أثار كتاب "أيمن الظواهري كما عرفته" للمحامي منتصر الزيات منذ أول حلقة نشرت في جريدة "الحياة" وبعض الصحف الأخرى ضجة كبرى في الساحة الثقافية، وهذا مؤشر حسن على تفاعل العالم الثقافي مع أطروحة الكتاب سلباً وإيجاباً. ولما كنت قرأت الكتاب وتابعت حلقاته، بل قدمت له تقدمة شرفت بكتابتها، وبعدما انتهى نشر حلقات الكتاب لم أشا إلا أن أقدم تعليقاً حتى تستقيم الفكرة ويستفيد القارئ من تبادل وجهات النظر، وألخص تعليقي على الكتاب في النقاط التالية: أولاً: الكتاب خليط من السيرة الذاتية والتأريخ للحركة الإسلامية بطريقة غير مقصودة، وقراءة منهجية في فكر الدكتور أيمن الظواهري مع نقد ذاتي للتغيرات الجزئية التي طرأت على أولوياته في مرحلة تحالفه مع "الجبهة العالمية" وما بعدها. فالكتاب نموذج لطريقة أدب الخلاف في الحركة الإسلامية المعاصرة وإن تخللت فصوله قسوة لفظية غير متعمدة لا نحبذها. ثانياً: استهل الزيات كتابه بما يناسب طبيعة عمله كمحام، إذ بدأ بالجلسة الأولى لمحكمة أمن الدولة العليا التي عقدت في أرض المعارض بمدينة نصر يوم 4/12/1982 حيث تحدث الظواهري أمام هيئة المحكمة عن محنة الشاب القابع في الزنزانة رقم 3 في سجن القلعة الشهير، وكان ذلك الشاب منتصر الزيات الحبيس في زنزانة انفرادية في ذلك "الباستيل" المصري في تلك الفترة. اختار الزيات هذه الحادثة ليلتقط خيط التعارف بينه وبين الظواهري ليعلم القارئ أن المعرفة قديمة وأن الدفاع كان مجرداً خالصاً لله وحده، وان المناسبة كانت المحنة. يذكرنا الزيات أنه لم ينس هذا الدفاع النبيل من ذلك الرجل الكريم الظواهري. وتوطدت من ثم العلاقة الأخوية، وكأن الزيات يمهد لحديثه، على طريقة أهل المحاماة، في ما يسمى بتهيئة الدليل. فالزيات يعلم أنه سيقسو أحياناً في زوايا الكتاب، بل سيخصص فصلاً قاسياً عن موضوع المبادرة.. لذلك أزعم أنه كان موفقاً في هذا الاستهلال وفي حديثه عن نشأة ايمن وبيئته ووسطه الإجتماعي. وأكاد أزعم أن الفصل الأول وأصل التربية وإبراز بعض المواقف الطيبة والمهمة في حياة الظواهري، خصوصاً من أرشيف التحقيقات، هو من قبيل تقديم الشفاعة خصوصاً لأبناء الحركة الإسلامية، حتى لا يظن ظان أن الزيات يصفي حساباً مع الظواهري رداً على ما ذكره الاخير في كتابه "فرسان تحت راية النبي" من غمز ولمز في حقه، أو أنه يستغل الأحداث الجارية في العالم. استهل الزيات هذه المقدمة عن نشأة الدكتور أيمن وحسن ودماثة خلقه ومرجعيته الشرعية والعلمية ونبوغه الدراسي والمهني لتكون شفيعاً له عندما يصل القارئ الى بعض عبارات القسوة والنقد اللاذع أحياناً، وليعلم القارئ ان الزيات وان انتقد أيمن في جوانب من فكره أو أغلظ له القول في بعض الأحايين، لكنه لا يقصد الحطّ من قدر الظواهري ولا التقليل من دوره التاريخي كعلامة بارزة في تاريخ الحركة الإسلامية. وفي السياق نفسه يوضح الزيات أنه لا قداسة لأحد من البشر بعد الرسل، وكلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا الأنبياء عليهم السلام. ثالثاً: تحدث الزيات كثيراً عن قضية اعتراف ايمن على مكان الاخ عصام القمري عقب اغتيال السادات، واستدل بما قال بنتف من تحقيقات قضية تنظيم الجهاد، بما يوحي أن الظواهري أصيب بعقدة الذنب وتأنيب الضمير فقرر السفر مع أول فرصة أتيحت له بعد خروجه من السجن مباشرة! وهذا استدلال لا أوافق على نتيجته لأسباب عدة: أ - لا يجوز الإستشهاد بأقوال المتهم في تحقيقات مباحث أمن الدولة ولا حتى نيابة أمن الدولة لا شرعاً ولا قانوناً، فهي اعترافات مهدرة لأنها وليدة إكراه وكانت نتيجة مرحلة معينة. والزيات نفسه احاط هذا الموضوع بسياج وتحفظ اشبه بالدفاع عن ايمن بقوله انه قد عُذّب وانه معذور شرعاً، لكنه خلص الى نتيجة لا تتفق مع تحفظه وعذره للظواهري، اي ان الظواهري اصيب بعقدة نفسية فقرر السفر الى الخارج! ب - هناك عشرات ومئات الإعترافات الزيات مطلع عليها انتزعت من قادة الحركات الإسلامية على اختلاف مشاربهم نتيجة الإكراه والتعذيب الرهيب، لدرجة أننا كنا نتندر أحياناً بضرب أمثلة عن الإخوة الذين يشهد لهم التاريخ المعاصر أنهم لم يعترفوا على رغم ما لاقوه من أهوال التعذيب، وهم معدودون على الأصابع مثل نبيل نعيم ومحمد عبدالرحيم الشرقاوي وقلة أخرى. فلو أنزلنا ما ذكره الزيات على كل من اعترف نتيجة التعذيب لكانت النتيجة سلبية جداً، إذ سنتّهم معظم هؤلاء الأخوة وكل من هاجر منهم إلى أفغانستان ولبى نداء الجهاد في سبيل الله بأنهم مصابون بعقد نفسية! وهذا محال طبعاً نظراً الى شرف القضية وشرف الباعث. ج - هناك أخوة كانوا شهوداً عاصروا هذه القضية، بل كانوا طرفاً فيها، كالأخ الضابط عبدالعزيز الجمل الذي كان طرفاً فيها وفي موضوع الشنطة وطريقة القبض عليهم. كان الجمل مع إخوانه الضباط في السجن الحربي وصديقاً حميماً أيضاً لعصام القمري، وعلى رغم ذلك لم تؤثر فيه هذه الحادثة، وتعامل مع الظواهري الذي كان مسؤولاً عنه وتحت إمرته أيام أفغانستان. ولم يثر الجمل هذه القضية بل كان يجلّ ايمن على رغم انه يفترض انه أضير ايضاً في كشف تنظيم الضباط. فلو اخذ الجمل هذه الاعترافات مأخذ الجد لاستطاع ان يهاجم الظواهري ولرفض ان يمثله خصوصاً في اعادة تشكيل الجماعة في افغانستان في 1987. كما ان بعض الاخوة الذين كانوا مقربين من القمري، كنبيل نعيم واحمد سلامة مبروك وغيرهما، رضوا بإمارة الدكتور ايمن على رغم علمهم بهذه الاعترافات. اذن، دعوى ان الظواهري أصيب بعقدة نتيجة الإعتراف بمكان عصام القمري وآخرين لا يصح الإستدلال بها على موضوع العقدة المزعومة. رابعاً: اختار الزيات محطة مهمة في تاريخ الحركة الإسلامية الجهادية المعاصر، وهي هزيمة حزيران يونيو 1967 ليجعلها منطلقاً للحركات الإسلامية الجهادية ولتكون دافعاً ومنطلقاً أيضاً لفكر الظواهري، يختار من خلاله طريقه الذي رسمه لنفسه، في الشروع في تكوين أول خلية تنظيم لجماعة "الجهاد" عام 1966 عقب الحكم باعدام سيد قطب مباشرة. وعلى رغم وضوح هذه الفكرة التي يتفق عليها العقلاء، الا انه من المضحكات المبكيات في مصر أن كاتباً طفح بقلمه المسموم عبر صحيفة عريقة تحت الوصاية الحكومية تعلق ب"قميص عبدالناصر"، وراح يكيل السباب والشتائم للزيات لأنه تطرق الى معبوده من دون الله، الزعيم الملهم جمال عبدالناصر! وما اثار حفيظة هذا الكاتب ان الزيات وصف الزعيم ب"الصنم". لقد قرأت مقالته المسمومة طولاً وعرضاً حتى أجد رداً موضوعياً فلم أجد إلا الجهل بالاشياء والتعلق بسفاسف الأمور والدفاع عن الزعيم الخالد الذي دمر أمة من المحيط إلى الخليج، وأفرز نبتاً شيطانياً لا يمت لأمته بصلة. يتعلقون بشعارات عفا عليها الزمن، كالناصرية وأخواتها. وهذا الكاتب، الذي صار على حين غفلة من الزمن من علية القوم، ساهم ومن على شاكلته في مسخ هوية الأمة. والعجب العجاب أنهم يرفعون ذكر المنهزمين دائماً ويسبّحون بحمدهم، ويصفقون لجلاديهم على طول الخط، ولله في خلقه شؤون. لقد تأثر الظواهري في مقتبل شبابه، وعلى رغم حداثة سنه، بهذه الهزيمة النكراء التي حلت بالأمة على يد الزعيم الملهم عبدالناصر. وأيقن أن العار الذي لحق بهذه الأمة هو نتيجة تفريطها في حق دينها، وبسبب تسلط هذه الأصنام التي تعبد من دون الله. انطلق من باب الفطرة الطاهرة ينهل من معين هذا الدين القويم. انطلق وقد علم معالم الطريق من سيد قطب رحمه الله. لم ينطلق الظواهري من الإحباط واليأس. فهذا ليس صحيحاً كما يظن بعض البكائين على قميص عبد الناصر. فالزيات اوضح، لدى حديثه عن نشأة الظواهري منذ نعومة أظفاره، ان حاله تختلف عن بقية الأطفال والأقران: طفل محب للقراءة، متابع لأعمال الكبار، يعيش بين الكتب ولا يبرح مكتبة أجداده العظام. فلا غرو، اذن، أن يتأثر هذا الشاب بهزيمة حزيران يونيو 1967 ويحمل همّ هذه الأمة، لأن هذا هو ناموس الكبار وإلا لما وصل الظواهري إلى هذه المنزلة الرفيعة. أما هذا المتاجر بقميص عبدالناصر فقد عمل من الحبة قبة، وابتسر جملة من سياقها السليم وشرع يبني عليها تحليلات من باب "فويل للمصلين". خامساً: موضوع المبادرة: أعتقد أن هذا الموضوع هو اساس الخلاف بين الدكتور والمحامي، ولم تكن هذه المرة الاولى التي ينتقد فيها الظواهري الزيات. فقد انتقدت نشرة "كلمة حق"، التي كان يصدرها المكتب الاعلامي لجماعة "الجهاد"، الزيات واعتبرته وراء هذه المبادرة بل وعرّابها، لكن ايمن لم يتجاوز النقد والتلميح، اذ كان لا يرى القسوة على الزيات نظراً الى ظروفه التي كان يقدرها. وعلى رغم الحاح بعض الاخوة من جنسيات اخرى على الظواهري لمهاجمة الزيات واصدار بيان لزجره، لكن الرجل رفض حسب شهادة المقربين. واعتقد ان هذا الموقف ينسجم مع طبيعة الظواهري وتكوينه النفسي والخلقي، وانه لا يتصادم مع احد بل انه لا يرفع عينيه لمتحدثه ولا يتكلم الا بأحسن الالفاظ، ويحترم الصغير والكبير. وهذا متواتر عنه ولا حاجة للاستدلال عليه. دُهشت وانا اقرأ كلام الظواهري في كتابه "فرسان تحت راية النبي" صلى الله عليه وسلم لما فيه من عبارات الغمز واللمز بحق الزيات. وسبب دهشتي لهذا الامر الغريب على سلوك الظواهري انه لا يحب التجريح ولا التشهير. وهناك حوادث، بل وطامات، كادت ان تعصف بالجماعة وعلى رغم ذلك لم يصدر بياناً بفصل هؤلاء، كالأخ الصيدلاني أحمد حسين عجيزة عندما أعلن انشقاقه عن الجماعة وحدثت فتنة كبرى من جراء ذلك سنة 1993، فطلب المجلس التأسيسي للجماعة من الظواهري أن يكتب بياناً يعلن فيه فصل عجيزة، قبل ان يعلن هو نفسه انشقاقه علانية ما يشكل اساءة للجماعة، لكن الظواهري رفض وقال: "لا نعين عليه الشيطان ولا نكون البادئين". وهناك بعض الاخوة اضروا كثيراً بمركز الجماعة واعلنوا تمردهم، وعلى رغم ذلك لم يصدر بياناً بفصلهم. لذلك فان ما ذكره الظواهري في حق الزيات في كتابه "فرسان تحت راية النبي" دخيل على سلوكه. واعتقد ان الطبيعة الجبلية في افغانستان والصحراء القاحلة والغربة الموحشة والارض المقفرة وحياة الحرب الضروس، اضافة الى غياب اهل المشورة من حوله، كانت لها اثر كبير في هذا التغيير. كان يحيط بالظواهري خمسة وعشرون مستشاراً، وتمر الايام ويتقلص هذا العدد بعد تفرق أفراد الجماعة في الأرض إما بالسجن أو القتل أو المطاردة أو الإنشقاق، إلى خمسة إخوة تقريباً يقلون ولا يزيدون: فقد الدكتور أحب الناس وأقربهم إليه، شقيقه المهندس محمد الظواهري الذي خطف من إحدى الدول العربية وسلم إلى مصر، وفقد أحمد سلامة مبروك الذي خطف من أذربيجان، وفقد أخوة أفاضل كانوا عوناً له وكانوا نعم أهل الرأي وأهل المشورة، وهذا ما يفسر لنا تغير خطاب الظواهري في كتابه الأخير وهو يناقش قضية مبادرة وقف العمل المسلح، كما انه ايضاً سر قسوة بعض عبارات منتصر على الظواهري في بعض فصول الكتاب. فمن حق الزيات ان يدافع عن نفسه، لان غمز ولمز الظواهري واتهامه الزيات بالحصول على تسهيلات لا يحصل عليها الوزراء في زيارة السجون ليس اتهاماً هيناً. فلا أحد يلوم الزيات في دفاعه عن نفسه وموقفه. فهو في نهاية الأمر ابن الحركة الإسلامية وواضع لبنة أساسية فيها وليس متطفلاً عليها، فروح الإسلام لا تمنع النقد الذاتي البناء. أما عن تحريض الظواهري الاخ رفاعي طه الامير السابق ل"الجماعة الإسلامية" فليس في محله، لأن الأخ رفاعي رجل كبير ومن قادة الحركة الإسلامية، وهو ليس قاصراً حتى يحرضه الظواهري على افشال مشروع المبادرة. كان رفاعي طه على خلاف مع جماعته بعد حادثة الاقصر فأُقصي من قيادة الجماعة، وأعلن رأيه صراحة عبر وسائل الإعلام وألف كتاب "إماطة اللثام" للرد على بعض آراء جماعته بخصوص السياحة والأمان وأحكام خاصة بالكفر والإيمان، بل إنه اختلف مع "الجماعة الإسلامية" في حكم الدار مصر وتبنى آراء مغايرة للجماعة لا دخل للظواهري فيها. فالاخ رفاعي طه باحث يفهم تماماً ما يكتبه وعلى دراية تامة بما يصدر عنه من قول أو فعل. سادساً: تحالف الظواهري مع بن لادن هذه أهم مرحلة تاريخية في حياة الظواهري، وهي من المراحل التي يجب التوقف عندها لأنها تفصل بين مرحلتين في فكره: مرحلة ما قبل التوقيع على بيان "الجبهة العالمية" والدخول في حلف مع الشيخ أسامة بن لادن وما بعد هذا التوقيع. واتفق مع الزيات على أن هذا التحالف قد أضر بمركز جماعة "الجهاد" كتنظيم وتسبب في خسائر جسيمة لم يكن للجماعة فيها ناقة ولا جمل ولا مشورة في هذا التحالف. فلو كانت الخسائر ناجمة عن رضا الجماعة وافراغ وسعة أفرادها قدر الإستطاعة الشرعية وبمشورة أهل الحل والعقد فيها لاختلف الأمر كثيراً. لكن الموضوع تم بغير إرادتهم، أو كما قال الشاعر: ويُقضى الأمر حين تغيب / ولا يستأمرون وهم شهود وأخيراً، مما لا شك فيه أن كتاب الزيات الثري بموضوعه سيثير ضجة في أوساط المثقفين على اختلاف ألوان الطيف السياسي، بين مؤيد ومعارض ومنصف، بين متحامل على المؤلف وصاحب السيرة وبين مدافع عن أحدهما أو كليهما. وبين هذا وذاك يلتقط المنصف ما ينفعه من الكتاب ليعينه على تصحيح المسيرة. صفوة القول، يعتبر هذا الكتاب باكورة مهمة لمشروع كتابة تاريخ الحركة الإسلامية. كما انني من المؤيدين لفكرة الزيات التي بثها بين ثنايا سطور الكتاب بشأن دعوة الحركات الإسلامية الى مراجعة أدبياتها وتقويم مسيرتها تقويماً حقيقياً والى وقفة مع النفس لحصاد السنين في عمر الحركة، بعيداً عن إعمال المشاعر والعواطف التي قد تكون عائقاً أمام تقبل نقد الذات والإعتراف بالأخطاء ومحاولة تصحيحها وتجنبها، مع معالجة الآفات التي تعترض انطلاقة الحركة الإسلامية لتكون في طليعة الأمة الإسلامية ونهضتها. * محام ومدير "مركز المقريزي للدراسات التاريخية".