أثارت التحركات الاحتجاجية الإسرائيلية، المعارضة لحكومة شارون، الانتباه إلى قضية مهمة جداً، وهي أن هذه الاحتجاجات تأتي في ذروة الهجوم الإسرائيلي على السلطة الفلسطينية، وفي ذروة الدعم الأميركي لشارون، وفي ظل تفاقم الشعور بالحصار لدى الفلسطينيين. ففي هذه الظروف بالضبط، التي يفترض أنها توحي بالنصر للإسرائيليين، نشطت الحركة المعادية للحرب المدمرة التي تخوضها حكومة شارون ضد الفلسطينيين، متمثلة: أولاً باستعداد رئيس الكنيست الإسرائيلي إبراهام بورغ للذهاب إلى رام الله لإلقاء كلمة أمام المجلس التشريعي الفلسطيني، مساهمة منه في رفع الحصار المفروض على الفلسطينيين. ثانياً، بعريضة بعض ضباط وجنود الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، والتي وجهوا فيها الدعوة إلى رفض الخدمة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مقترنة بالدعوة للخروج من هذه الأراضي. ثالثاً، بالمظاهرات الغاضبة التي استقبلت شارون لدى عودته من الولاياتالمتحدة. رابعاً، بموجة المقالات في الصحف الإسرائيلية التي يعترض فيها كثير من الكتّاب الإسرائيليين على الممارسات الوحشية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة. خامساً، بمحاولة بعض "حمائم" حزب العمل وحركة ميريتس تكثيف اللقاءات مع الفلسطينيين للتأكيد على معارضتهم سياسات شارون. واللافت للانتباه، أيضاً، أن هذه التحركات لا تأتي كردة فعل على سقوط الإسرائيليين نتيجة عمليات المقاومة، وإنما احتجاجاً على الممارسات اللاإنسانية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين والمتمثلة في فرض الحصار عليهم وهدم بيوتهم ومؤسساتهم واذلالهم على الحواجز واستهداف أطفالهم وجرف طرقاتهم ومزروعاتهم، وهذا فارق مهم جداً. فمنذ بداية الانتفاضة واجه الفلسطينيون صعوبة كبيرة في التأثير على المجتمع الإسرائيلي الذي بدا عصياً على التفكك وموحداً خلف حكومته سواء في ظل باراك أو شارون، وذلك على خلاف ما حدث ابان الانتفاضة السابقة 1987 أو ابان وجود الاحتلال في جنوبي لبنان. ويمكن تفسير هذا الوضع بأسباب عدة، أهمها: 1- انصراف القوى السلامية واليسارية الإسرائيلية عن تغطية الموقف الفلسطيني بسبب اتهام هذه القوى للقيادة الفلسطينية بأنها رفضت اطروحات باراك "السخية" في مفاوضات "كامب ديفيد 2" تموز/ يوليو 2000، وبأنها اتجهت نحو الانتفاضة. ووصل الأمر بهذه القوى إلى حد تحميل القيادة الفلسطينية المسؤولية عن سقوط باراك ونجاح شارون. 2- إدراك الإسرائيليين أنهم يصارعون الفلسطينيين في هذه المرحلة على الحدود والوجود، أي على الحل النهائي لقضايا الحدود والمستوطنات والقدس واللاجئين، حيث أنه من المحظور على الفلسطينيين، من وجهة النظر الإسرائيلية، تحقيق أية مكتسبات بوسائل الضغط، لأن ذلك سيشجعهم مستقبلاً على المطالبة بحيفا ويافا. 3- توجه حزب العمل نحو الانخراط في حكومة "وحدة وطنية" بقيادة ليكود، مع الأحزاب الدينية وحزبي المهاجرين الروس، وهو ما خلخل معسكر السلام الإسرائيلي. وإذا كانت هذه العوامل تفسر ظاهرة التفاف غالبية المجتمع الإسرائيلي حول حكومة شارون فإنها لا تفسر، وحدها، سبب استمرار هذه الظاهرة، خصوصاً بعد الفشل في وأد الانتفاضة وفي ظل التدهور الأمني والاقتصادي في إسرائيل. ويكفي أن نعرف أن حكومة شارون، من بين كل الحكومات الإسرائيلية، شهدت مصرع أكبر عدد من الإسرائيليين. وهذا العدد يفوق بثلاثة أضعاف عدد القتلى الإسرائيليين الذين كانوا يسقطون بنتيجة عمليات المقاومة اللبنانية في جنوبي لبنان والذي لم يتجاوز عددهم آنذاك 4-5 جنود إسرائيليين شهرياً. وفي الواقع، فإن الفلسطينيين أنفسهم يتحملون قسطاً كبيراً من المسؤولية عن توحد المجتمع الإسرائيلي حول شارون وحكومته، في جانبين أساسيين: الأول يتمثل بالعمليات الاستشهادية الموجهة ضد المدنيين في المدن والمناطق الإسرائيلية. والثاني يتمثل بعدم وضوح رسالة الانتفاضة والتشويش الحاصل في هذا المجال ازاء استهدافاتها. فقد أدت العمليات الاستشهادية إلى بعث رسالة مفادها أن الانتفاضة تستهدف الإسرائيليين في وجودهم، وأنه ليس ثمة فرق بين عسكري ومدني أو بين طفل ورجل. وفي ذلك ظهر الفلسطينيون بمظهر من يخوض الحرب الأخيرة على الوجود أو حرب الإفناء المتبادل: "اما نحن أو هم". ومن الطبيعي أن تحفز حرباً مثل هذه غريزة القطيع والقبيلة في المجتمع الإسرائيلي، وأن تضعف معسكر السلام الإسرائيلي. وما يؤكد ذلك أن ردة فعل الإسرائيليين على عمليات المقاومة، خصوصاً في الأشهر الستة الأولى للانتفاضة، لم تكن متشابهة، إذ كان ثمة تمييز لديهم، أيضاً، تجاه العمليات: فمثلاً كانت ردة فعلهم على تلك التي تستهدف العسكريين عادية تقريباً، وهي عمليات يعتبرون أنها تجري بين "متكافئين". أما العمليات التي كانت تستهدف المستوطنين في الأراضي المحتلة، فقد اتسمت ردة فعلهم عليها بالبرود واللامبالاة غالباً، إن لم تستهدف الأطفال. وذلك بسبب تضعضع الاجماع الإسرائيلي بشأن المستوطنات. في حين أن ردة الفعل المتشددة كانت دائماً على غاية في الوضوح تجاه العمليات التي تقع في أراضي إسرائيل والتي تستهدف المدنيين، مثل العمليات التي استهدفت ملهى الدلافين في تل أبيب 1/6/2001 ومطعم سبارو في القدس الغربية 9/8/2001 وحافلة الركاب في حيفا 1/12/2001. وفي الحقيقة فإن عمليات المقاومة التي استهدفت العسكريين والمستوطنين الإسرائيليين هي تحديداً التي ساهمت بخلخلة الاجماع الإسرائيلي من حول الاحتلال والاسيتطان، وهي التي خلقت نوعاً من الانشقاق في المجتمع الإسرائيلي ونوعاً من الشعور بالتمييز بين الإسرائيليين انفسهم، إلى درجة أن وسائل الإعلام الإسرائيلية تحدثت كثيراً عن لامبالاة الإسرائيليين المقيمين في إسرائيل تجاه العمليات التي تستهدف المستوطنات، وبات زعماء المستوطنين يصرّحون علناً بأنهم باتوا في نظر الحكومة والمجتمع الإسرائيليين، مجرد عبء مالي وأمني وليسوا "رواداً" يتابعون حمل رسالة الصهيونية في "أرض الآباء والأجداد". حتى أن الأمر وصل لدى بعض هؤلاء الزعماء إلى حد اتهام الإسرائيليين بأنهم يفرقون بين دم ودم، والحكومة بأنها تميز، في ردة فعلها، بين العملية التي تجري ضد المستوطنين والعملية التي تستهدف الإسرائيليين في مناطق 1948! وفي المقابل، اتهم العديد من قادة الرأي العام الإسرائيلي جمهور المستوطنين بأنهم يقودون الدولة إلى كارثة وبأنهم يريدون فرض أجندتهم على الأغلبية، مهددين بذلك الديموقراطية الإسرائيلية. والمشكلة بالنسبة للفلسطينيين أنهم لم يدرسوا هذه الوقائع، على الأغلب، ولم يستفيدوا منها في صوغ استراتيجية نضالية موحدة تتلاءم مع واقع الانتفاضة وساحة عملها وأهدافها. وكانت نتيجة ذلك سلبية، إذ لم تعد العمليات الاستشهادية وحدها غير مشروعة وتوصم بالإرهاب، بل أن ذلك شمل أيضاً مجمل عمليات المقاومة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. واليوم يجد الفلسطينيون أنفسهم أمام تحد حقيقي يتمثل باستعادة حقهم المشروع في المقاومة لدحر الاحتلال والاستيطان من أرضهم طالما أن إسرائيل ترفض التوجه للمفاوضات وتريد فرض احتلالها واستيطانها بوسائل القوة العسكرية والحصار الاقتصادي. من كل ذلك، يمكن الاستنتاج بأن الفلسطينيين معنيون بملاءمة وسائل عملهم مع أهداف الانتفاضة وساحة عملها، وبالأخص فإنهم معنيون بالتوجه بخطاب واضح نحو الإسرائيليين، خطابٍ لا لبس ولا تضارب فيه، وهذا ما يساعد قوى السلام الإسرائيلية وما يساعد، قبلهم، الفلسطينيين أنفسهم، في مواجهة حرب شارون.