العنوان الذي اختاره الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي لمجموعته الجديدة "زهر الرمان"، دار الآداب، لا يرد في أي من عناوين القصائد الثلاث عشرة التي تضمها المجموعة كما جرت العادة لدى الشعراء. لذلك فإن الشاعر، منعاً للَّبس أو رغبة في الايضاح يثبت على الغلاف الأخير ما يفيد أن زهر الرمان يأخذ من الموت لونه المسفوك بقدر ما يأخذ من الحياة معنى الاثمار ذاته. كأنه بذلك لا يقدم خلاصة لمعنى عمله الشعري وحده بل لمعنى الشعر بوجه عام ولهوية الكتابة التي تتأرجح بين غروب الحياة وشروقها وبين شرارة الأمل وبراثن الموت. والقارئ نفسه لا يبذل كبير جهد لكي يرى ظلال هذا التأرجح بأم العين. ففي القصيدة الثانية "العودات الثلاث" ما يجعل السروة بدورها انعكاساً مزدوج الدلالة لتعاقب الحضور والغياب في صورة الكائن الحي، انساناً كان أم شجرة: "ثمة أشجار ثمارها الوحيدة فطرتها/ أمس في سروري المباغت/ رأيت خلودها العالي/ اليوم في حزني المباغت/ رأيت الفأس". والحقيقة ان الشعر الفلسطيني برمته، ومعه الجزء الأكبر من الشعر العربي، بات محكوماً بنوع من الالتباس الذي يجعل الشاعر ممزقاً بين الانتساب الى فضاء الكتابة الخالصة وصوت الشعر المجرد وبين الاصغاء الى ترجيع المذابح المتواصلة وأصداء التواريخ المثقلة بالرعب والأنين ودماء الشهداء. وفي كنف تلك المعادلة الصعبة حاول مريد البرغوثي مسلحاً بالقلق ورغبة التميز والتجاوز أن ينأى بقصيدته عن الخطابة والهتاف المباشر وسطوة الشعارات. والشاعر لم يتنكب هذه المهمة الصعبة والمريرة في الشعر وحده بل عمل في كتابه اللافت والمؤثر "رأيت رام الله" على تقديم تجربة باهرة يصل من خلالها السرد الى تخومه القصوى، لا بل يتقدم أحياناً على الشعر في ما يمتلكه من رشاقة وطواعية وتخفف من قيود الوزن وأثقاله. على أن ما يميز تجربة البرغوثي في الحالين هو ذلك القلق المقيم في داخله وتلك الرغبة المضنية في تجاوز جاهزية الموضوع وسطوته وإلحاحه. ان مهمة كهذه ليست سهلة على الشاعر الفلسطيني الذي يجد نفسه مشدوداً الى شرك القضية و"الالتزام" كلما حاول سبيلاً الى الانعتاق، على ان البرغوثي، وبخاصة في أعماله الأخيرة، يهيئ لنفسه أسباب النجاة من المأزق وينعطف بموضوعه نحو مشهدية محقونة بأمصال اليومي والأليف والقابل للتحسس. ما يهيئ لهذه التجربة أسباب النجاح هو ابتعاد الشاعر من التوشية والتهويل والمعادلات الذهنية الصرفة بقدر ابتعادها من الانشاء الجاهز والبلاغة الاحتفالية والتطريب المجاني. وإذا كان الشاعر في "زهر الرمان" تحلل من قيود الوزن في الكثير من القصائد مؤثراً الاقتراب من قصيدة النثر بما تتيحه أمام التعبير من غنى ورحابة، فما ذلك الا ليفيد الى أبعد الحدود من العبارة المهموسة والبوح الخافت والتصادي العميق مع المعنى المراد. ذلك ان النثر هنا يمكنه من تحويل القصيدة الى لوحة غنية بالدلالات والمعاني المضمرة ويشرع أمامه طريق الايحاء والمساررة والتقشف البلاغي، كما في قصيدة "مملكة الرمل" التي تتحول فيها الحرب الى لعبة أطفال كما تتحول الهزائم والانتصارات الى قلاع من الرمل سرعان ما تجرفها المياه: "بمجاريف صغيرة ودلاء من البلاستيك/ الأطفال ذوو الملابس الضاحكة/ يبنون قلاعاً متينة من الرمل...". قصائد "زهر الرمان" بمجملها تميل الى القصر والاختزال باستثناء قصيدة طويلة واحدة بعنوان "الى أين تذهب في مثل ليل كهذا؟"، التي تختلف من حيث البنية والتركيب والنفس عن سائر قصائد الديوان. فمعظم القصائد تنبني حول مشهد معين أو فكرة واحدة وتنأى بنفسها عن الانشاد الحماسي والافاضة الرخوة، وان كان الشاعر لا يغادر غنائيته المسلحة بالوزن والقافية في الكثير من الأماكن. وإذا كنا نجد لدى الشاعر تنوعاً واضحاً في العصب ومساحة التوتر ونسق الايقاع فإن ذلك التنوع لا يحجب بأي حال العناصر المشتركة التي تجمع بين النصوص وتضمها في هوية أو نسب. في مقدم هذه العناصر تأتي اللغة نفسها بما هي مزيج من المهارة والتلقائية. فالبرغوثي يعتني أشد العناية بقاموسه اللغوي والتعبيري ويبذل جهداً واضحاً في انتقاء مفرداته وفي التزويج بينها من دون ان يفرط في التوشية أو النمنمة. ولعل الجذر الغنائي الذي يقبع في أعماق الشاعر وصلب موهبته، اضافة الى حرارة الموضوع والتصاقه الحميم بروح صاحبه يمنعان النصوص من الاغراق في الجمالية المحضة أو الهندسة الخالصة ويسهلان أمام المعنى طريق الافصاح والكشف. ان قدرة البرغوثي على ايصال رسائله المبثوثة الى المتلقي ترتبط الى حد كبير بلغته المحسوسة والقابلة دائماً للتجسد في صورة أو مشهد. فهو يحرص على أن يدخل في صميم الشعر ما يمكن أن يشي للوهلة الأولى بنثريته الظاهرة ولا يجد حرجاً في استخدام كلمات وتعابير من مثل: المجاريف ودلاء البلاستيك والمخدة المضغوطة والسجادة ومجلس الوزراء والمستشارين السعداء. على ان هذه المفردات ما إن تدخل في نسيج الكتابة حتى تغادر نثريتها وتكتسب الكثير من لمعان الشعر وبريقه. التشبيهات بدورها تنطلق من الصورة الحسية والتمظهر المشهدي الملموس، لكنها تدخل في معادلات جديدة وبعيدة من التداول بما يمنحها القدرة على المفاجأة والادهاش، "فالزغاريد تذرو الأشباح كنخالةٍ هاربة"، و"تحيط بكرسيها العالي كقطط رضيعة" والأنين "زفاف يفضي الى القيامة" والغد "معلق كإكليل الثوم على مسمار هائل". مع مثل هذه الصور لا يعود التشبيه قائماً، كما رأى البلاغيون القدماء، في أدنى سلَّم البلاغة بل يأخذ بناصيتها نحو أعلى قمم التخيل وأكثرها قدرة على الادهاش. والبرغوثي من هذه الناحية يتمم الدور الذي لعبه محمد الماغوط في اخراج التشبيه من دونيته واطلاقه بعيداً في الكتابة. في قصائد البرغوثي انتصار واضح للعين بما هي حاسة للبصر من جهة ولحراك المرئي وتداخله مع المسموع من جهة أخرى. على ان العين لا تثبت هنا في فوتوغرافية جامدة أو اطار ساكن بل ان لعبة السرد التي يتقنها الشاعر تعمل على انتشال المشهد من رتابته أو جموده لتنقله كالكاميرا المتجولة من حال الى حال أو تحوله الى شريط سينمائي قصير وحافل بالأطياف، كما في تصوير عودة الأسير من الأسر: "شال أمه يكاد في الرقصة يفلت من يديها الطائرتين/ أغنيتها ترفع السقف أمتاراً...". هذه الميزة لدى الشاعر لا تنحصر في قصائد النثر وحدها بل هي تنسحب من الآن ذاته على القصائد الموزونة التي تصعِّب على الشعراء في العادة القدرة على المناورة المشهدية والحراك المسرحي. فالبرغوثي يمتلك ليونة لافتة في استخدام الأوزان وتطويعها لمقتضيات التنوع السردي والصوتي، كما ان الايقاع عنده لا يقلل من رشاقة السرد ولا يقف حائلاً دون تفتُّحه وانسيابه. فقصيدته "ليلة لا تشبه الليل"، المكتوبة عن محمد الدرة، يتحول الى حكاية قصيرة عن الصبي الشهيد الذي يعود في الليل ليتفقد أهله وذويه ويطمئن الى مخدته وسرير نومه والى أبيه الذي يتناول "حبة الضغط" في شكل دوري. أما قصيدة "الى أين تذهب في مثل ليلٍ كهذا؟" الطويلة، والتي تحتل ثلث مساحة المجموعة، فهي تنجح في تجاوز الامتحان الصعب الناجم عن طولها الملحوظ على رغم ما يتهدد مثل هذه القصائد في العادة من مشكلات الرتابة والحشو والنمطية المملة. ولم يكن ذلك النجاح ليتوافر بالطبع لو لم يهيئ الشاعر لقصيدته كل العناصر اللازمة بدءاً من الشحن العاطفي الغلياني مروراً بالثراء اللغوي وتواتر الصور والأخيلة والمشاهد وانتهاء بتكرار المفاتيح التعبيرية والصوتية التي أتاحت للقصيدة فرص التجوال والتنقل بين حدي الحياة والموت الفلسطينيين. ولعل ما أعطى القصيدة الكثير من حيوتها ودفقها وقدرتها على التأثير هو تحويل الموت نفسه الى مخاطب دائم والتعامل معه بصفته طرفاً في الصراع ولاعباً أساساً في حلبة المواجهة بين اللاعبين. والشاعر في تقمصه الطفولة المغدورة يضع الموت نفسه في قفص الاتهام ويتحول هو بدوره الى شاهد اثبات على خيانة الموت وشراسته وقلة وفائه. لم يعد الموت في القصيدة مجرد موت محايد أو نزيه. وهو ليس نقطة الختام التي تجيء في آخر السطر بل هو ذلك اللص الذي يسرق الأعمار في ريعانها أو عند بداياتها والمجرم الذي يزهق غيلة روح الطفولة البريئة، فيما يتحول الشعر الى صرخة مدوية من أجل الحياة.