدستور والاحزاب المتنافسة. طبعاً، هتشنز الساعي الى تحويل الكتابة السياسية نفسها الى فن، كما جورج أورويل، احد ابطاله، لا يرى السياسة في كل شيء، وانما يرى أن العالم إستبدت به من الحوادث العامة ما جعل الحياد غير ممكن والصمت ابلغ دلالة من الجهر بإنحياز واضح. فلا يغرب عن باله خلال قراءة مجموعة روايات انطوني باول "رقصة على موسيقى الزمن"، ان مؤلف هذا العمل الادبيّ الهائل يمثّل على كل شيعة وملّة وجدت ونشطت خلال الحقبة الواقعة ما بين الحرب العالمية الاولى ومنتصف عقد الستينات، وهو المدار الزمنيّ للرواية، ما عدا ابناء الطبقة الارستقراطية المتعاطفين مع الفاشية والنازية. فليس من تفسير لمثل هذا الغياب الاّ مشيئة الروائي حماية سمعة الطبقة التي ينتمي اليها. لا يدّعي هتشنز حقّ تعيين ما ينبغي على الكاتب ضمه في اعماله او إستبعاده. على العكس من ذلك تماماً، فإن إنكار مثل هذا الحق على الناقد لهو ما يقع في قلب دفاعه عن كلٍ من إليوت ولاركن في القضيتين اللتين شغلتا الوسط الادبيّ في الاعوام القليلة الماضية، وتحديداً في الولاياتالمتحدة وبريطانيا. وكانت قضية إليوت قد أثيرت بفعل صدور كتاب انطوني يوليوس "ت. س. إليوت، معاداة السامية والشكل الادبيّ". اما لاركن، فإن نشر رسائله بما تضمنته من تحاملات الشاعر الانكليزي، العنصرية والبذيئة، جعلت بعض المعلقين الادبيين يطالب بحذف قصائده من المنهاج الدراسي. دور الكاتب هتشنز لا يعلل أدنى وهم تجاه الاديبين المتهمين. فهو يُسلّم بأن إليوت كان معادياً للسامية وان لاركن كان فاشياً. بيد انه في الوقت نفسه يحذّر من ذلك الربط غير المحقق ما بين الانجاز الادبيّ للكاتبين وما بين موقفيهما السياسي. فلم يسهم العداء للسامية في تكريس الموقع المرجعيّ الطابع لقصائد إليوت، كما ان شعبية قصائد فيليب لاركن لا تعود الى ميوله الفاشية والعنصرية وإنما الى توسّل العاديّ واليومي في سبيل تكريس نظرة ميتافيزيقية، تشاؤمية، تجاه الوجود الانساني. لكن هذا الموقف الناضج حيال السياسة والفن لا يعفينا من التساؤل وربما للمرة المليون عن دور نيّة الكاتب ومقصده. ليس هناك من حظوة او اثر لمدرسة "النقد الجديد" او لشقيقتها الفرنسية "البنيوية"، عند مؤلف "تشريع غير مُعلن". فهتشنز وإن نظر بعين الريبة الى محاولة الربط ما بين موقف الكاتب السياسي ومضمون وشكل عمله الادبي، تحديداً في قضيتي إليوت ولاركن، فإنه لا ينكر دور نية او قصد الراوي في ما يكتب. فهذا ناقد ينحدر من سلالة من النقّاد والكُتّاب، والتي بفضل فطرتها فضلاً على خبرتها وعلومها المتنوعة، ادركت ان ميادين الاهتمام الانسانية فيها الكثير من التداخل والتشابك. ولكن الاهم من ذلك، ان هذه السلالة، وإن لم ينج من اتباعها سوى القليل، فإنها تزاول نشاطها وسط حياة عامة ما برحت مقولات نظير "الوكالة الحرة للفرد" او "الاستقلالية الذاتية" تحكم سبل تأويل افعال واقوال الناس. على هذا فإن الكاتب مسؤول عما يكتب او يختار ان يعلن ويقدم الى المدار العام، بمعزل عن دور العوامل التي تتجاوز إرادة الكاتب بنية اللغة اللاواعية، مثلاً، او غير ذلك من عوامل. لذا نجد ان هتشنز المدافع من غير هوادة عن سلمان رشدي يرفض زعم القائلين ان رشدي لم يقصد ما ورد في روايته، حتى وإن كان غرض مثل هذا الزعم إلتماس الشفاعة بإسم المؤلف المنذور للإغتيال. لقد عنى رشدي تماماً ما اثار سخط الساخطين من رواية "آيات شيطانية". ويعلم هتشنز ايضاً ان هناك مقاصد ونيات مُعلنة، واخرى غير مُعلنة. وان الكثير من النيات المعلنة انما هي التي غالباً ما يُصار الى نسبها للعمل الفني بعد إنجازه. لهذا فإنه من غير الكافي، بل ومن غير الصائب، ايضاً، إستنتاج نية العمل الادبي من الموقف السياسي المُعلن لكاتبه او بالاستناد فقط الى ما ينسبه المؤلف نفسه من قصد ونية. قارئاً رواية الكاتب الاميركي توم وولف "الرجل بالكامل"، يجادل هتشنز انه وخلافاً لما يزعمه المؤلف بأن هذه الرواية استكمال لما ارساه في روايته السابقة والناجحة "مشعلة المباذل" من سرد واقعي إجتماعي على غرار الادب الكلاسيكي، فإنه وولف يسعى في الحقيقة الى تقليد نفسه آملاً ان تظفر الرواية الراهنة بالنجاح الذي ظفرت به الرواية السابقة. ففي غير مناسبة واحدة في رواية "الرجل بالكامل"، نجد ان المؤلف يميل الى إقتصاد في تصوير الشخصيات الروائية لا مبرر له في السرد. كبلنغ فمثل هذا الاقتصاد ما هو الاّ عملية تنميط مراوغة تهدف الى الربط ما بين هذه الرواية، غير الناجحة، ورواية "مشعلة المباذل" بما يُجيز تشبيه الاولى بالثانية، ومن ثم، إكتساب بعض شهرة ونجاح الثانية. اما في قراءة قصائد الاديب الانكليزي رديارد كبلنغ عن الحرب العالمية الاولى، فيلاحظ هتشنز، وإن بإسلوب موارب، ان نازع الكراهية والحقد الساطعين في هذه القصائد تجاه المانيا ليس فقط الإعراب عن نقمة الكاتب تجاه مصرع إبنه وهو يحارب الإلمان، وإنما السعي الى التخفف من حدة إحساس الشاعر بالذنب تجاه ذلك. وكان كبلنغ، على ما هو معروف، قد شجع ابنه اليافع، بل دفعه دفعاً الى الانضواء في الحرب الاولى. وقيل أن الفتى سقط وهو يبكي من الخوف، فكيف لا يحسّ الاب بالذنب؟ إن قراءة كقراءة هتشنز هذه، تدل على ان أي محاولة لتجاهل نيات المؤلف، المُعلن منها والمضمر، او التساهل تجاهها، انما هي تضحية بمعرفة ومتعة لا مسوّغ لها. الاهم من ذلك انها في الحقيقة محاولة يائسة لتجاهل العلاقة ما بين الكاتب والمدار العام طالما انها العلاقة التي لا تني تتقدم الى الواجهة كلما تحوّل كتاب الى موضوع اهتمام او جدل عام.