عن المكتبة الأدبية، صدر في طبعته الأولى ديوان "نسيج المرايا" للشاعر السعودي علي الفرج، وضم 30 نصاً توزعت على 144 صفحة من القطع المتوسط. يلاحظ القارئ، والمتابع لنصوص علي الفرج، وبخاصة الأخيرة المنشورة في صحيفة "الحياة" وبعض الدوريات، أن مفارقة واضحة جداً بين نصوص الديوان والنصوص المنشورة اخيراً. هذه المفارقة لا تقتصر على طبيعة النص المكتوب من حيث الشكل الفني، كون معظم قصائد الديوان عمودية مقفاة، والنصوص المنشورة اخيراً تنتمي الى قصيدة النثر. وتمتد هذه المفارقة، إلى اللغة والمجاز والصور التي يستخدمها الشاعر، بل وإلى أفق الشعر الذي يحلّق فيه. هذا لا يعني كون نصوص هذا الديوان نصوصاً شاحبة، أو ضعيفة من حيث لغتها أو من حيث بنيتها الفنية، بقدر ما تمثل هذه النصوص مرحلة تاريخية معينة، ينبغي قراءتها ضمن تاريخيتها، للوقوف على التطور التاريخي والفني للشاعر في كتابته الشعرية. تنتمي نصوص الديوان الى قصائد المناسبات، ذات الطابع الاحتفالي، أو لنقل العقدي في كثير منها. فموضوعات النصوص تتفاوت بين قصائد كتبت في مناسبات واحتفالات دينية، وقصائد كتبت مراثي لشخصيات أدبية وعلمية كالشاعر الراحل مصطفى جمال الدين، ويمكن استثناء نص واحد استطاع أن يفلت من ربقة المناسبة بامتياز وهو نص "شهوة محنطة". هذا النص "شهوة محنطة"، يعتبر علامة فارقة في الديوان، بل مؤشراً ذا دلالة واضحة على تطور الكتابة لدى الشاعر علي الفرج وتوجهها للتخلص من الحافز الإيديولوجي نحو أنسنته، بل تذهب الى حد التجرؤ على الموروث الكلاسيكي، نحو مزيد من المغامرة التي يخشاها الكثيرون حينما يقول: "من ترى يتوقع/ إنه الجبل الأسمر المتسكعْ/ كان يمسح أحذية السنوات التي تعبر الكونَ ثم تموتْ/ كان يعشق رائحة تتدلى بثوب الرعاة .../ كانت غلالته سلة من جماجم صمت الدقائق/ من ترى يتوقعْ/ إنه الآن .../ صار ثقب السماء الذي تتنفس من الفقاقيع في موسم الوحل/ صار يمسح أنف المجرة بالشمسْ". هذه المقدرة على التحلل من ربقة الأدلجة، وتجاوزها بالمجاز واللغة، لم يوفق لها الشاعر في جزء آخر من نصوص الديوان، كنصوص: "دم العشق"، "من الأعماق"، "شواطئ لعينيك"، والتي وإن حملت أبياتاً ذات حس جمالي عالٍ إلا أنها تظل تكتنز صوتاً صاخباً بعض الشيء. لنرجع الآن الى البعد التاريخي لنصوص هذا الديوان، وهي كُتبت بين العامين 1412 و1419ه، ومعظمها قبل العام 1419 عدا بعض النصوص القليلة. خلال هذه الفترة، يمكننا أن نلحظ أن الشاعر بدأ في مخاض تشكله الأول، بين الكتابة الكلاسيكية المناسباتية، والانفتاح على النص الحديث، وبين متطلبات المشاركة الاجتماعية ومتطلبات الكتابة الشعرية المنحازة الى اللغة والمجاز وكثافة الصورة بعيداً من الموضوع. كان الشاعر كما يتضح من خلال الديوان مقيداً بمتطلبات الواقع المعاش والبيئة المحيطة به، لكنه في الوقت نفسه حاول أن يوازن بين تلك المتطلبات والكتابة الشعرية الصرف، من هنا جاءت نصوصه متميزة عن بقية الذين تعاطوا الكتابة النصية في هذه الحقول. ولفت الشاعر القارئ والناقد منذ البداية الى لغة خاصة في طور التكامل والتشكل، وقد بلغت نضجها وعمقها في النصوص الأخيرة للشاعر والتي لم يضمها الديوان. هذا التطور نلحظه من خلال بنية القصيدة ذاتها. فبعض نصوص الديوان كانت عمودية صرفاً، - وهي الغالبة -، والتي على رغم مظهرها الكلاسيكي، كتبت بروح حداثية تحاول أن تركز على حداثة الصورة واللغة، بعيداً من الحداثة الشكلانية. وبعضها كانت مزيجاً من الكتابة العمودية والتفعيلة، كنص "هي"، ونص "سيد الماء"، وهو نص يمكن من خلاله ملاحظة تطور اللغة وأسلوب التعاطي مع الموضوعات التقليدية. يبتدئ هذا النص عمودياً: "سأعطيك وجهي فاحتضن فيه صحرائي/ لأروى وأمشي خلف قافلة الماء"، إلى أن ينتقل في النص نفسه لشكل آخر من الكتابة مفصحاً: "أرى قطرةً والوجوه عيونٌ/ وعيناهُ نافذتان ومجرتانِ/ وكفاه شكل رغيف دماءٍ/ أكلنا ... شبعنا/ هنالك قوم رأونا...". من خلال هذه التجربة في المزج بين شكلين كتابيين، ينتقل الشاعر إلى الكتابة الحرة الصرف، وتحديداً قصيدة التفعيلة، كما في نصوص "اقبلني"، "أسئلة لوجهين"، و"ثماني نبضات لفاطمة"، وهو حاول من خلالها أن يقيم وحدة موضوعية بين مقطوعات صغيرة شكلت بنية النص: "كان في منزل الحزنِ نافذتانِ/ نعلّق أعضاءنا في واحدةٍ/ ثم نعبر للاحتراق من الثانية ... دائماً/ نتواعد في موسم الحزنْ/ بعدها/ نبدأ رحلتنا باتجاه سماوي". محاولة التحديث التي مارسها علي الفرج في نصوصه، لم تقتصر على التنقل بين الكتابة العمودية والتفعيلة، وليس على التحرر من ربقة الأدلجة في النصوص، والانحياز قدر الإمكان نحو الشعرية، بل شملت أيضاً محاولة النظر الى الموضوعات بعين مختلفة، جاءت عبر عناوين بعض النصوص. نرى أن هنالك نصوصاً تقليدية من حيث الموضوع، يتناول فيها الشاعر واقعة كربلاء وشخص الإمام الحسين بن علي، لكنه يختار لهذا الموضوع التراثي عناوين حداثية مثل: "مراهقة جليدية"، و"أسئلة لوجهين"، و"نزيف المرايا"، مما انعكس إيجاباً على القصائد ذاتها، كأن نقرأ في "نزيف المرايا": "ويفتح كل هذا الكون في يده فيرتشفُ/ وتُفتحُ في خلاياهُ الصغيرة للسما غرفُ/ وتنهل النجوم على أصابعه وتعتكفُ/ حسين كربلاؤك وسطها الأبراج تغترفُ/ وفوق تكسر الرمل البليد بحيرة تقف". كل ذلك لا يعني أن النصوص العمودية في الديوان كانت ضعيفة، بل على العكس هناك نصوص تفاجئ القارئ بقوتها وحداثة لغتها، كنص "الحضور بوجه آخر": "بغير وجهك قد ضاعت ملامحنا/ وكل أوجهنا في الأفق تنطفئُ/ وكل ألواننا تمحى وتسكننا ال/ موتى وبين دمانا يطلع الصدأ/ تحجرت رئة الدنيا فلا نفس/ وسافر الماء فاحتلَ المدى ظمأ/ وصار في رئتيك الجو محتبساً/ وفوق أضلاعك الأنهار تتكئُ/ وأنت من أنت فر الكون من دمنا/ وراح نحو كفيكَ يَختبئُ". لو حاولنا أن نقف على جانب مهم أيضاً في الديوان، وهو الجانب المتعلق بتراتبية النصوص وتجميعها، سنجد أن من قام بجمع الديوان من أصدقاء الشاعر لم يكلف نفسه كثير عناء، بل قام بدخول موقع الشاعر علي الفرج على الإنترنت، وقام بنسخ النصوص وعرضها كما هي، من دون أن يعيد ترتيبها، ويرى مدى الانسجام في ما بينها، أو مدى قابليتها لأن تشكل ديواناً شعرياً متكاملاً، ما جعل نصوص الديوان متفاوتة في ما بينها، وأظهرت الشاعر في شكل سلبي، وكأنه شاعر عقدي وشاعر مناسبات وحسب، فيما هو في حقيقته يقف في الصف الأول من كتاب النص الشعري من الشعراء الشباب في الخليج. مما تقدم يمكن القول إن ديوان "نسيج المريا"، يشكل إصداراً متقدماً مقارنة مع بقية الإصدارات التقليدية التي تتناول المواضيع ذاتها، وهو بذلك يفتح أمامها أفقاً جديداً قد لا يستساغ عند الكثيرين. وهو في الآن عينه سيقرأ بسلبية من الحداثيين المتزمتين في حداثيتهم، وسيقرأه المنحازون الى الجمال الشعري بموضوعية متوقفين عند الكثير من محطاته ومستمتعين بصوره، وسيشكل منطقة إضاءة مهمة للنقاد المتابعين لتطور الشاعر في كتابته، كونه يحكي عن فترة زمنية مهمة في تكونه. وبانتظار أن يستطيع الشاعر طبع مجموعة شعرية تحكي عنه بصدق، وتمثل ذروة ما وصل له في الوقت الحاضر فإن قراءته الآن في هذا الديوان تظل أشبه بالاطلالة المتعددة الوجهات على عالمه الشعري.