كانت فاطمة شاهين وال، البالغة من العمر ستة وعشرين عاماً، جالسة مع امها وأختيها. لقد جاءت لتودعهن، فهي ستسافر الى كينيا في مهمة دراسية. منذ فترة لم تكن التقت أياً من افراد أسرتها لهذا هي سعيدة الآن. والسعادة التي ملأت الجو هي التي دفعت بها الى النهوض لفتح الباب. لقد دقّ احدهم الجرس. وحين فتحت فاطمة الباب وجدت نفسها وجهاً لوجه امام والدها. لم تستغرق المواجهة اكثر من ثوان فقد صوّب الوالد مسدساً كان في يده الى وجه فاطمة وأطلق النار. هشمت الرصاصة وجه فاطمة وتناثر الدم امام الباب واستقر بعضه على وجه الوالد وصدره. رصاصة ثانية، فثالثة، في جسد فاطمة الممدد على العتبة، اما روحها فكانت ارتفعت الى السماء. العويل الذي أطلقته الأم والأختان لم ينقذ فاطمة من الموت. اما الوالد فقد مضى ليسلم نفسه للشرطة السويدية قائلاً في نبرة واثقة انه غسل العار الذي لحق به وأنقذ شرف العائلة. ماذا حصل لشرف العائلة وأي عار كان لحق بالأب؟ كانت فاطمة رفضت الانصياع لقرار تزويجها، رغماً عنها، لأحد اقربائها من اكراد تركيا واختارت بدلاً من ذلك، شاباً سويدياً أحبته وأحبها. وإذ رفض الوالد ذلك تركت فاطمة البيت وقررت العيش بعيداً من الأهل. عاشت مع حبيبها أولاً، ثم حين مات الحبيب، في حادث سير، واصلت العيش وحيدة، بعيدة من انظار الأهل. لم يغفر الوالد لفاطمة ابداً. وهو هدد، اكثرمن مرة، بقتلها ان هو قدر على الإمساك بها. كانت فاطمة، قبل موتها، واجهت والدها، وأخاها الذي تكاتف مع الوالد، واشتكت امرهما الى السلطات السويدية. وقد تحولت القضية الى رمز لنهوض الفتيات الشرقيات، في المجتمع السويدي، ممن يعانين من ضغوط الأهل لإجبارهن على الزواج من اشخاص يختارونهم من دون معرفة الفتيات ورغبتهن. ووقفت مع فاطمة شريحة واسعة من بنات جنسها وكذلك من المجتمع السويدي، واعتبرها كثيرون ناشطة شجاعة في سبيل رفع الحيف عن الفتيات اللواتي تلاحقهن العادات والتقاليد التي جلبها الأهل معهم من بلاد يخنقها ميراث من البطش والغصب والاستعلاء بحق نصف المجتمع. أحدث قتل فاطمة صدمة في المجتمع السويدي، وما لبث الأمر ان انتقل الى البلدان الاسكندينافية المجاورة، كالدنمارك والنروج. ودق الجميع جرس الإنذار. لم تكن حال فاطمة شيئاً استثنائياً، فقد سبق ان وقعت جرائم "غسل العار"، إلا ان المشهد المروّع لسفك دم ابنة شابة على يد والدها كان اكثر من ان تتحمله حساسية الناس هنا. عمّت حال من الحزن والذهول الجميع، وانهمرت الدموع من عيون الكثيرين. كانت وزيرة الاندماج السويدي، منى سالين، واحدة من هؤلاء. وهي جعلت من قضية فاطمة والدفاع عن حريتها مهمة شخصية. واعتبر كثيرون ان الكأس قد طفح وأنه لا بد من وضع حد للمأساة. وصرخ سويديون ونروجيون: noker nok، "لحد هنا وبسْ". فمقتل فاطمة لم ينه المسألة بل انه، ربما، كشف عن عمقها وهولها. وخرجت فتيات الى السطح، من اماكن اختبائهن السرية وشرعن يروين مآسيهن. فهن، في واقع الحال، مشاريع للقتل في كل لحظة. وفي النروج بدأ الناس في التطلع حواليهم. إن السويد ليست بعيدة، ومن يقتل في السويد يقتل هنا ايضاً. "كان يمكن ان أكون أنا القتيلة"، قالت ليلى التي طلبت عدم الإفصاح عن كامل اسمها. وهي روت للصحافة كيف انها اضطرت الى الهرب من بيت اهلها حين طلب منها والدها الزواج من ابن عمها. "لقد دب الخوف في نفسي حين سمعتُ نبأ مقتل فاطمة. إنه امر مرعب ان تقتل على يد من هم اهلك". وليلى، الكردية من تركيا تشعر بنفسها مهددة في كل لحظة. والناس الذين يحيطون بوالدها لا يكفون عن التحريض. لقد اعرب كثيرون عن غبطتهم ازاء ما حصل لفاطمة. فهي تستحق، في رأيهم، الموت. وتروي الفتاة الإيرانية "سمرا" حالها فلا تختلف عن حال غيرها ممن تلاحقهن لعنة الأهل والتقاليد. لقد احبت شاباً نروجياً وأرادت ان تعيش بالشكل الذي تشعر فيه بحريتها، إلا ان اخاها اعتبر ذلك اهانة. ولم يمر زمن طويل حتى حمل الأخ سكيناً واقتحم منزل اخته ساعياً الى قتلها. اسرع زوج الفتاة، الشاب النروجي لإنقاذ زوجته فتلقى الطعنة في احشائه ومات. "لم يكن اخي من الطراز الذي يقتل. لم يكن شريراً أو مجرماً. لكن الناس حرضوه وغسلوا دماغه" تقول سمرا. اما المغربية نادية فاستطاعت الإفلات من قبضة الأهل ومضت، هي الأخرى، تعيش متخفية، وكان اهلها "اختطفوها" وأخذوها عنوة الى المغرب لتزويجها من احد أقاربها. تمكنت نادية من الاتصال بالسفارة النروجية في المغرب، وهؤلاء طالبوا الأهل بإعادتها الى النروج. رافق احد افراد السفارة النروجية نادية التي تحررت من الأسر واشتكت امرها الى السلطات النروجية ثم قررت ان تعيش بعيداً من الأهل. وهي مضت، بدورها، الى رفع الصوت من اجل وضع حد لحالات التعسف والإكراه التي تحدث للفتيات الشرقيات. "لقد ماتت فاطمة، فقدنا "مقاتلة" جريئة في المنازلة الصعبة التي نخوضها. لكننا لن نستسلم" تقول نادية. والتحقت بها فتيات وضعن أفكاراً وتصورات عن سبل رفع المظالم عن كاهل الفتيات. وتضمّ الباكستانية افشان رفيق، وهي عضو في البرلمان النروجي، صوتها الى صوت رفيقاتها وتطالب السلطات النروجية بالإسراع للحيلولة دون وقوع جرائم قتل اخرى: "ينبغي ان نكف عن اخفاء المشكلة تحت الدرج. الأمر اشبه بقنابل موقوتة يمكن ان تنفجر في أي لحظة". صدى دوي الطلقات التي قتلت فاطمة شاهين دال مازال يتردد. والذهول الذي خيّم على النفوس يتحول شيئاً فشيئاً الى سؤال كبير يتعلق بالجذور العميقة للمشكلة. والنروجيون، مثلهم مثل السويديين والدنماركيين، مابرحوا يتساءلون، حائرين، عن السبل التي من شأنها ان توقف مسلسل القتل والضرب والملاحقة وفرض نمط قاس من العيش، الذي ما انفك جارياً بين المهاجرين واللاجئين الآتين من بلدان آسيوية وافريقية. وتحاول المنظمات غير الحكومية، جنباً الى جنب المسؤولين الحكوميين، بذل جهودها بحثاً عن طرق سليمة تكفل العثور على حلول معقولة. "اتصل بنا في العالم الماضي 159 شخصاً من الفتيان والفتيات الذين لا تتجاوز اعمارهم خمسة عشر عاماً. جميعهم يعيش حال خوف بسبب ضغط الأهل عليهم للزواج من دون رغبة منهم ومن اشخاص لا يريدونهم". تقول ماريانا هسلسكاوغ، المشرفة على مركز الطوارئ في الصليب الأحمر. ويبحث هؤلاء الفتية عن طرق للخلاص مما هم فيه. ففي النروج يمنع القانون الزواج قبل سن الثامنة عشرة، كما انه يمنع الزواج الإجباري. وتقول ماريانا ان عشرة في المئة من المتصلين بالمركز اكدوا تعرضهم للعنف. وأكثر هؤلاء ينتمي الى بلدان مثل باكستانوتركيا والعراق وإيران والصومال والمغرب. انهم يسعون الى تجنب الزواج الذي يُفرض عليهم عنوة. وتشكو ماريانا من تقاعس الحكومة النروجية عن القيام بواجباتها في شأن الوقوف موقفاً حازماً ازاء تصرفات الأهل من المهاجرين اللاجئين. وتدعو ماريانا الى فتح حوار مع الأهل بغية تبادل وجهة النظر في شؤون الأبناء وطرق البحث عن حلول معقولة للمشكلات التي تنشأ هنا وهناك، ويبدو ان تقاعس المسؤولين الحكوميين ناتج عن الشعور بالخوف من ان يتهموا بالعنصرية إذا حاولوا مقاربة مشكلات ذات صلة بأصول مهاجرة. لكن افشان رفيق لا تشاطر هؤلاء المسؤولين موقفهم المتردد وتدعو الى اتباع سلوك حازم وعدم التردد في اخضاع اولئك الذين يعاملون ابناءهم بالقسوة للمحاسبة. فالمناخ الذي ادى الى مقتل فاطمة شاهين وال، في السويد، يتكرس اكثر فأكثر في النروج ايضاً، وفي العام الماضي كان هناك 23 شخصاً مهددين بالقتل. حادث قتل فاطمة شاهين وال، وكذلك ما سبقه من حوادث قتل مشابهة قتلت فتاة كردية اخرى، تدعى هناء، في العام الماضي بدواعي الدفاع عن الشرف، فضلاً عن حوادث التعذيب وممارسة العنف والإجبار على الزواج، كل هذا فتح باب السجال واسعاً امام فئات الناس جميعاً. وتوجهت الأنظار كثيراً نحو رجال الدين المسلمين للقيام بدور فاعل في المسألة. وطلب من هؤلاء اظهار الوجه المتسامح السلمي للدين الذي ينبذ العنف والإكراه. ونشأ في هذه المعمعة جدال بين طرفين، يرى الأول ان الدين نفسه يخلق الفضاء الذي يسمح بمعاملة المرأة معاملة صارمة والنظر إليها كعار ينبغي الحذر منه، فيما يرى الثاني ان الأمر يتعلق بعادات وتقاليد بالية للشعوب والأعراق ذات العلاقة ولا علاقة لهذا الأمر بالدين. وقال رئيس اساقفة النروج ان قتل النساء دفاعاً عمّا يسمى الشرف هو اكبر لطخة للشرف الإنساني. فليس من شيء قط يبرر قتل الإنسان، اي انسان، بسبب ميوله ورغباته وبحثه عن حريته. فيما تؤكد بيريت توربيون سرود، في المدرسة العليا في أوسلو، ان الأمر يتعلق بموروثات قائمة في المجتمعات وما زال الخلاص منها يتطلب وقتاً. وهي ترى ان المسألة لا تنحصر في المجتمعات الإسلامية، فهناك جماعات هندوسية ومسيحية تعامل النساء بالقدر نفسه من العنف والاحتقار. فالشيء يتعلق بقيم راسخة وتقاليد تعمقت في الأذهان ترى ان المرأة كائن مهيأ لارتكاب الخطيئة وجرّ العار. وأساس المشكلة يكمن في المنظور الأخلاقي - الجنسي للنساء. فالرجل يرى انه يملك المرأة سواء كانت زوجته او ابنته وأن من حقه ان يحاسبها على سلوكها لأن سلوكها يؤثر في العائلة كلها بل في القوم كله. اما وزير العدل النروجي اود اينار دورم فيرى ان ممارسة العنف ضد اي امرأة او اي شخص هي ممارسة للعنف ضد المجتمع كله، وهو يحذّر من ان ترك الحبل على الغارب والسكوت عما يجري باسم الشرف وما شابه، من شأنه ان يكرّس سلوكاً عنفياً ويؤدي الى انتشار نوازع الجريمة بشكل فادح. لهذا فإنه يدعو الى اخضاع الجميع للقانون وعدم التغاضي عن الممارسات الشاذة التي تتم بذريعة الانتماء الى ثقافة اخرى او دين آخر. قالت وزيرة الاندماج السويدية منى ساهلين انها تشعر بالجبن لأنها أغمضت عينيها ولم تعالج موضوع فاطمة وال بحزم وجرأة. الحزم والجرأة: الكلمتان الأكثر تداولاً اليوم في السويد والنروج ازاء تفشي ظاهرة العنف التي تمارسها الجماعات المهاجرة ازاء الأبناء خصوصاً الفتيات.