- 1 - إذا كان الإرهاب مسألة كونيّة، فهي مَسْأَلةٌ تهم، بالضرورة، شعوب العالم كلها، وهو ما عبّرت عنه، بقوةٍ وحكمة، السيدة دولاميني زوما، وزيرة الخارجية في أفريقيا الجنوبية. غير أَنّ الخطاب الذي تمارسه الولاياتالمتحدة، في حربها على الارهاب، يشير الى أَنّها هي وحدها المعنية به، وهي وحدها تعرف كيف تحاربه، أَنّى شاءت ومتى شاءت وكيفما شاءت. هذا موقفٌ لا يوصف بأقلَّ من أنه استخفافٌ بالعالم كله، واحتكارٌ لحقّ "الوعي" بالخطر، ولحق "الحرب" عليه، وهو، الى ذلك، يفرض على العالم نوعاً من "الأبوة" بحيث يبدو البشر كأنّهم "قاصرون" أو كأنهم لا يزالون في سرير الطفولة. يضاف الى ذلك انه موقفٌ يصدر عن رؤيةٍ للعالم تبسيطية، كما وصفها رئيس الديبلوماسية الفرنسية هوبير فيدرين. وهي تبسيطية بوجهين: الأول يتمثّل في النظر الى العالم عِبْر ثنائيّة الخير والشرّ، أو الشيطان والرّحمن، وفقاً لثنائيّة الخميني. وهي تفترض أَنّ الولاياتالمتحدة تمثّل الخير، وأنّ "الأعداء" يمثّلون الشرّ. أمّا الوجه الثاني فيتمثل في النظر الى العالم عبر ثنائيّة "القويّ" و"الضعيف"، "القادر" و"العاجز". وهذه الثنائية تفترض ان الولاياتالمتحدة هي الأكثر قوّةً وقدرةً، وهي، إذن، القوة التي يجب على العالم أَن يُفوّضَ لها أمرَ السهرِ عليه وحراستهِ من الارهاب! إنها رؤيةٌ تنهض على نَوْعٍ من "الكاوبويّة" الفكرية والسياسية، تمتهنُ العالم، بَصراً وبصيرةً، ولا تخدم في الأخير إلاّ القوى التي تُناهض الديموقراطيّة، والقانون، وحقوق الإنسان. بل إنها لا تخدم إلاّ "عقليّة" الإرهاب. وهي، في ذلك، تقف، موضوعيّاً، الى جانب القوى الفاشيّة الجديدة، ومن ضمنها اليمين العنصري في أوروبا. اضافةً الى ذلك، تنهض هذه الرؤية على ممارسةٍ أحاديّة لا تدعم في الأخير إلاّ الأنظمة الأحاديّة التي تستهين بشعوبها وحقوقها وحرياتها، وتحكمها، مِن عَل، بقوىً عَسْكرية غاشمة. في هذه الرؤية، تحتكر الولاياتالمتحدة، لا "الحقَّ" وحدَه، بل "الوعيَ" كذلك، غير آبهةٍ إلاّ بمصالحها هي، وحقوقها، وحرّياتها، وسيادتها. ربّما نجد في هذا "الاحتكار"، ما دفع هوبير فيدرين الى أن يصف هذه الرؤية بأنها "رؤيةٌ للعالم لا تعبّر عن رؤيتنا له". - 2 - يبدو، تِبْعاً لما تقدّم، أنّه لا مكانَ لحقوق الإنسان في الخطاب الأميركي السياسيّ إلاّ وفقاً للرؤية الأميركية، وأنّه خطابٌ يميّز بين البَشر، واصفاً بعضهم بأنهم يمثلون "الخير"، وبعضهم الآخر بأنهم يمثّلون "الشرّ". وهو وصف يخرج هؤلاء من دائرة الإنسانية، ويجرّدهم من حقوقهم، بوصفهم بشراً. وإذن لا يجوز أن يثير تعذيبهم أو قتلهم أيّ اعتراض - فهم مجرد "حيوانات"، أو "جمادات". ووصف البلدان بأنها "محاور الشرّ" يتضمن حرمانَها هي كذلك من حقوقها في السيادة والاستقلال والحرية... الخ. وإذن، لا يجوز الاستغرابُُ إن كانت عُرضةً للغزو والتخريب والقتل، "جزاءً" على "شَرّها"! منطقٌ استعماريٌّ - إِبَادِيّ من نوعٍ جديد. لا يحتقر القواعد والاتفاقات الدولية، وحدها، وانما يحتقر كذلك الإنسان في صميم كينونته. كأنّ في العقل السياسي الأميركي "مرضاً" يمنعه من الرؤية الصحيحة التي تتمثَّلُ، جوهرياً، في أنَّ العالم مُرَكَّبٌ بشريّ، مُعقّدٌ ومتنوّع، وأنّ الولاياتالمتحدة ليست قائدةً له، وإنّما هي جزءٌ منه. - 3 - هل نرى في "الوعي" السياسي الأميركي، مقدماتٍ لإلحاق أوروبا السياسية، بقاطرة السياسة الأميركية؟ هل في هذه الرؤية ما يشير الى ان الولاياتالمتحدة ترى ان العالم الأوروبي، هو، بالنسبة اليها، عالمٌ "ثالثٌ" آخر؟ أهي نوعٌ من "الانذار المبكّر" لأوروبا: ما يراه "شارون" في فلسطين هو ما تراه الولاياتالمتحدة، وهو، إذن، ما ينبغي على الدول الأوروبية أن تتبنّاه؟ خصوصاً أن البؤرة المركزية للخلاف الأوروبي مع الولاياتالمتحدة تتمثّل في فلسطين: إزاء الانحياز الأميركي الكامل لسياسة شارون - تهديماً لبيوت الفلسطينيين، وتقتيلاً لهم وهي مع ذلك سياسة "دفاعيّة"! في النظر الأميركي تقف أوروبا - حتّى الآن - بتعقّلٍ محايد للحفاظ على حقوق الشعب الفلسطيني، ذلك أنّ عدمَ الاعتراف بهذه الحقوق سيعقّد المشكلة، ويعقّد الحلول، ويزيد في تعقد مشكلة "الإرهاب"، ويدفع العالم الى العيش في جحيم حَرْبٍ مفتوحةٍ بلا نهاية. تُرى، أهذا ما تُريده، عُمْقياً، سياسةُ شارون وبوش؟. ونرى، من هنا، لماذا يتناقض مفهوم أوروبا للحرب الفلسطينية - الاسرائيلية مع مفهوم الولاياتالمتحدة، ولماذا بالتالي، ينسحب هذا التناقض على مفهوم السلام، كما أشار وزير الدفاع الفرنسي آلان ريشار. - 3 - إذا نظرنا، من زاويتنا - نحن الشعوب العربيّة، بخاصّةٍ، وشعوب العالم الثالث، بعامة، الى العلاقة "الحضارية" الراهنة بين الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية، فإننا سنرى حركةً هائلةً من تزعزع القيم الأوروبية، فنّياً وثقافيّاً، تحت ضَغْط "الغَزْو" الأميركي. إنّ التأثيرَ الضّخْمَ، شِبْهَ الجَارِف، الذي تمارسهُ "الحضارة" الأميركيّة عدا الجانب التّقنيّ الذي لا يحتاج تأثيره الى أيّ برهان - في مجالات الأغنية والموسيقى والرّقص، وأنواع الرياضة، والرّسم والنّحت والشعر والرواية والمسرح والسينما والفكر والفلسفة، وطرق الحياة والتفكير... واللغة، إلخ، - إنّ هذا التّأثير الضّخمَ المتزايد يُتيح لنا ان نتخيّلَ كيف ان أوروبّا آخذةٌ في "الاستقالة"، حضاريّاً، من "ذاتيّتها" ومن "هويّتها". يُتيح لنا، بالمقابل، أن نزدادَ يقيناً، نحن شعوب العالم الثالث، بأنّ ما تحتاج اليه أوروبا ونحتاج اليه منها يتجاوَز مجرّد المعارضة للرؤية السياسيّة الأميركية للعالم. إنّ الحاجة إنّما هي الى "نَهضةٍ" جديدة. من أجل أوروبّا ذاتِها، ومن أجل الإنسان في العالم كلّه: "نهضة" تعيد التأسيس لِعالمٍ إنسانيّ منفتحٍ، محبٍّ كريمٍ، وخَلاّق.