لا تستطيع القوى الصغرى رسم استراتيجيات كبيرة، فهذه تحتكرها القوى الكبرى. وبحسب ونستون تشرشل، تحتاج الاستراتيجية الكبرى الى أربع ركائز اساسية هي: السياسة، الاقتصاد، العامل السيكولوجي، وأخيراً البعد العسكري. ويقوم البعد العسكري على ثلاثة مستويات: استراتيجية، عملانية، وتكتيكية، تضاف إليها مكونات مضاعفة هي: الاستعلام، العلم، عمليات الخداع ومن ثم التكنولوجيا. لكن الاستراتيجية الكبرى بحاجة الى: سياسة واضحة ومحددة تجاه الأهداف الكبرى، وهي بحاجة الى قيادة واعية، تستطيع تكوين المعادلة السحرية لمزج هذا الخليط المعقّد بهدف الوصول الى تحقيق الأهداف. فتبرز الديبلوماسية هنا كوسيلة ناجعة ضرورية في يد القيادة اي قيادة، لأنها تسعى في زمني السلم والحرب الى تحسين موقع الدولة، كسب الأصدقاء، تقليل عدد الأعداء، واستمالة الدول المحايدة. وكل هذا تحضيراً لأي طارئ تتعرض له هذه الأمة. إذاً هناك استراتيجية كبرى لزمن السلم، وهي الأطول. كذلك الأمر، هناك استراتيجية كبرى لزمن الحرب، ويجب عليها التقيد عند التنفيذ بصوابية الاستراتيجية السلميّة. لا يبدو حتى الآن، ان للرئيس جورج بوش استراتيجية سلمية مقبولة لمرحلة ما بعد 11 ايلول سبتمبر. فهو اتبع ديبلوماسية التخلي عن الأصدقاء الدائمين كأوروبا والتفرّد، عندما رفض كل الاتفاقات التي تضبط الساحة العالمية ونظامها الدولي، كما اتبع ايضاً ديبلوماسية حشر القوى المحايدة من كل الأوزان في الزاوية. وصرّح في هذا المجال ريتشارد بيرل، مستشار الرئيس بوش للشؤون الأمنية خلال مؤتمر ميونيخ للأمن العالمي، ان الولاياتالمتحدة اصبحت مستعدة اكثر من اي وقت مضى للمضي وحيدة في حربها ضد من تراه خطراً عليها. كما قال وفي المؤتمر نفسه، امين عام الحلف الأطلسي جورج روبرتسون: ان على اوروبا، وإذا ما أرادت ان تؤثر على قرارات واشنطن ومشاركتها، ان تحسّن امكاناتها العسكرية. ماذا فعل الرئيس بوش؟ - ضرب الاتفاقات الدولية الضرورية لقيام واستقرار اي نظام دولي. فهذه الاتفاقات هي التي تنزع فتائل التفجير عادة بين المتخاصمين، خصوصاً إذا ما كانوا من الحجم الثقيل. - همّش الأصدقاء الأوروبيين في كل قراراته الاستراتيجية. - حشر الصين عندما سمّاها بالمنافس الاستراتيجي. - ألغى معاهدة الأي بي ام مع موسكو من طرف واحد، الأمر الذي اثار حفيظة اوروبا، روسياوالصين. وكي لا يفتح باب سباق التسلح النووي، قرّر خزن الصواريخ العابرة بدل تدميرها. - وأخيراً وليس آخراً، اطلق تسمية "محور الشر" على كل من ايران، العراق، وكوريا الشمالية. باختصار، تبدو ملامح الاستراتيجية السلمية الكبرى للولايات المتحدة على الشكل الآتي: 1- اعتماد، للمرة الأولى في تاريخ اميركا استراتيجية الضربات الوقائية. فهي ردّت على اعتداء بيرل هاربر، كما ردّت على 11 ايلول، كذلك الأمر ضربت ليبيا عام 1986. لكن الأمر يختلف الآن حسب ما قال وزير الدفاع دونالد رامسفيلد: "ان تهديدات القرن 21 تحتم اخذ الحرب الى أرض العدو...". 2- ضخ المزيد من المال على الآلة العسكرية الأميركية، وعلى وكالات الاستخبارات، في ظل عجز اي فريق آخر عن المجاراة. فموازنة البنتاغون تقدّر حتى الآن ب335 بليون دولار، في الوقت الذي يبلغ مجموع الموازنات العسكرية الأوروبية 140 بليون دولار. وروسيا حوالى 10 بلايين دولار. 3- وبهدف الاستباق، يعمد البنتاغون الى التعديل في تسليح وتدريب وتنظيم قواه في الأبعاد الأربعة البر، البحر، الجو، والفضاء. 4- التركيز بعد النصر، او نصف النصر في افغانستان، على موضوع اسلحة الدمار الشامل في كل انواعها. فقد اثبتت ضربة 11 ايلول معطوبية الأرض الأميركية. كما أظهرت كُره العالم لواشنطن واستعداد الكثير من القوى لضربها بعنف إذا ما توافرت الظروف. كذلك الأمر، اظهرت رسائل الانثراكس مدى الرعب الممكن زرعه في المجتمع الأميركي الذي يقوم على الانفتاح الكامل. لذلك يمكن وضع ما قاله رئيس ال"سي آي ايه" جورج تينيت خلال جلسة الاستماع في الكونغرس عن اسلحة الدمار الشامل، في اطار هذه التهديدات. يبدو وضع كوريا الشمالية في "محور الشر" مبرراً من الجهة الأميركية، فهي التي قاتلت الجيش الأميركي عام 1952، وأنزلت به اكثر من 350 ألف قتيل بعد تدخل الصين، وهي التي تهدد الآن حوالى 350 ألف جندي اميركي موجودين في الجنوب. كذلك الأمر، هي الدولة المارقة التي تهدد الأصدقاء فتطلق الصواريخ قرب الشواطئ اليابانية، وهي الدولة التي تؤمّن التكنولوجيا المتقدمة في صناعة الصواريخ لكل اعداء اسرائيل وأميركا، وأخيراً وليس آخراً، هي البلد الوحيد الذي يعتمد النظام المغلق الذي يناقض مفاهيم العولمة وقيم اميركا. ويبدو ايضاً وضع العراق في "محور الشر" مبرراً، فهو الذي اجتاح الأصدقاء ولا يزال يهددهم حتى الآن. وهو الذي يسعى الى اسلحة الدمار الشامل بعد ان طرد المفتشين الدوليين. وهو الذي أطلق على إسرائيل للمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي صواريخ طالت عمقها ومدنها الرئيسة. وهو البلد الذي يستعمل الأصلحة البيولوجية ضد شعبه الخاص، وأخيراً وليس آخراً، يبقى العراق البلد الذي تحدى واشنطن واستمر نظامه مع صدام حسين بعد هزيمته عام 1991. لكن يبدو مستغرباً إقحام ايران في هذا المحور، بعد ان تم تجاوز ازمة السفارة، خصوصاً ان المصالح المشتركة بين البلدين كثيرة في المنطقة. فانتقدت مادلين اولبرايت قرار الرئيس بوش عندما قالت انه غلطة كبيرة، كذلك الأمر حاول وزير الخارجية البريطاني جاك سترو ربط الخطاب بالوضع الانتخابي الأميركي الداخلي، ونفت كوندوليزا رايس ذلك. هل الحرب مع ايران اصبحت على الأبواب؟ المنطق يقول: لا. لكن لماذا ايران؟ هل لأنها ساعدت الحملة الأميركية على طالبان، أو لأنها ساعدت في تشكيل الحكومة الانتقالية في مؤتمر بون، أو لأنها فتحت سفارتها في كابول، أو لأنها ضغطت على حلفائها للتعاون مع كارزاي، او لأن آية الله خامنئي اعلن رغبة ايران برؤية افغانستان مستقرة، أو لأنها تريد وقف تدفق المخدرات إليها من افغانستان، ومنها الى اوروبا وأميركا، أو لأن إيران وعلى رغم نظامها الديني، اقدمت على التجربة الديموقراطية من خلال اجراء انتخابات؟ ويتذكر البعض كيف عمل الأميركيون عام 1953 على ضرب الديموقراطية بإسقاط نظام مصدّق وإعادة النظام الديكتاتوري مع الشاه. ان سبب وضع ايران ضمن "محور الشر" يندرج ضمن الاستراتيجية الوقائية. فواشنطن تريد وضع طهران في موقع المدافع. فهي تتمتع بأهمية استراتيجية اقليمية باتجاهين: الأول خليجي، والثاني قزويني. وهي مجاورة للحرب الأميركية في افغانستان وهي مؤثرة ايضاً في رؤيتها الإسلامية، وباعها طويل. فهي وصلت الى الجنوب اللبناني، وتتهم بأنها عامل اساس في تسليح انتفاضة الأقصى. كما ان لديها طموحات اقليمية تريد تطويرها عبر محاولاتها الحصول على السلاح النووي. ويقول البعض جيروزالم بوست - في 6 شباط ان الملك الأردني عبدالله زوّد الإدارة الأميركية بمعلومات عن تورّط ايران في مساعدة الفلسطينيين لإطلاق الصواريخ على إسرائيل من داخل الأردن، لأن إطلاق الصواريخ من لبنان اصبح معطلاً وينذر بحرب مع سورية. ما المقصود إذاً من هذه الحملة على إيران؟ المقصود هو تثبيت ايران وتحييدها بهدف ضرب العراق لاحقاً. والمقصود ايضاً ضرب التقارب العراقي - الإيراني. وقد يكون المقصود من الجهة الأميركية، تبرير الموازنة العسكرية الضخمة عبر التفتيش عن "عدو"، أي عدو، الأمر الذي يؤدي لاحقاً الى تحريك الاقتصاد الأميركي. ما هي مؤشرات الحملة العسكرية على العراق؟ - سعي الولاياتالمتحدة الى تكوين القضية ضد العراق CASUS BELLI. فهي ستسعى الى احياء فرق التفتيش، وتطبيق مبدأ العقوبات الذكية الأمر الذي يقنع الأصدقاء، كما الأعداء، بأن واشنطن استنفدت كل الوسائل الديبلوماسية قبل المباشرة بالعمل العسكري. - استعداد الرئيس صدام حسين لبدء الحوار مع الأممالمتحدة من دون شروط مسبقة، وكأنه استشعر قدوم الخطر. - رد كوفي انان الجاف والمبسط على الطلب العراقي، بأنه سوف يراجع روزنامته. - زيارات زعماء اسرائيل الى اميركا رئيس الوزراء ووزير الدفاع لعزل ايران. - استعداد واشنطن لإبلاغ تل ابيب مسبقاً عن البدء بالعمليات العسكرية ضد العراق، كي تستعد لأي خطر محتمل. وقد تُنشأ لهذا الأمر غرفة عمليات مشتركة. - زيارة بعثة من البنتاغون لتل ابيب برئاسة مساعد وزير الدفاع الأميركي دوغ فيث لإحياء اللجنة الدفاعية المشتركة التي لم تجتمع منذ العام 2000. - المحاولات الأميركية لاستيعاب الوضع الفلسطيني عبر اعادة تعويم الرئيس ياسر عرفات عقب زيارة شارون لواشنطن. فموقف الرئيس الأميركي من عرفات معروف. - المناورات الجوية المشتركة المقررة بين اميركا وإسرائيل وتركيا تحت اسم النسر الأناضولي نيسان، تشترك فيه 30 طائرة من كل بلد والهدف منها رفع مستوى الجهوزية، وتطوير التعاون الجوي المشترك. - زيارة نائب الرئيس ديك تشيني لتسع دول في المنطقة، كلها معنيّة مباشرة بالمسألة العراقية. - قيام الولاياتالمتحدة بتوقيع عقود مع دول آسيا الوسطى لاستئجار قواعد عسكرية تجنباً لإحراج الخليج في حال الحرب مع العراق. يضاف الى هذا استئجار البنتاغون قواعد بحرية وجوية عسكرية في بحر العرب والصومال. هل الحرب قريبة؟ ليس سهلاً التكهن في توقيت الضربة العسكرية، ولكنها ليست قريبة كما يتوقع البعض. فهي بحاجة الى تحضير الشق الديبلوماسي خصوصاً البعد العربي - الإسلامي. كما انها تتطلب تكوين القضية كما ذكرنا انفاً. وأخيراً يبقى في من سينفذ؟ فهل ستكون الضربة اميركية صرفة، ام مشتركة مع الأوروبيين؟ والأكيد ان العرب لن يكونوا فيها إلا في موقفهم السياسي السلبي. هل يمكن فعل شيء؟ بالطبع، القمة العربية قريبة، وهي اكبر وأهم تجمع عربي سياسي، وهي المرجعية العربية الأعلى والأهم. فهل يصدر عنها الدخان الأبيض؟ فلننتظر. * كاتب لبناني، عميد ركن متقاعد.