سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
استشعر الديبلوماسيون الكارثة قبل شهور من حدوثها ... أحرقوا كل التقارير لكن العراقيين واجهوهم بنسخ منها ... وفي التحقيقات تعرّفوا الى "أبو لينا" ! . قصة السفارة الكويتية في بغداد إبان الغزو العراقي
لم يكن للتجربة التي مرّ بها اعضاء البعثة الديبلوماسية الكويتية في بغداد عام 1990 نظير في التاريخ… فقد استيقظ هؤلاء صبيحة الثاني من آب اغسطس من تلك السنة ليجدوا ان البلد المضيف لهم ارسل جيشه ليشطب بلدهم من الخريطة، وسرعان ما تحوّلوا بعد بضعة ايام من ديبلوماسيين الى "مواطنين" فكيف عاش هؤلاء احداث الغزو؟ وكيف أفلتوا من قبضة النظام؟ "الحياة" جمعت تفاصيل هذه التجربة من بعض المصادر. بدأت أولى بوادر التغيير في المزاج العراقي تجاه الكويت بعد شهور قليلة من وقف النار مع ايران عام 1988، فبدلاً من اللغة الاخوية المليئة بالامتنان التي كان يسمعها الديبلوماسيون الكويتيون من المسؤولين العراقيين خلال الايام الحالكة من "قادسية صدام"، بدأ العراقيون يتحدثون بزهو عن الانتصار الذي حقّقوه، والفضل الذي يمنّون به على الاشقاء الخليجيين لحمايتهم البوابة الشرقية للعالم العربي من الخطر الايراني. وسرعان ما طرقت آذان وديبلوماسيي السفارة عبارات تبرّم وضجر مثل ان "العراق قدّم الشهداء وحصل على اقل المكاسب"، و"الكويتيون دفعوا قليلاً من المال وحصدوا المكاسب كلها". وكان هذا القليل من المال اربعة عشر بليون دولار قدّمتها الكويتلبغداد خلال سنوات الحرب. وخلال عام 1989 وجد العراقيون سبباً جديداً للتضجّر والشكوى، فقد زار القادة العرب العاصمة العراقية لتهنئة الرئيس صدام حسين على انتصاره في "القادسية" لكن امير الكويت الشيخ جابر الاحمد الصباح لم يصل بعد الى بغداد. وعندما توجّه الملك فهد بن عبدالعزيز الى بغداد قبل نهاية تلك السنة ووقّعت السعودية والعراق اتفاقات لعدم الاعتداء ولترسيم الحدود، نفد صبر العراقيين من الكويت فأرسلت هذه الاخيرة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبدالله الصباح للقيام بالواجب، وما ان وطئت قدماه مطار بغداد حتى اعلن العراقيون فشل زيارته فهاجمته الصحف العراقية، وتابع اعضاء السفارة الكويتية وسائل الاعلام العراقية وهي تبثّ مواد "غير ترحيبية" بالزائر الكويتي، مثل ان تلفزيون بغداد كرّر طوال الزيارة بث اغنية شعبية مطلعها "زعلان الاسمر ما يقلّلي مرحبا…". ومما زاد الطين بلّة في نظر العراقيين ان الشيخ سعد حاول الاقتداء بالمبادرة السعودية نحو بغداد فأثار موضوع ترسيم الحدود وكان هذا ذنباً لا يُغتفر، فصارت اللهجة الرسمية العراقية عندئذ تتحدث عن "الجحود" الكويتي للعراق الذي حمى الكويت وشقيقاتها الخليجيات. واحتار الكويتيون مع العراق فخطّطوا لزيارة للشيخ جابر تتوافق مع انعقاد القمة العربية في بغداد في ايار مايو 1990، وتمّت هذه الزيارة وكانت ناجحة في ظاهرها لكن الوقت كان قد فات بالنسبة الى الكويت، اذ ان الرئيس صدام حسين أعدّ قائمة بمطالب محدّدة من جارته، وقام سعدون حمادي وهو بعثي عريق ومقرّب من الرئيس آنذاك بحملها الى الكويت. وجاء الرد الكويتي سلبياً وقاطعاً، فالمطالب العراقية تتضمن الهيمنة على اراض حدودية وموارد نفطية كويتية، وليس للحكومة الكويتية - حتى لو ارادت - ان تستجيب لها، لأنها تتعارض مع الدستور. وفي بغداد سمعت السفارة الكويتية اشد العبارات سخطاً من الاوساط الرسمية ل"عدم التقدير الكويتي للمهمة الاخوية للمبعوث الشخصي للرئيس القائد صدام حسين". ثم دخل حزيران يونيو فيما الحكومة الكويتية في اشد الانهماك بملف المواجهة مع المعارضة المحلية التي شنّت حملة للمطالبة بعودة الديموقراطية، وهي ارسلت الشرطة لقمع تجمعات المعارضة واعتقال بعض افرادها. وحتى تقطع الطريق على المعارضة قامت الحكومة بترتيب انتخابات لبرلمان جديد محدود الصلاحيات أسمته "المجلس الوطني"، ولم يكن في وسع اقطاب الحكومة وهذه حالها الانتباه الى الاشارات التي بدأت السفارة في بغداد ترسلها عن المنحدر الذي بدأت العلاقات مع العراق تهبط اليه، وعن تحول المصادر الحكومية العراقية من مرحلة التململ والتضجّر الى لغة الزجر والوعيد، حتى حلّ مساء السابع عشر من تموز يوليو. وفي ذلك المساء كان اعضاء السفارة في منازلهم عندما بث التلفزيون العراقي نص الرسالة التي وجهها وزير الخارجية آنذاك طارق عزيز الى الجامعة العربية، وحملت بشدة على الكويت متهمة اياها بإيذاء العراق والسطو المبرمج على اراض وحقول نفطية حدودية، وبالتآمر مع قوى غربية ضدها. فتوجه الديبلوماسيون الى السفارة وعقدوا اجتماعاً حتى الفجر تدارسوا فيه كل ما يمكن عمله في ظل هذا التصعيد، ثم اصبح وجودهم شبه دائم في السفارة في الايام التالية وحتى لحظة الغزو. بدء العدّ التنازلي كان سفير الكويت في بغداد وقتها ابراهيم جاسم البحوه، وهو ديبلوماسي قديم لكن خبرته التي بناها لسنوات طويلة في الشأن الفلسطيني عندما كان سفيراً في العاصمة الاردنية لم تكن ذات فائدة في بغداد التي نقل اليها قبل اقل من سنتين خلافاً لرغبته البقاء في الاردن. كذلك كان طاقم السفارة يتألف في غالبيته من شبان حديثي العمل في العراق، ومنهم القنصل حفيظ العجمي ومسؤول الشؤون الادارية سعود الدويش، ومسؤول الشؤون السياسية غسان الزواوي. وكان هناك ثلاثة ملحقين هم نجيبة الغانم للشؤون الاعلامية وعبدالمحسن النفيسي للشؤون الثقافية والمقدم علي الكندري للشؤون العسكرية. وكان اقدم الكويتيين في السفارة وهو موظف الرمز جاسم اليحيوح. وكان يعمل في السفارة عراقيون في وظائف ادارية وخدمية. لاحظ بعض اعضاء هذا الطاقم باكراً ان البعثة الكويتية لا تملك تدريباً او توجيهات كافية لكيفية العمل في بلد مثل العراق تُدار فيه الامور في ظل شبكة مكثّفة من الاجهزة الامنية والاستخبارية. كذلك لم يكن لديهم اي فكرة عما ينبغي عمله وقت الطوارئ لجمع المعلومات او تقويم الموقف او حتى خطة لاخلاء الديبلوماسيين وعائلاتهم اذا تفاقم الخطر. في ظل ما سبق بدأت دراما الغزو العراقي تفتح صفحاتها. فبعد يومين من رسالة طارق عزيز، علم طاقم السفارة عبر وسائل الاعلام - وليس عبر الفاكس المشفر الذي يستقبل الرسائل من الكويت - بأن الحكومة الكويتية ردّت برسالة الى الجامعة تنفي الاتهامات العراقية، وتدعو الى تشكيل لجنة عربية للتحقيق في هذه الاتهامات. ورفضت بغداد تشكيل اللجنة، وقالت ان الامر خلاف ثنائي يمكن حلّه بمفاوضات مباشرة مع الكويت. هنا جاءت رسائل من الخارجية الكويتية الى السفارة تطلب معلومات عن امور مثل نوع الوفد الذي سترسله بغداد للتفاوض، ومرئيات السفارة لما تتجه اليه الامور. وردت السفارة بتقارير كثيرة مفصلة نشط الطاقم في اعدادها، وقال بعض هذه التقارير ان "نوعية التوتر الذي يبديه العراق غير مسبوق والازمة ليست وقتية". ولاحظ موظفو السفارة ان الكويت لا تزودهم اي تعليمات او توجيهات محددة عن تصورات الحكومة عن مصير هذه الازمة او ما عليهم ان يفعلوه اذا سارت الامور نحو الاسوأ. كان اكثر تقارير السفارة يتحدث عن الحشود العسكرية، وتم اعداد المعلومات حول ذلك بطرق بدائية وارتجالية وليس بناءً على خبرة او تدريب مسبق. فكان بعض الديبلوماسيين يجمعها من زملاء في الحي الديبلوماسي حيث يقع معظم السفارات في بغداد، والبعض الآخر من معارف واصدقاء عراقيين او عن طريق المرور بالسيارة عبر الطريق السريعة المؤدية الى الجنوب لملاحظة ان طوابير من الآليات وشاحنات الجيش العراقي قد شغلتها متجهة نحو الكويت. وعلى اثر ذلك قطع الملحق العسكري علي الكندري اجازته في الكويت وقام بعبور الحدود والتجوال في منطقة البصرة، ثم اعد لدى وصوله الى بغداد تقريراً كان من الخطورة والحساسية بمكان انه لم يُرسل بالبريد المشفّر كباقي التقارير بل حمله الكندري بنفسه الى الكويت في 29 تموز يوليو وفحواه ان الحشود العراقية تحكي استعدادها لعمليات عسكرية وشيكة. والتقت السفيرة الاميركية ابريل غلاسبي الرئيس صدام حسين في 25 تموز، وتصادف انه كان لديها في اليوم التالي موعد حدد مسبقاً وقبل بدء التصعيد للقاء السفير ابراهيم البحوه. فظهرت الصحف العراقية في اليوم التالي بعناوين عريضة عن "سفيرهم الذي اجتمع بسيدته الاميركية" في تعزيز للرواية العراقية عن التآمر الكويتي - الاميركي على العراق. ثم التقى الوفدان الكويتيوالعراقي في جدة ليل الاربعاء الاول من آب اغسطس وتجمع افراد طاقم السفارة يتابعون التطورات، وكان يسيراً عليهم قراءة التصوّر العراقي لنتيجة اجتماع جدة من مجرد الاستماع للاذاعة العراقية. فنشرة العاشرة ليلاً جاءت رسمية وعادية وتحدثت عن "... سمو الشيخ سعد العبدالله الصباح رئيس الجانب الكويتي…" اما نشرة منتصف الليل - اي التي أُعدت بعد ورود نتائج الاجتماع - فتحدثت عن "سعد عبدالله صباح" من غير القاب ومع شطب الألف واللام، وكرّرت النشرة الاتهامات عن تآمر الكويت، وارسلت السفارة آخر تقاريرها بهذا المضمون الى الخارجية الكويتية بعد منتصف الليل بقليل ثم تفرّق الديبلوماسيون الى بيوتهم، اذ لم تصل تعليمات من الحكومة بأي شي محدد في ضوء ما حدث في جدة. مواطنون عراقيون! وجاء هاتف من الكويت بعد السادسة صباحاً بالنبأ العظيم، لقد اجتاحت القوات العراقيةالكويت. والتقى الديبلوماسيون في السفارة وقد اصفرّت وجوههم وانعقدت السنتهم. ووصل السفير البحوه في التاسعة والنصف، وعُقد اجتماع في الطابق العلوي للسفارة بعد ابعاد العاملين العراقيين الى الطابق الارضي. وكان السفير غير مصدّق للخبر وطلب مراراً الاتصال بالخارجية الكويتية للتأكد منه، لكن الخارجية كانت لا تردّ فقد اقتحم جنود الغزو مبناها. ومن اللافت ان السكرتير الاول في السفارة المغربية حضر الى البعثة الكويتية في هذه الساعات الاولى من الكارثة ناقلاً توجيهات من الملك الحسن الثاني بعرض كل المساعدة التي يحتاجها اعضاء هذه البعثة في ظل الظروف الراهنة، واجابه السفير بأنه ينتظر التعليمات من الكويت في اي خطوة يتخذها. واقترح بعض اعضاء الطاقم ان تبادر البعثة الى اللجوء الى سفارة اخرى لتأمين الحماية للديبلوماسيين الكويتيين وعائلاتهم، ولاشراك الدولة التي تتبع لها السفارة سياسياً في الشأن الكويتي. وطرحت السفارتان السعودية او المصرية كخيار عربي وكذلك الاميركية او البريطانية كخيار دولي، لكن السفير البحوه تردد ثم رفض ذلك وقال انه لن يبادر الى مثل هذه الخطوة، الا بتعليمات من الكويت. ثم تحدث عضو آخر بضرورة المبادرة الى اتلاف الوثائق الحساسة خشية اقتحام العراقيين السفارة. وقال السفير انه يجب الا نقوم بذلك الا بتعليمات من الكويت، فقال له العضو "ان الكويت التي تنتظر منها التعليمات لم تعد موجودة" وقام وبدأ بحرق ما لديه من تقارير، ثم تبعه باقي الاعضاء، ثم جاء السفير وقال احرقوا ايضاً ما لديّ من تقارير. وهكذا تم اشعال نار في برميل في حمام مكتب السفير وأُلقيت فيه التقارير والوثائق الاكثر حساسية ولا سيما التي كُتبت في ظل التصعيد السياسي. ومن المخيّب لآمال الديبلوماسيين ان الاستخبارات العراقية عرضت عليهم بعد ذلك نسخاً كاملة من هذه التقارير كانت استولت عليها من مبنى الخارجية في العاصمة الكويتية. اما ارشيف السفارة الذي جرى جمعه واعداده على مدى سنوات فلم يتسع الوقت لإتلافه واستولى عليه العراقيون في ما بعد. وعلى رغم هول الاحداث في الكويت بقي مبنى السفارة بعيداً عن اي اجراء عراقي معظم ذلك النهار بل كان الحي المجاور بأكمله هادئاً، لكن ذلك تغيّر عند الثالثة والنصف عصراً، اذ اقتحمت خمس سيارات باحة المبنى ونزل منها عشرون من عناصر الاستخبارات بملابس مدنية ويتخصّرون رشاشات صغيرة. حاول السفير الاعتراض ديبلوماسياً على اقتحام حرمة السفارة لكن جاءه الرد: "لدينا اوامر محددة سننفذها وهي لضمان سلامتكم". كان عناصر الاستخبارات صارمين وان تحدّثوا بلهجة مؤدبة. وخلال ساعات تم تفتيش السفارة بالكامل وحجزوا الديبلوماسيين في غرفة حتى الواحدة فجراً ثم سمحوا لهم بالعودة الى منازلهم التي قطعت عنها الخدمة الهاتفية مع تحذير قوي بعدم الاقدام على اي تصرف متهور وضرورة العودة الى السفارة غداً والدوام في صورة طبيعية. وهو ما فعله الديبلوماسيون المغلولون على امرهم. وبعد يومين صادر العراقيون سيارات السفارة، وقام السفير البحوه بالاستيضاح منهم عما اذا كان مسموحاً للديبلوماسيين الكويتيين بالعودة الى الكويت فكان الجواب الرفض، اذ على البعثة تمثيل "الحكومة الحرة الموقتة" التي شكلها العراق في الكويت. ثم انهت بغداد هذه الحكومة في الثامن من آب واعلنت ضم الكويت، وقبل يوم من ذلك كانت الاستخبارات امرت الكويتيين بالتوقف عن الحضور الى السفارة. وهنا اعاد السفير الاستيضاح وسأل: "هل نحن ديبلوماسيون لنا حقوق ام ما هو وضعنا"، وجاءه الجواب من مسؤول الخارجية العراقية: "انتم الآن مواطنون عراقيون، هل تعلمون ماذا تعني كلمة مواطن عراقي؟". وطبعاً كانوا يعلمون. بقي اعضاء البعثة في منازلهم تحت المراقبة، وكان أسوأ ما يخشونه لم يقع بعد وهو "ضيافة" الاستخبارات. لكن انتظارهم لم يطل، فبعد ثلاثة اسابيع من الغزو جاءت عناصر الاستخبارات واخذت معظم الاعضاء الى ضاحية "المنصور" المعروفة في العاصمة العراقية، الى منزل كان يبدو من الخارج مهملاً ومتداعياً لكنه من الداخل كان مقراً للتحقيق. كانت ثمة صالة في وسط المبنى فيها كرسي للتعذيب بالكهرباء، وكان من حسن حظ الديبلوماسيين الكويتيين ان احداً منهم لم يجلس عليها، لكنه كان موجوداً في اي حال. وكان التحقيق فردياً ويستغرق ساعتين تقريباً لكل ديبلوماسي، ويقوم به اثنان بدا انهما من جهاز الامن الخاص في حين كان مسؤول الموقع شخصاً ينادونه ب"ابو لينا" في منتصف الثلاثينات من العمر، رياضي المنظر يميل الى القصر. وتبين ان "ابو لينا" هذا هو المختص بشؤون الديبلوماسيين الكويتيين، وعلى اطلاع كامل على ملفاتهم وتفاصيل عملهم على رغم ان احداً لا يتذكر انه رآه قبل ذلك. وبقي هذا الضابط مشرفاً عليهم طوال الشهور اللاحقة. وكذلك حضر التحقيق شخص فلسطيني يبدو انه اختصاصي نفساني اذ كان يكتفي بالمراقبة ولا يشارك في التحقيق. وعلى رغم الضغط النفسي لم يتعرض اي من الديبلوماسيين للتعذيب. وفهم الديبلوماسيون ان الاستخبارات لا تتوقع منهم معلومات مهمة ولا ترى لهم قيمة مع زوال حكومتهم ودولتهم، لكن التحقيق كان خطوة روتينية طبقاً للبيروقراطية الامنية العراقية. اما السفير البحوه فتم التحقيق معه في منزله وجرى التنبيه عليه بأنه مسؤول عن اي خطأ يرتكبه اي من موظفيه، وعاش البحوه تحت تأثير هذا الوعيد طوال الشهور التالية. لكن القبضة الامنية بدأت بالتراخي بعد ذلك، اذ ان الاستخبارات سمحت في ايلول سبتمبر لكل عضو في السفارة بزيارة الكويت لثلاثة ايام على ان يعود "والا عرّض سلامة زملائه للخطر"، وساعدت زيارات بعض الديبلوماسيين الى الكويت في رفع روحهم المعنوية فبدأوا يفكرون بعمل شيء للخروج من المحنة التي يعيشونها، وكانت الاولوية لإخراج عائلاتهم فتم هذا خلال الشهور الثلاثة اللاحقة بطرق متعددة وملتوية وباستخدام جوازات سفر بأسماء وهمية قدمتها "سفارات شقيقة"، ثم ذهب مسؤول الشؤون الادارية سعود الدويش الى الكويت في زيارة واختفى فيها، وتبعه مسؤول الشؤون السياسية غسان الزواوي وموظف الرمز جاسم اليحيوح في نهاية كانون الاول ديسمبر، وفي الثامن من كانون الثاني يناير حصل السفير البحوه على اذن بالمغادرة الى الاردن بوساطة فلسطينية، وقيل ان معرفته القديمة برئيس منظمة التحرير ياسر عرفات ساهمت في اتاحة خروجه. وبقي ديبلوماسي واحد هو القنصل حفيظ العجمي الذي جاءه من الكويت ضابط يعمل في "المقاومة" ويتخفى في صورة تاجر، واقترح عليه خطة لمغادرة العراق سراً عبر الحدود مع تركيا عن طريق وسطاء اكراد في التاسع من الشهر نفسه، وقبل اسبوع من بدء الحرب. لكن هذه الرحلة كانت صعبة للغاية واستغرقت اربعة ايام عبر جبال كردستان الوعرة المثلجة، وانتهت به الى سجن تركي عانى فيها من فظاظة وغلظة حرس الحدود الاتراك الذين لم تتحسن معاملتهم له حتى بعدما تأكد لهم انه ديبلوماسي كويتي، ثم ارسلوه الى الحدود السورية، وهناك وجد من يقوده الى السفارة الكويتية في دمشق.