في الحلقة الاولى من سلسلة التحقيقات عن افغانستان رصد لحركة الشارع في كابول بعد "طالبان" والصور المختلفة التي خلفتها عقود الحروب الداخلية والخارجية، وذلك الدمار الكثيف الذي يزنر كابول والذي تراكت فوقه طبقات من الغبار والتراب. صوت المغنية الأفغانية "نغمة" يرسله مذياع سيارة التاكسي التي كانت تتجول بنا في أحياء كابول الخربة، فيضيف الى حيرتنا حيرة، فنغمة التي يحمل معظم سائقي التاكسي في المدينة أشرطتها ويسمعونها لركابهم بشيء من النخوة والاعتزاز، تشعرك طبقة حزينة من صوتها، بأنه لا ينبعث من آلة التسجيل، وإنما من بين تلك الجدران الترابية المتآكلة التي تتراصف وراء بعضها البعض، لكن طبقة اخرى من صوت نغمة تعود فتبعدك عن المشهد الترابي والغباري هذا، إذ ان غنج المغنية ونفاذ صوتها الى مناطق غرائزية في وجدان الأفغان يطردان ميلك الأول. لا مكان للموسيقى وسط هذا الخراب، على رغم اصرار سائقي كابول على ملازمة تجوالك في سياراتهم بسماع مطربة افغانستان الوحيدة. لا يمكن الامساك بكابول من طرفها والسير بالاتجاهات المختلفة من هناك، فالحروب أفقدت المدينة اتجاهاتها، وجعلت من انواع الخراب علامات يمكن التدليل من خلالها على الفروقات بين المناطق والأحياء والأقوام. وبعد ايام قليلة من اقامتك في المدينة يصير في إمكانك ان تميز بين احياء البشتون المدمرة وأحياء الهزارة الغبارية المهجورة والمتآكلة. أما الطاجيك في شمال المدينة فلعقم إقامتهم ونزوحهم، ولأحيائهم المكتظة والمهجورة صور أخرى يمكن ملاحظتها ايضاً. قلب المدينة وأسواقها ومركزها تتكثف فيه صور اطرافها، فلا ينعقد على هيئة ثابتة ولا يؤلف اكتظاظه اي معنى، اسواق لا تشهد على شيء وإقامة لا يمكن توقع دلالاتها. فقط غبار كثيف يربط بين اجزاء المدينة، ويمسك أحياءها، وبيوت تكاثفت طبقات من الغبار على جدرانها فتحولت الى تراب. لا أبنية كبيرة في المدينة. منازل متلاصقة، بعضها بني في سهول فتراصفت جدرانه واستقامت، وبعضها بني على هضاب صغيرة فظهرت البيوت وكأنها كهوف حفرت على التلال. ثم ان الحروب والغزوات التي تبادلتها الأقوام الأفغانية في المدينة محت الآثار التي غالباً ما تثبت الجماعات المقيمة فيها علاماتها وشعائرها، فأصبح من التعميم القول ان هذه هي حدود السكن الطاجيكي، وأن هذا الحي هو للهزارة. الجماعة السائدة تغزو اقامتها أحياء الجماعات الأخرى، ثم تعود الأقليات المنتشرة في أحياء الآخرين بفعل انتصار ما لتتحول الى الضحية الأولى في الحرب القادمة، وبالسرعة نفسها يتحول المضطهَد الى مضطهِد. ويمكن العثور على معظم المعاني التي تحملها دورة العنف هذه على جدران الأحياء والخرائب التي تزنّر المدينة. الضرب للهزارة والبشتون الطريق الى غرب المدينة واسعة ومليئة بالحفر التي خلفتها القذائف، وإلى الشمال من هذه الطريق احياء الهزارة المدمرة. كادته سه وخو شحال مينه ودهمزنك. المسافة بين الطريق وسلسلة الجبال التي تزنر كابول تبلغ نحو كيلومترين. وفي هذه المسافة السهلية الهائلة الاتساع تقع خرائب الهزارة المهجورة كلياً. المنازل دُمرت سقوفها وتدلت من جدرانها كتل من الحديد والتراب. ويمكن تحقيب هذا الدمار الذي لا يبدو انه وقع مرة واحدة على هذه الأحياء. فبعضه اضافت إليه عوامل الزمن وتعاقب الفصول ملامح اخرى فدورت زواياه وأثنت ما خرج من الجدران الحجرية من خردة وتراب فصار دماراً هادئاً وعادياً وصار أيضاً امتداداً لونياً لتلك الجبال الصخرية الجدبه التي تزنر كابول. وبعضه الآخر اكثر جدة، فاحتفظ بملامح ضئيلة من الحياة التي كانت تدب في هذه الاحياء قبل ان تصبح دماراً. هذه الملامح ربما تكون قطعة ثياب معلقة على سلك معدني خرج من جدار مدمر، وربما ايضاً تكون سيارة أوقفها سائقها الى جوار كتلة من الحجارة المتهاوية. والجدران في هذا النوع الثاني من الخراب، ما زالت تحتفظ بشيء من الطين الذي يمسك حجارتها، وقد تعثر بين ما تبقى من أروقتها على عائلة جاءت لتبحث عن شيء ما وسط الركام. منطقة ديبوري امتداد لهذه الأحياء الى شمال الطريق الواسعة التي تأخذك الى غرب كابول. ما زالت السيارة تخلف وراءها تلك الأحياء الخربة وصوت المطربة نغمة ينبعث قوياً من المذياع. ولكن، كيف يمكن تصريف هذا المزيج من الحزن والغنج في مدينة كهذه؟ السائق يحدثنا عن مغامراته النسائية في ايام طالبان هذا موضوع سمعناه من اكثر من سائق يقول انهم قبضوا عليه متلبساً بامرأة وأنه دفع لهم نحو مئة دولار حتى أفرجوا عنها. وينتقل مباشرة للحديث عن الحروب التي افرغت هذه الأحياء من سكانها. فهذه المنطقة كما يقول كانت بأيدي الهزارة في ايام حربهم مع مسعود أحمد شاه مسعود وبعد انتصار هذا الأخير عليهم نزحوا الى اماكنهم الأصلية التي كانوا جاءوا منها، اي الى باميان هزار جان وإلى الولايات الأخرى. لا يعيق استغراق السائق في الحديث عن ذكريات الحروب انسجامه الشديد والمبهج مع الأغاني التي يرسلها مذياعه، وتكرار هذا الأمر يشعرك بأن صوت هذه الآلات الوترية والنفخية هو الخلفية الموسيقية لهذه الحكايات، أو كأنها الموسيقى التصويرية للفيلم الأفغاني الطويل. والطريق نفسها توصلك الى احياء جديدة للبشتون، انها أحياء فاضل بك ونياز بك. لم ينل الدمار من هذه الأحياء، فالهزارة لم يلتقطوا انفاسهم بعد للانقضاض على خاصرتهم البشتونية هذه. وتشبه هذه الأحياء في تراصف منازلها وفي توزع نواحيها الأحياء الهزارية قبل تحولها خراباً. هذا التشابه يوفر لك فرصة تخيل شكل الاحياء المدمرة قبل خرابها. لا، ليس الدمار ونفاياته سبب هذا الغبار الكثيف. فأحياء البشتون العامرة احياء غبارية ايضاً والحياة التي تدب فيها لم تخفف من ترابيتها، والجفاف الذي يصيب افغانستان منذ اكثر من خمس سنوات لم يصب الزرع فقط وإنما اصاب التراب والحجارة ووجوه الناس. في أحياء البشتون المأهولة غرب كابول تدب حياة كثيفة تصل الى اطراف الشارع الواسع، وتعرقل المرور أحياناً. لكن شيئاً ما ينقص هذه الحياة، فالهزيمة بادية على وجوه العابرين، ونظراتهم المتسائلة في الوجوه الغريبة تضاعف غموض اوضاعهم. وعند تقاطع طرق وسط الطريق الواسع المؤدي الى غرب كابول تجمّع مئات من الرجال الصامتين حول سيارة للقوات الأميركية كانت تحمل مكبراً للصوت يتلو من خلاله افغاني يعمل مع القوات الاميركية بياناً او كلمة توضح ان مجيء القوات الأميركية الى افغانستان هدفه اعادة اعمار هذا البلد. في هذا الوقت حملت وجوه الرجال المتجمعين حول السيارة الاميركية علامات تساؤل واستغراب، إذ لم يسبق لهؤلاء الرجال ان شهدوا موقفاً كهذا. الموقف حمل سذاجة او سوء فهم متبادلاً، الأميركيون لجهة وسيلة تسويق حربهم في افغانستان، والأفغان لجهة انذهالهم وتجمعهم حول السيارة العسكرية الأميركية. وفي آخر الطريق المفضي الى غرب كابول يقع قصر الملك الذي حكم افغانستان في بداية القرن الفائت، أمان الله خان. ويُطلق على المنطقة التي يقع فيها القصر اسم دار الأمان. القصر في منطقة خالية تقريباً من السكن والمباني ما يزيد من مهابته، وهو لا يزال يحتفظ بهيكله العام على رغم الدمار الكبير الذي اصابه. انه دار الأمان كما يقول السائق، ويبدو ان اهل كابول يحتفظون بحكايات عن صاحب هذه الدار، لكن كثرة تبدل احوال المدينة وسرعة تبني السلطات المتعاقبة لقيم تلغي سابقاتها وتؤسس لأخرى جديدة ومختلفة تماماً، أحدثا شروخاً في الوعي الشعبي الأفغاني، فثمة عدم انسجام واضح في تعريف السائق الكابولي لدور الملك أمان الله خان. انه الملك القوي الذي حاول ارساء قواعد دولة حديثة في هذا البلد، لكنه كان اول من سمح للمرأة بالسفور في افغانستان، يردد السائق هذا الأمر بلهجة الإدانة. ولا يعرف السائق أي قيم تعوزه لتقييم دور الملك أمان الله خان. فالشيوعيون الذين أطاحوا الملكية كانت نقمتهم عليها مختلفة عن نقمة المجاهدين الذين خلفوهم، ثم جاءت الإمارة الطالبانية لتبث وعياً مختلفاً وتعريفاً مختلفاً للتاريخ وللتجارب السياسية في هذا البلد. أما الآن وقد عاد المجاهدون، وعاد ايضاً دور ما للملك السابق ظاهر شاه، فأي قيم يركن اليها لتقديم تقييم عابر لفترة حكم أمان الله خان؟ السائق كان حائراً فعلاً، وفضّل لاحقاً تجاوز الحديث عن فترة حكم أمان الله خان. شريط الدمار الذي يزنر غرب كابول، يلتف مع السيارة المتجهة من طريق اخرى الى قلب المدينة. يصعب تخيل نهاية للسلاسل الجبلية الهائلة والمتفاوتة الارتفاع. قمم جبال خلفها قمم جبال بعيدة وصعبة ونائية تدفع وعورتها الى مزيد من الوحشة والغموض، فخلف هذه الجبال ما لا يحصى من الحكايات التي تغذي هذا الايقاع الخرافي الذي يعيشه زائر كابول. ثلوج قليلة على منحدرات وسفوح الجبال، وجدب مخيف، فلا احد على ما يبدو حاول استنباتها. فقط كانت حاجزاً يفصل المدينة عن غزاتها الكثر، ويرسل الصقيع الى اجسام اهلها. الطاجيك المنتصرون في شمال المدينة احياء الطاجيك، الاثنية السائدة الآن في بلاد الأفغان. الأحياء هناك فقيرة ومكتظة ايضاً لكنك تشعر بزهوها، وبأن حركة ايجابية بدأت تنبعث في أنحائها. الأسواق الطرفية في الناحية الشمالية من المدينة مزدهرة اكثر، وحركة الداخلين والخارجين توحي بأن المنطقة اصبحت مقصداً للكثير من اصحاب الحاجات المختلفة. الناس منتصرون، وصور مسعود اشد كثافة وانتشاراً في هذه الناحية. ويبدو ان الضاحية الشمالية لكابول كانت اكثر الضواحي حرماناً لجهة الخدمات العامة، فالطرق فيها اشد وعورة، وفوضى البناء والتمدد على المساحات العامة هي الصفة الملازمة لهذه الأحياء. اسواق كثيرة مرتجلة، المحال التجارية بنيت من الأخشاب التي غطى سقفها طين قليل فألف اتحاد السقوف في السوق الواحد مساحة طينية متصلة. انه اللون الذي تتفق جميع اقوام المدينة على تخلله حياتها، وربما كان من الأمور القليلة التي تُجمع هذه الأقوام على الاشتراك به. في الشرق يمتد شارع وزير اكبر خان الذي يعتبر من احياء كابول الفاخرة تتوسطه منازل اثريائها السابقين وأثرياء حروبها، وعلى تقاطعاته تقع السفارات العربية والأجنبية. وشارع وزير اكبر خان في شرق كابول لا يمكن هذه الأيام تحديد هوية ساكنيه، فالحكومات القادمة بعد حروب وانتصارات تحمل معها نخبها وتنزلهم في هذا الحي. ضاعت ملكيات الكثير من المالكين ونزح قسم كبير منهم. فثمة منزل على سبيل المثال كانت تملكه عائلة ثرية من بنشير، وبنشير هي بلد احمد شاه مسعود، وبعد مجيء طالبان الى المدينة قام امير من الحركة بقتل مالك المنزل وطرد عائلته، ثم احتل المنزل وأجّره، وما ان انهزمت حركة طالبان وانسحبت من المدينة حتى فرّ هذا الرجل ليعود بعد ايام قليلة اجرى خلالها اتصالات وأمّن حماية من احد امراء الحرب الأفغان، ثم عاد ووضع يده على المنزل ليؤجره من جديد بسعر مضاعف هذه المرة كون المستأجرين أجانب. اما العائلة المالكة فقد استولى قاتل معيلها على الأوراق التي تثبت ملكيتها المنزل، فذاكرة القانون صغيرة هذه الأيام في كابول. ونواحي كابول هذه لا يمكن تحديدها بدقة، إذ ان سكن الجماعات الأفغانية تداخل كما تداخلت الصور والشوارع التي تخترق المدينة جارة على جنباتها ركام وحديد وخردة. وربما كانت الدائرة الأضيق في المدينة اكثر تحدداً واتساقاً. وللأحياء الداخلية ملامح أرسخ وعلامات تتعدى الخراب. فالطريق الذي يصل شارع وزير اكبر خان في شرق المدينة بفندق الانتركونتيننتال الواقع على رأس احد التلال الداخلية في المدينة، تتخلله احياء سكنية وأسواق مختلفة، وتقاطعات طرق وشرطة سير، وعبور كثيف للعربات التي تجرها البهائم، وللدراجات الهوائية الخفيفة التي تنطلق برجال أثقلتهم ملابس الشتاء والقلنسوات والأحذية المتآكلة. الاسواق عبارة عن تجمعات متراصة من المتاجر والمشاغل اليدوية يتجاور فيها اصحاب المهنة الواحدة والصنعة الواحدة من دون ان يؤلفوا سوقاً مستقلاً. ثمة مهن لا يمكن للعابر تحديد غاياتها من دون سؤال. فمثلاً هناك تجار السلاسل الحديد الذين يفردون سلاسلهم المحكمة والرصاصية على واجهات محالهم، وثمة مساحة لا بأس بها في احد الاسواق لتجار نعال الأحذية، يتفرع عنه زقاق صغير يحوي متاجر صغيرة لبيع الشرائط والديسكات التسجيلية، التي استبدل اصحابها فور انسحاب طالبان من المدينة اشرطة التسجيلات الدينية بأخرى موسيقية لمغنين أفغان وهنود. والباعة في هذا السوق حاولوا تظهير صورهم بشكل يخالف قليلاً الشكل السائد للشبان والباعة الأفغان، فلبس بعضهم قطعة ثياب مختلفة، ووضع آخر الكحل على جفونه فأوحى بأنوثة حجزتها لحية كثيفة وبشرة قاسية. المصورون المتجولون يملأون الأسواق حاملين آلاتهم الخشبية القديمة، تلك التي تخرج من صندوقها أكمام قماشية يدخل المصور يده من خلالها الى داخل الصندوق ليعالج الصورة. انه عالم فعلي من الاسواق القديمة، لا يشبه بشيء تلك الاسواق القديمة في المدن التي نعرفها. انه القِدَم والعتق الفعلي، لا ذلك التي زينت مدن كثيرة نفسها به، كاسطنبول ودمشق. القدَم في كابول يعني تماماً ما تعنيه الكلمة. لكنه ايضاً قدم مصدع ومتقاطع مع عبور كثيف للسيارات الحديثة الصنع ولكن المتآكلة والملوثة. قدَم يحوي نفايات حديثة وأكياس نايلون وخردة مركبات حديثة. وهو بهذا المعنى ظل من الثقل والعجز لا نكهة اكزوتيكية له. انه الماضي الذي يثقل على المدينة وتعجز هي بدورها عن الاتيان بغيره. الماضي وقد لوّثته حداثة اقتصرت على احجام معدنية صدئة، ونزوح كثيف من الأرياف وازدحام وهواء مثقل بأنواع مختلفة من الملوثات. على الزاوية المقابلة لمبنى وزارة الاعلام في وسط كابول واحد من اكثر هذه الاسواق اكتظاظاً. المشهد في الساعة الثالثة من بعد الظهر، النساء ببراقعهن الزرقاء والرجال بثيابهم الاقرب الى الاقمشة الخام غير المصممة. برد شديد وشمس قوية، وفي احدى اللحظات يخترق صوت قوي ضجيج الشارع. الصوت هو لمروحية اميركية تمرّ واطئة ومسرعة من فوق المكان، وفي هذه اللحظة يخرج من المبنى المقابل عشرات المسلحين، يقفون على شرفة مطلة على الشارع وينظرون الى المروحية متسائلين ربما عن سبب تحليقها بهذا الارتفاع المنخفض. وصور احمد شاه مسعود سرعان ما تسللت الى مختلف مرافق العيش في كابول. انها الصور التي يضعها الموظفون في ادارتهم مبروزة خلفهم. وسرعان ما التقط صانعو السجاد الاشارة فحاكوا رسمه على سجادهم. في الشوارع ايضاً رُفعت صورة عملاقة للقائد الطاجيكي. اما استوديوهات التصوير الكثيرة في المدينة، فقد تفنن اصحابها في اخراج صور مختلفة له، اثناء أدائه الصلاة، او في موقف المتأمل الساهي، وأحياناً صور لمرحلة شبابه، وكل هذه الصور تقدم مسعود في هيئة القائد الحاكم. السيارات التي تحمل صورة مسعود لها الأولوية في المرور. القوات الدولية عناصر وآليات القوات الدولية الموجودة في كابول يتجولون في الأحياء براحة ملحوظة. ولا يبدو ان هذا يثير في الأفغان حفيظة ما، بل على العكس فالكثير من الوجوه الملتفتة الى الدوريات المتجولة في انحاء كابول، تحمل علامات تؤشر الى أنس ما يشعر به اهل المدينة من جراء وجود هذه القوات. ثمة ابتسامات غالباً ما يتبادلها عناصر الدوريات مع العابرين في شوارع المدينة، هذا الأمر قد ينفي ما سمعناه عشرات المرات من ان الأفغان لا يتحملون وجود جيوش أجنبية في بلادهم. الحروب وما أعقبها من تبدلات ديموغرافية وسياسية أورثت أبناء المدينة ما لا يحصى من القضايا العالقة ينتظر سكان كابول حلولاً لها من قبل اي ادارة مركزية. وإحدى اهم القضايا التي تتردد امامك من دون ان تبذل جهداً، هي الملكيات الخاصة، والمنازل التي اضاعها اهلها. ففي كابول يمكن ان يضيع منزلك كما يضيع اي غرض آخر. فوليّ الله مثلاً وهو شاب بشتوني يقيم الآن في بيشاور يقول ان لأهله منزلاً دمر اثناء حرب مسعود مع الهزارة. وبسبب كثافة الدمار الذي اصاب الحي الذي يقع فيه المنزل، لم يعد يعرف مكانه. وبعد فترة وصلت اخبار الى عائلة وليّ الله مفادها ان رجلاً باع منزلهم الى عائلة اخرى، وفور سماعهم الخبر أوفدت العائلة وليّ الله الى كابول للتحري عن الأمر، وراح هذا الأخير يبحث عن الجهة التي يتوجب تقديم شكوى اليها. وكانت حكومة طالبان هي من يحكم في حينه. كان وليّ الله قصير اللحية ولم يكن حليقها، فرفضوا أن يستمعوا إليه، فثمة فتوى كان اصدرها الملا عمر تنص على ان قصير اللحية أو حليقها لا يسمع لقوله في الدوائر الحكومية. وتبدل الملكيات وتداخلها، واختلاط السكن والإقامة في المنزل الواحد، كان اختباراً لغياب الحدود التي يتطلبها العيش في زمن كزمننا، لكنه في افغانستان منعدم وبعيد. فمحمد صالحي الشاب الطاجيكي الذي كان في ايام طالبان لاجئاً في إيران، وعاد محملاً بفرش منزل، ما ان انسحبت الحركة من المدينة، حتى وجد اكثر من ثلاث عائلات تقيم في منزله الكبير، بالاضافة الى غرفتين مقفلتين على اغراض امير طالباني فرّ من المدينة وكان يشارك هذه العائلات اقامتها في المنزل. تدبر محمد امره عبر اعادة تأهيل غرف مصدعة في المنزل وأنزل فيها اغراضه التي حملها معه من إيران واستغرق نقله اياها اسبوعاً كاملاً قضاه على الطريق. وحصل اعتراف متبادل بين محمد وساكني منزله بأن له حقوقاً. ولكن عليه واجب "التراحم" كما يقول هو، إذ ليس لهذه العائلات التي جاءت وأقامت في داره منازل تأوي إليها، كما ان الدار واسعة، ويمكن لهذه العائلات ان تستأنس بتجاورها، أما اغراض الأمير الطالباني فلم يجرؤ محمد الى الآن على المساس بها، فالظروف السياسية متقلبة، وهو لا يضمن ان انكفاء الحركة نهائي. وحكاية محمد واحدة من النماذج التي قد تعبر عن مدى وصول الحروب الى اماكن اعمق من ان يتخيله المرء، وإلى تجميدها العيش عند حدود زمن لم يعد من الممكن العيش فيه. فعدم الشعور بضرورة وجود حيز خاص، والعيش الدائم وسط الجماعة ما زال في افغانستان حاجة سيكولوجية دفاعية، لا يمكن للمرء ان يكون وحيداً ولا يسمح له اصلاً بذلك. ثمة حاجة دائمة الى اطار اوسع من العائلة النواة للعيش فيه. هذا في كابولالمدينة والعاصمة، اما في المناطق والأطراف فللمعادلة صدقية اقوى. ثمة كميات قليلة من الثلج تغطي مساحات سهلية تفصل بين مناطق كابول وأنحائها. لكن هذا الثلج لم يعد أبيض، إذ مضى على تساقطه اكثر من شهر، وهو صمد على رغم حرارة الشمس. هذا الثلج البني مصدر آخر للصقيع، إذ ما ان تصل الى موازاة حقل يغطيه حتى تشعر بانخفاض في درجات الحرارة، وربما كان هذا الانخفاض نفسياً. يصيبك هذا الثلج بهبوط لا تستطيع تحديد ما اذا كان نفسياً ام فيزيولوجياً. في كابول انت في وضع من الغموض المحيّر، كمية من الثلج الملوث تتسبب بانتكاسك، وجملة تقرأها على زجاج سيارة تبعث فيك شيئاً من الحياة. نعم، تلك العبارة التي كتبها سائق على الزجاج الخلفي لسيارته والتي تقول: "اشرب الخمر وأتِ بالفواحش واسكن في معبد الشيطان ... ولكن لا تؤذِ قلوب الناس". الضغينة الاولى الهزارة هم الضغينة النواة، او الضغينة الأولى في كابول، إذ يجمع على اعتبارهم ذلك معظم ابناء الاثنيات الأخرى. انهم ضحايا لكنهم المسؤولون عن ذلك، تسمع هذه العبارة من اكثر من "عاقل" في المدينة. الدمار في أحيائهم يحمل بصمات معظم القادة الأفغان، بدءاً من مسعود ومروراً بحكمتيار. والقول الأثير الذي يردده ابناء المدينة نقلاً عن احد قادة طالبان يعبّر خير تعبير عن ذلك "فليرحل الطاجيك الى طاجيكستان والأوزبك الى اوزبكستان، أما الهزارة فإلى قبرستان". أما مرارة البشتون بعد هزيمة طالبان، فتظهر بأشكال مختلفة، ويعبّر عنها بأنواع من الاشارات والمواقف بدءاً بتبديل الملابس، مروراً بذلك الانكفاء الملحوظ عن مرافق المدينة وأبواب الرزق المختلفة، وصولاً الى تصريحات المسؤولين الحاليين عن ان الطالبانيين ما زالوا موجودين في المدينة. في افغانستان متحف اثنيات العالم الجديد، تنبعث الحياة في هياكل وتنطفئ جذوتها في اخرى. لكن روحاً تبقى محافظة على حد أدنى يتيح الانبعاث فور توافر ظروف مواتية، لتستمر دورة العنف التقليدية. - غداً: الصحافة والمال ومحاولات النوم الصعب في كابول.