لعل السؤال الأكثر إلحاحاً هذه الأيام في ملف التسوية والوضع على الأرض في الأراضي الفلسطينية المحتلة هو سيناريو الخروج من الوضع القائم، والمتمثل في استمرار الانتفاضة الفلسطينية السلمية والعسكرية وإن على نحو متفاوت الحدّة بين يوم وآخر، والجمود الذي تعيشه مسيرة التسوية بمجيء شارون إلى سدة السلطة في الدولة العبرية. في هذا السياق يمكن الحديث عن خيارات شارون وخيارات السلطة المستقبلية في الرد على الأوضاع القائمة، ودفعها باتجاه مسارات أكثر قبولاً لكل طرف. تنطلق الرؤية الإسرائيلية في التعاطي مع الوضع القائم من أن "عرفات يستطيع السيطرة على الأرض لكنه لا يريد ذلك ويسعى من خلال "الفوضى" إلى "خلط الأوراق". الكلام السابق هو للخبير العسكري والأمني في صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية روني شيكد. حسب شيكد، الذي ينقل الاعتقاد السائد في الأوساط السياسية والأمنية، فإن ما يسعى إليه عرفات من خلال "الفوضى" أو "الإرهاب" يتلخص في جملة من الأهداف هي: "الوصول إلى تدخل دولي في النزاع، لبننة المناطق عبر المس بحياة المستوطنين ودفعهم إلى الرحيل، الدفع باتجاه إنشاء أطر احتجاج شعبية مثل منظمة "الأمهات الأربع" من أمهات القتلى جنوداً ومستوطنين، تقويض التوازن الداخلي في المجتمع الإسرائيلي من خلال إعطاء الضوء الأخضر لحماس والجهاد، بث الرعب والمعاناة عربياً ليس للحصول على الدعم المالي فقط وإنما لإيجاد خطر إقليمي على إسرائيل، تحسين مكانته في أوروبا، وإذا وصل إلى وضع لا يخسر فيه شيئاً فسيعلن الاستقلال من طرف واحد". إذا كان هذا ما يريده عرفات، وهو غير معني في الوقت الحالي بإيقاف الانتفاضة، فكيف سيتعامل معه الإسرائيليون، وما هي صيغة الرد على استمرار الانتفاضة والمقاومة؟ هذا السؤال لا يزال قائماً في الأوساط الأمنية والسياسية منذ شهور، ولعله السؤال الذي أسقط ايهود باراك، وهو ذاته الذي دفع حزب العمل إلى الموافقة على المشاركة في حكومة الوحدة الوطنية، كما أكد عدد من قادته عشية إعلان الموافقة في 26/2، وهو، حسب زئيف شيف، الخبير العسكري المعروف، "السبب الوحيد"، "أما بقية الحجج للانضمام إلى حكومة الوحدة فهي هامشية وشخصية". جولة وزير الخارجية الأميركي كولن باول زادت السؤال المذكور تأكيداً، ذلك أن الوزير الأميركي لم يأتِ بجديد لحل المعضلة القائمة سوى تأكيد الرؤى الإسرائيلية سواء في ما يتصل بالدور الأميركي أو في ما يتعلق بشروط العودة إلى مائدة التفاوض. إضافة إلى شطب وثيقة كلينتون كمرجعية تفاوضية. على الصعيد الأول أكد باول أن الولاياتالمتحدة لن تشارك بشكل مباشر في المفاوضات السياسية كما لن تكون شاهداً حاضراً في المفاوضات الأمنية. أما شروط استئناف التفاوض فهي ذاتها شروط شارون، وإن بكلمات أقل حدّة: "تقليص مستوى العنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين، استئناف التعاون الأمني، تخفيف الضغوط الاقتصادية على الفلسطينيين". حتى الآن لم يقل شارون ما الذي سيفعله لوقف الانتفاضة وفرض أجندته على الطرف الفلسطيني، سواء في ما يتصل بثوابتها التفاوضية، أو بصيغة الحل المرحلي. ولذلك انهالت عليه الاقتراحات من أطراف اليمين واليسار والوسط، إضافة إلى الموقف العسكري والأمني الذي يأتيه على نحو أقرب إلى الأمر منه إلى النصيحة، كما في اقتراحات قادة الجيش والأجهزة الأمنية المختلفة. حسب التوصيات التي قدمتها قيادة الجيش للحكومة ونقلها رون بن يشاي، المراسل العسكري ل "يديعوت أحرونوت"، فإن على شارون أن يتمسك بالأهداف الإستراتيجية التي حددها باراك، بالتشاور مع الجيش وهي: "توفير الأمن للسكان المدنيين في إسرائيل والمناطق، خفض مستوى العنف والإرهاب الفلسطيني إلى الحد الأدنى، منع تدويل الصراع من جانب الفلسطينيين، إبقاء نافذة للمفاوضات السياسية". ويزيد شاؤول موفاز، رئيس هيئة أركان الجيش، الأمر وضوحاً بتوجيه شارون إلى ضرورة بدء التفاوض مع عرفات، مع اشتراط "خفض العنف إلى مستوى محتمل - ليس أكثر من 2 - 4 عمليات في الشهر"، وعندما يحدث ذلك يقترح الجيش بناء الثقة تدريجاً على مدى سنوات عبر "اتفاقات مرحلية عدة"، ومثال ذلك "تمكين الفلسطينيين من إقامة تواصل إقليمي بين مختلف مناطق أ وإخلاء ثلاث مستوطنات معزولة في غزة". ماذا لو لم يحدث ذلك وحصل المزيد من التصعيد؟ في هذه الحال يقترح الجيش "العمل حسب الإستراتيجية التي حددها مع باراك، ولكن بحزم أشد وإضافة وسائل قتالية وفقاً لزيادة شدة العنف والعمليات الإرهابية"، إضافة إلى استخدام الضغط بدون توقف مع الأخذ في الاعتبار الاحتياجات الإنسانية للجمهور الفلسطيني. وإذا ازداد العنف أكثر فسيطلب الجيش موافقة المستوى السياسي "على العمل بقوة أشد، ومعنى ذلك المس بمؤسسات السلطة وتنفيذ ذلك بصورة انتقامية". بيد أن موفاز، حسب ذات المصدر، يسارع إلى القول بأنه لا يريد التسبب في انهيار السلطة، مع أنه يرى أن ثمة خطوة أخرى أشد قد تكون مطلوبة، وهي دخول مناطق أ لاختطاف رجال "حماس" و"الجهاد" و"فتح" المطلوبين، ومن ثم الخروج مباشرة. والخلاصة "تنفيذ ذلك بصورة نظيفة، من دون أن نضطر للاحتلال والسيطرة على مواقع مأهولة في مناطق فلسطينية". وبالطبع فإن اقتراحات الخبراء الأمنيين في هذا المقام كثيرة ويصعب حصرها في هذه السطور. المحظور الأكبر الذي يركز عليه القادة الأمنيون والسياسيون، هو عدم العودة إلى المناطق المأهولة بالسكان، وعدم الدفع باتجاه انهيار السلطة، وهو الأمر الذي سيفضي إلى حال من الفوضى والعنف، وقد تصل الأمور حد إشعال حرب إقليمية بعد تدخل "حزب الله" وضرب سورية، ومن ثم تدخل العراق وإيران، وهو السيناريو الذي يهجس به الإسرائيليون منذ شهور. يؤكد زئيف شيف أن "الرأي السائد في الأجهزة الأمنية هو أنه حذار على إسرائيل ان تدفع باتجاه انهيار السلطة"، وهو ما تتبناه الاستخبارات العسكرية والمخابرات العامة ومنسق أعمال الحكومة في "المناطق"، إضافة إلى مجلس الأمن القومي. ومن أجل ذلك لا بد من "طوق يتنفس" حسبما أسماه بعض القادة ومنهم "منسق أعمال الحكومة الإسرائيلية في المناطق". هناك مسار آخر في التعاطي مع المعضلة يقوم على اللعب في المربع الفلسطيني، عبر تهديدات مبطنة للرئيس الفلسطيني، مفادها "انتهاء صلاحيته كشريك سياسي" وأخرى مباشرة عبر المستوطنين، إضافة إلى بث الأنباء الصحيحة والزائفة عن خلافات حادة في أوساط قادة السلطة، وسيادة الرأي القائل بضرورة وقف "العبث" المسمى انتفاضة. بالنسبة الى خيار السلطة، يمكن القول إن عرفات لا يزال يسير على حبل مشدود، ذلك أنه غير معني بدفع اللعبة إلى مستوى كسر العظم وصولاً إلى انهيار السلطة التي يراها وكثيرون حوله دولة لا ينقصها الشيء الكثير، وفي الوقت ذاته يصوب نظره الى الشارع الغاضب الذي لم يقبل ما طرحه باراك فضلاً عن قبول ما يقدمه شارون. أما الشعار الجديد المطروح من طرف السلطة، فهو فك الحصار الاقتصادي والعسكري والعودة إلى المفاوضات من النقطة التي وصلت إليها في طابا. ولكن ما الذي تملكه السلطة لفرض هذه الأجندة على شارون؟ ليس بين يدي السلطة سوى ورقة الانتفاضة والمقاومة، وهي ورقة لا يمكنها دفع شارون إلى نبذ لاءاته ما دامت الأمور تسير وفق النسق القائم والذي يمكن استيعابه بسهولة ويسر، فكيف إذا نجحت السياسات الجديدة في مزيد من الاستيعاب، خصوصاً مع وجود احتمال سريان الملل والإحباط في الشارع الفلسطيني من خيار الانتفاضة المحدودة، كثير الكلفة، قليل الإنجاز. يشار هنا إلى أن حكومة الوحدة بزعامة شارون، بأجندتها شبه الوحيدة في البداية "التخلص من العنف" ستمنح "البلدوزر" فرصة أكبر في التعامل مع الوضع. التصعيد الشامل هو الخيار الوحيد المجدي أمام الفلسطينيين لكسر لاءات شارون وهو تصعيد لا بد منه، ولا ينطوي على مخاطر كبيرة بوجود استعداد لخوض مغامرته من جانب الشارع الفلسطيني وقواه المقاومة. أمام السلطة خيارات أخرى بالطبع، مضمونها الحقيقي هو التنازل تحت دعوى "الحفاظ على المكتسبات"، ومنها الموافقة على الخطة التي قدمها شارون لوزير الخارجية الأميركي وعرضت في "قناة سرية" بين شارون وعرفات، وتقوم على ثلاث مراحل لأشهر عدة. في كل مرحلة ينفذ الفلسطينيون خطوات تؤدي إلى الهدوء الكامل على الأرض مقابل تسهيلات اقتصادية متوالية. أما العرض الآخر الذي قدمه كبار في السلطة كشفت عنه صحيفة "كول هعير" العبرية، فيقوم على وقف "العنف" أو خفضه إلى الحد الأدنى مقابل "الإعلان عن دولة فلسطينية في المناطق بحيث يستطيع الطرفان التفاوض كدولتين بدون إطار زمني محدد، ويستطيع الفلسطينيون الإدعاء بأن المفاوضات تجري حول التسوية الدائمة، فيما يستطيع شارون الإدعاء بأنه لا يتفاوض حول التسوية الدائمة بل حول الانتقالية ويلتزم وعده عدم إخلاء المستوطنات". ثمة أسئلة حول هذا الاقتراح الكارثي على الطرف الفلسطيني تكمن في طبيعة الدولة ومساحتها والتواصل الجغرافي بين "كانتوناتها"، بيد أن إمكانية الموافقة الإسرائيلية عليها تبقى واردة إذا لم تكن مرجحة، نظراً الى ما تمنحه للجانب الإسرائيلي من امتيازات خلاصتها تثبيت خيار الحكم الذاتي المحدود، بدون القدس ولا السيادة ولا عودة اللاجئين وبقاء المستوطنات، فضلاً عن مساحة الأرض المحدودة. في ضوء ذلك لا بد من القول إن الخيار الوحيد العملي أمام السلطة هو دفع الأوضاع باتجاه التصعيد بكل أشكاله، مع دمج عرب 1948 في المعركة وتجاهل خيار التفاوض، ورفع شعار دحر الاحتلال إلى ما وراء الخط الأخضر دون قيد أو شرط. أما استمرار الوضع الحالي أو القبول بالاقتراحات الملغومة الأخرى فلن يفضِ إلا إلى انتصار كبير لشارون وخياره للتسوية المرحلية التي لن تصل بالفلسطينيين إلا إلى الحكم الذاتي المحدود، أياً كانت تسميته. * كاتب أردني.