سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الوجه الآخر للصومال : "بونت لاند" و"صومالي لاند" ... دولتا الامر الواقع في القرن الافريقي ؟ . ميناء بوصاصو أحد أهم المرافق الحيوية في الصومال يستخدمه تجار من اثيوبيا ... ومن مقديشو المقفل مرفأها 2من6
تناولت الحلقة الاولى امس موضوع شركات الطيران الصومالية الخاصة التي تأسست خلال فترة الحرب، وكيف استطاعت فك عزلة الصوماليين وربطهم بالعالم الخارجي، كما عرضت نبذة تاريخية عن بلاد بونت. الحلقة الثانية اليوم، تعرض دور ميناء بوصاصو في شمال شرقي الصومال، وكيف استطاعت حكومة بلاد بونت تسيير هذا الميناء ليخدم معظم المناطق الصومالية وصولاً الى اثيوبيا. كما تقدم وجهة نظر من المنطقة في المصالحة الوطنية، والدور الاميركي المحتمل في الصومال. عندما هبطتُ في مطار بوصاصو شمال شرقي الصومال للمرة الاولى في العام 1994، كنت بصحبة اربعة من موظفي إحدى وكالات الاغاثة الدولية الذين كانوا ينقلون ادوية في طائرة "اليوشن" روسية اقلعت بنا من جيبوتي المجاورة. وعندما فتح قائد الطائرة بابها، فوجئنا بعشرات المسلحين يصوّبون بنادقهم نحونا ويتحدثون الينا، بل يصرخون، بالصومالية التي لا يتكلمها اي منا. وحاول احد موظفي وكالة الاغاثة التحدث الى المسلحين، فزاد صراخهم وارتفعت حدة توترهم، فيما كانت حرارة الطقس تجاوزت أربعين درجة مئوية، فانتقلت اجواء التوتر إلى الطائرة. وبعد حوالى 20 دقيقة احضر المسلحون ممثل وكالة الاغاثة المحلي الذي كان محتجزاً لديهم، وعرفنا منه ان الميليشيات المسلحة المسيطرة على مطار بوصاصو تطلب ثلاثة آلاف دولار مقابل السماح لركاب الطائرة بمغادرتها وتفريغ شحنة الادوية. وبعد مفاوضات استمرت حوالي ساعة، دفع موظفو وكالة الاغاثة المبلغ المطلوب وغادرنا الطائرة الى وسط المدينة الذي كان يعج بالمسلحين. لم يسألني احد آنذاك عن هويتي او جواز سفري اوماذا افعل في تلك البلاد. وبعد حوالى ثمانية أعوام من تلك الرحلة، هبطتُ الشهر الماضي على مدرج المطار نفسه في طائرة روسية ايضاً لكنها من طراز "انتونوف" ولم تكن تحمل أدوية ولا إغاثة. فهي تابعة لإحدى شركات الطيران الصومالية الاربع الخاصة التي تأسست حديثاً، وكان على متنها صوماليون من ابناء المنطقة. بعضهم جاء يمضي عطلته في مدينة بوصاصو او خارجها، وآخرون كانوا في رحلة عمل وعادوا الى المدينة. قاعة الوصول في مطار بوصاصو هي نفسها قاعة المغادرة، عبارة عن غرفة لا يتجاوز طولها 25 متراً وعرضها سبعة امتار. وفيها مخرجان، أحدهما يؤدي الى طريق رملي يقود الى وسط المدينة وآخر الى المدرج، لكنهما من دون ابواب. ويقف امام كل منهما رجل امن غير مسلح يدقق في جوازات سفر المغادرين والواصلين. وهذه الغرفة هي الوحيدة القائمة وسط ذلك المكان الخالي إلا من المدرج، ولا أثر لبرج مراقبة. كنت ابلغت سلطات منطقة شمال شرقي الصومال التي صار اسمها "بلاد بونت" عن موعد زيارتي قبل اسبوع من سفري. وفوجئت حينها عندما طلبوا مني ارسال صورة من جواز سفري عبر الفاكس قبل وصولي، ففعلت ذلك. ومثل كل الواصلين الى مطار بوصاصو، سلمت جواز سفري الى رجل الامن الذي وضع عليه تأشيرة دخول وتاريخها. لكنني على خلاف رفاق الرحلة المواطنين الصوماليين، دفعت عشرين دولاراً رسم الدخول. وعلمت ان ختم التأشيرة هو نفسه الذي كان يستخدم ايام حكومة الرئيس محمد سياد بري قبل اطاحته واندلاع الحرب الاهلية الصومالية العام 1991. إذ تشير كتابة الختم بالانكليزية الى فترة التأشيرة ومانحها "مكتب الجوازات والهجرة - بندر قاسم - مطار بوصاصو الدولي". وبندر قاسم هو الاسم القديم لمدينة بوصاصو. إذن صارت هناك حكومة محلية في المنطقة التي ارتأى اعيانها اطلاق اسم "بلاد بونت" عليها منذ العام 1998، وذلك بعدما شكلوا حكومة وبرلماناً وقضاء وشرطة. وصارت سلطات الهجرة تعرف كل مغادر وآت من والى المنطقة عبر مينائها البحري او الجوي. وذلك جزء من الاجراءات الامنية التي ما زالت غائبة عن معظم المطارات او المدرجات في الصومال، خصوصاً مقديشو العاصمة الوطنية لهذا البلد، والتي زرتها آخر مرة قبل نحو عام. ويقول المسؤولون في بلاد بونت إن غياب الامن في مقديشو، حيث فشل اعيان المدينة في تحقيق الاستقرار والاتفاق على ادارة الدولة، دفعهم الى اعلان الحكم الذاتي وإدارة شؤونهم بأنفسهم وتسيير أعمالهم الى ان يتحقق الحد الادنى من الامن في العاصمة الوطنية. "بندر قاسم" او مدينة بوصاصو التي كانت في حرب مع نفسها وبين ميليشيات قبائلها في العام 1994 وقبله، والتي كانت مقفرة إلا من المسلحين آنذاك، صارت تعج الآن بالناس والسيارات وشاحنات النقل الضخمة التي تحمل البضائع من الميناء الى معظم الأراضي الصومالية. أسواقها لا تهدأ، ويمكن شراء أي شيء فيها بدءاً من القات وصولاً الى كل انواع الالكترونيات، بما في ذلك احدث الكومبيوترات، ومواد البناء والادوات المنزلية وحتى السيارات الحديثة. وهذه الأخيرة تنظم حركتها إدارة خاصة في وزارة المواصلات التي تمنح تراخيص قيادة ولوحات لكل سيارة عليها رقم خاص واسم "بونت لاند". العدد الكبير من سيارات الشحن التي تكاد تشل حركة السير وسط المدينة دفعني لزيارة مينائها اولاً. إذ كان هذا الميناء أحد المرافق الاساسية، وكانت كل من الميليشيات المتنازعة تسعى الى السيطرة عليه باعتباره مصدر تمويل مهماً لدى تشغيله. وكان ميناء بوصاصو قبل ثمانية أعوام مقفراً إلا من ثلاثة قوارب جانحة يستلقي جزء منها على الرصيف والآخر في المياه. ولا حركة في الميناء آنذاك ولا صوت، سوى اصوات امواج البحر تلطم الرصيف بهدوء وهبات ريح ساخنة تزيد من وحشة المكان. اما غرف إدارة المرفأ والجمارك فكانت خالية وابوابها مشرعة. بواخر ضخمة واخرى صغيرة ترسو عند رصيف الميناء اليوم، وعشرات العمال يفرغون السلع والبضائع في عدد منها، وآخرون يحمّلون السفن الفارغة وآلافاً من رؤوس الماشية وسلعاً عدة للتصدير. ويقول مدير الميناء حسن شيري آمان :"يعتبر ميناء بوصاصو حالياً احد اهم المرافق الحيوية في كل الصومال، خصوصاً في ظل عدم وجود حكومة مركزية واقفال الميناء الرئيسي في العاصمة مقديشو وكذلك مطارها الدولي. وميناء بوصاصو لا يخدم منطقة بلاد بونت فقط، وإنما تشمل خدماته كل الاراضي الصومالية بما في ذلك العاصمة مقديشو وجمهورية ارض الصومال المجاورة واقصى جنوب البلاد عبر الحدود حتى منطقة اوغادين ومناطق اخرى في اثيوبيا". وعن الطاقة الاستيعابية للميناء يقول آمان :"في امكان ميناء بوصاصو ان يستقبل في وقت واحد عشر بواخر شحن صغيرة، سعة اربعة الى خمسة اطنان، وباخرتين من الحجم الكبير سعة 1200 طن". ويضيف: "نستقبل بواخر الشحن المبحرة من دول عدة، خصوصاً دولة الامارات العربية ومسقط واليمن وماليزيا واندونيسيا ومن دول افريقية عدة. وتحمل تلك البواخر مواد غذائية ومواد بناء وسيارات ومستلزمات اخرى، وتنقل معها من بوصاصو المواشي والبقول والجلود والبخور ومواد أخرى. ويوجد عدد كبير من التجار الصوماليين يعبرون الحدود الاثيوبية من اوغادين بشاحناتهم ويستخدمون الميناء الذي يعمل 24 ساعة في اليوم". علي غلام حسين وآدم دورس محمد باكستانيان يملكان الباخرة "متوكل" التي كانت وصلت حديثاً من عُمان الى الميناء. يقول غلام: "افرغنا حمولة الباخرة وهي 500 طن من السكر والرز. وننتظر الآن لنقل 45 الف رأس من المواشي لحساب احد التجار في ماليزيا". واضاف :"نبحر إلى بوصاصو مرة كل شهرين تقريباً، فالسلطات هنا متعاونة ولم نشهد أي مشكلة منذ ارتيادنا هذا الميناء قبل عامين. والضرائب التي ندفعها الى إدارة الميناء هنا زهيدة ولا تقارن بأي مبلغ ندفعه لدى رسونا في الموانئ الكثيرة التي نأتي منها". مباني الميناء التي كانت خالية قبل سنوات تعج بحركة التجار والعملاء والمسافرين القاصدين إدارة الجمارك او مكتب الهجرة والجوازات، بينما رجال الشرطة يراقبون حركة الميناء من مقرهم المقابل للرصيف. ورافقني خلال جولتي في الميناء مسؤول الشرطة الضابط سعيد آدم الذي قال إن لديه 80 عنصراً من الشرطة لحماية الميناء وضمان الأمن فيه. حركة تصدير المواشي برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة ساعد في إعادة تشغيل الميناء وتطويره، وانشأ مركزاً لصيانة السفن واصلاحها. ويعمل حالياً على تنفيذ مشروع لزيادة عمق المياه قرب الرصيف عبر استخدام آلات ضخمة لإزالة نحو متر من الركام والرمل في قعر الميناء. وعن حركة الاستيراد والتصدير، يقول المسؤول المحلي عن تطوير الميناء في "برنامج التنمية" المهندس عيسى عمر :"استقبل الميناء في العام 2001 ما مجموعه 411 باخرة شحن حملت شحنات تجارية، بينها 17 الف طن من السكر و23 الف طن من الرز و24 الف طن من الطحين و49 الف طن من الاسمنت و15 الف طن من مواد البناء و26 الف طن من وقود الديزل و49 الف طن مواد اخرى. وصدّر الميناء في العام نفسه 177،8 ألف رأس من الجمال، و 248،42 الف رأس من البقر، و549 الف رأس من الاغنام والماعز، و 179 الف طن من الجلود، و16 الف طن من البخور، و78 الف طن مواد أخرى". غداً : الصحافي الايطالي "رجل الاستخبارات الفاشل" وقصة طرد "الاتحاد الاسلامي" من البلدة البحرية. وجهة نظر من "بلاد بونت" في الدور الأميركي... وفي المصالحة الوطنية الصومالية وزير الاعلام السابق في حكومة "بلاد بونت" عوض عشرة احد ابرز السياسيين في شمال شرقي الصومال، تراه في كل المحافل الدولية يسعى الى كسب اكبر قدر ممكن من الاهتمام الدولي بقضية بلاده. شارك في كل مؤتمرات المصالحة الوطنية الرئيسية، ويعرفه جيداً كل المسؤولين المعنيين بأزمة الصومال في كل من اليمن ومصر وكينيا واثيوبيا واميركا وبريطانيا وغيرها. حقيبة عوض يتنقل عوض عشرة بين الولايات الاميركية وكندا واوروبا لحض الصوماليين المهاجرين على المساهمة مالياً في تنفيذ مشاريع تنموية في منطقته. ويحمل معه دائماً حقيبة يد جلدية منتفخة مليئة بالاوراق والوثائق، وأينما التقيته انا، سواء صدفة او بميعاد في نيروبي او اديس ابابا او القاهرة او لندن، يفرغ الحقيبة ذاتها ويعرض امامي خرائط وقصاصات صحف لدعم وجهة نظره في حل ازمة بلاده. التقيت عشرة اخيراً صدفة في أحد شوارع دبي قبل مغادرتي الى بوصاصو، فاصطحبني الى مقهى قريب، وفتح حقيبته قائلاً: "ان الحكومة الانتقالية الحالية في مقديشو برئاسة عبدي قاسم صلاد حسن هشة وزادت من متاعب الصوماليين، وعملت على زعزعة الامن والاستقرار الذي تحقق في بلاد بونت وفي ارض الصومال. إذ استغلت هذه الحكومة المساعدات المالية التي ارسلتها بعض الدول العربية واستخدمتها لتشكيل ميليشيات خاصة بها. وصارت طرفاً في الحرب الاهلية، خصوصاً عندما ارسلت قوات الى مدينة كيسمايو الجنوبية لمساندة فريق ضد آخر". طباعة العملات ويضيف عشرة مدعماً اقواله ببيانات تناولها من حقيبته: "زاد التضخم في مقديشو وتفاقمت الاوضاع الاقتصادية فيها، خصوصاً بعدما تغاضت الحكومة الانتقالية عن طبع كميات كبيرة من العملة الصومالية المزيفة مرات عدة خلال العام الماضي، بل كانت شريكاً اساسياً في عمليات تزويرها، ما أدى الى ارتفاع سعر صرف الدولار في شكل جنوني. ووصل الدولار الواحد الى 14 الف شلن صومالي في مقديشو، في حين ان سعره ثمانية آلاف شلن في بلاد بونت. وزاد ذلك من حال الفساد الذي طاول الحياة الاجتماعية في العاصمة، إذ للمرة الاولى في تاريخ الحرب الاهلية الصومالية تحصل عمليات اغتصاب من قبل صوماليين لنساء صوماليات في المدينة". ويعتقد عشرة بأن "الحل يكمن في لقاء الاعيان واتخاذ قرار نزع السلاح واجراء مصالحة وطنية استناداً الى التقاليد الصومالية". ويشدد على ضرورة عقد هذه المصالحة في مؤتمر "داخل البلد وليس خارجه، وذلك بعد تهيئة الاجواء الملائمة بين كل الفصائل". ويضيف: "لكن هذه العملية لا تكتمل من دون حصول مشاورات بين الولاياتالمتحدة وكل الدول التي تساند مختلف الفصائل، وتحديداً كل من اثيوبياوجيبوتي ومصر وكينيا واليمن وايطاليا. خصوصاً ان كل هذه الدول كانت السبب في فشل الاممالمتحدة في الصومال بعدما عارضت وجهة النظر الاميركية التي دعت في 1993 الى نزع سلاح الميليشيات". ماذا يريد الاميركيون؟ لكن في الوقت نفسه، يعتقد عشرة بأن "للاميركيين حساباتهم الخاصة، فشركاتهم النفطية وتحديداً شركة شيفرون، كانت وقعت عقوداً للتنقيب عن النفط واستخراجه مع آخر حكومة في عهد محمد سياد بري، وهذه العقود ما زالت سارية". ويتابع: "ايقن الاميركيون انهم اخطأوا في السودان، فلم يتجاوبوا مع طلب حكومة الرئيس عمر البشير لإعادة تفعيل اتفاقات شيفرون نفسها التي كانت اكتشفت النفط في جنوب السودان وبدأت التنقيب عنه قبل تصاعد الحرب هناك. وعندما أتى البشير بشركات نفطية ماليزية وكندية وصينية، شعر الاميركيون بالندم وأدركوا خطأهم. واعتقد بأنهم لن يسمحوا لأحد غيرهم بالسيطرة على نفط الصومال، خصوصاً ان لدى شيفرون عقوداً سارية بحسب القانون الدولي... لكن على الاميركيين ان يحترموا التقاليد الصومالية ويتفهموا التركيبة الاجتماعية في هذا البلد، وان يشجعوا المناطق التي تشهد استقراراً نسبياً عبر تقديم المساعدات لها". وهل يعني ذلك ان البوارج الاميركية الراسية في المحيط الهندي لا تراقب فقط احتمال لجوء عناصر من تنظيم "القاعدة" الذي يتزعمه اسامة بن لادن الى الصومال، وانما تسعى الى اهداف اخرى؟ لا يجيب عشرة على السؤال، ويكتفي بالقول: "اليس الجواب واضحاً؟".