في خيمة عربية نُصبت، على عجل، في ضاحية استوكهولم، عاصمة السويد، تصدح موسيقى شرقية تتمايل، على انغامها، اجساد مجموعة من الشبان والشابات اجتمعوا للاحتفال معاً. هي حفلة عرس لشاب سرياني من مدينة القامشلي السورية. وقد دعا الى حفلته اصدقاءه وأصحابه من السريان والعرب والأكراد، وهؤلاء هم نسيج مدينة القامشلي الملوّن فكأنهم في استوكهولم يعيدون تشكيل مدينتهم الصغيرة من جديد. أغانٍ سريانية وعربية وكردية توقظ حنين الجميع الى بلاد بقيت ذكراها في النفوس تطلع الى الآفاق مع الألحان. ولكن هذا ليس استثناءً. فالحال ان الشبّان المهاجرين الى البلدان الاسكندنافية، وغير الاسكندنافية بالطبع، ما انفكوا يستعيدون عادات وتقاليد تشرّبوها، في طفولتهم، وبقيت ترقد في اعماقهم وتستيقظ، بين الحين والآخر. وأينما أدرت وجهك، في الشوارع الأوروبية، تقع انظارك على ازياء صاخبة بألوانها وتقاسيمها لا يربطها رابط بما هو دراج في البلد الأوروبي صاحب الشأن. وكذلك فإن روائح الأطعمة ومراسم الزواج وأغراض الاجتماع وأنماط التآلف ما برحت تنصبغ بصبغة "شرقية" جاذبة في "اكزوتيكيتها" للأوروبيين. تكاد بعض الشوارع، وحتى بعض الأحياء او اجزاء منها، تؤلف ما يشبه جسماً قائماً بذاته منفصلاً عن بقية الجسد في تكوين العواصم الأوروبية. وهذه الأجزاء تنضح بكل ما نشأت عليه المدينة، او الأرياف، الشرقية من ألوان وأصوات وروائح وأطعمة. وشيئاً فشيئاً تنحسر السيادة الكاملة لبعض الأطعمة الغربية وتجاورها، او تحل محلها، اطعمة شرقية بقيت، حتى وقت قريب، "تخجل" من الافصاح عن نفسها. ففي ظل "تعدد الثقافات" الذي صار اسلوب حياة في اوروبا، بدأت تسود انساق تعدد النكهات والأذواق والميول والمسالك. فلن تستغرب ان وجدتَ فتى نروجياً يعزم صديقته الى مطعم لبناني لتناول المناقيش على انغام موسيقى لبنانية تمزج آلات الموسيقى الشرقية والغربية. كذلك لن تدهش ان صادفت صفاً كاملاً من الدكاكين تجود بالشاورما، بأنواعها جميعاً، وتجذب اليها الزبائن الذين تضفي شقرة شعورهم وزرقة عيونهم تنافراً جميلاً على طابع المكان. وتروح الجماعات القومية المهاجرة صوب ميراثها لتستعيده وتقدّمه للمكان الجديد بمثابة بطاقة هوية. اما الجماعات التي لم تكن لها خزانة غنية من الموروثات فإنها لا تتردد في فبركة انماط هجينة تسدّ بها الفراغ. فللبناني المناقيش وكذلك التبولة والحمص والفول وللتركي الشاورما والكباب وللسوري الكبّة وللباكستاني التندوري ...الخ. وتظهر الاعلانات التي تحمل السمات المجلوبة من الديار البعيدة، وتتسمى بأسماء بقاعها. فإذا لمحت، على باب مطعم، صورة لشجرة أرز في وسط مستطيلين حمراوين فتيقّن انك امام لبناني سمّى مكانه "أرز لبنان". ويرسم التركي صورة الطربوش او الهلال او مآذن جامع آيا صوفيا ويسمّي محله اسماء تركية كالفاتح او اسطنبول او ازمير. أما الحروف الهندية والسري لانكية والأوردية فإنها تكاد تستوفي، بذاتها، شروط الاشارة وعلامات الانتماء. وتختلط، في الشارع، بأرهاط من الجماعات تلك تسير، زرافات او وحدانا، وهي تختال في ازياء تفصح لك عن الجهات والأصقاع افصاحاً بليغاً. ولم يعد صعباً على النروجيين والسويديين والدانماركيين، بعد سنوات طويلة من "التعايش" مع الجماعات الآتية من بعيد، ان يميزوا بين الأزياء فيرجعونها الى اصولها. فهذه الشابة التي ترتدي ثوباً ملوناً يمتد من الرأس حتى القدمين هي صومالية. وتلك التي تركت وشاحاً طويلاً وملوناً يتدلى على كتفها بعد ان استدار الى الجهة الاخرى من قامتها، هي هندية او سريلانكية تلبس الساري. والعربيات والكرديات، وإن تشابهت أزياؤهن فإن الفروق الطفيفة، ولكن الكثيرة، لم تعد تخفى عن أعين الاسكندنافيين. اما السراويل الفضفاضة للأكراد والأفغان فقد صارت علامة تدل إليهم من دون ارهاق. وليس صعباً الاستدلال على شاب باكستاني جعل ثوباً واسعاً يتهدل حتى ركبتيه حيث يستكمل السروال إخفاء ما تبقى من عري ساقيه. ولقد تسربت عادات اللاجئين وبعض سلوكياتهم الى الحياة اليومية في الحواضر الأوروبية. فأخذ المطبخ جوانب كثيرة من النكهة الشرقية، وصار امراً مألوفاً ان يظهر الواحد يحمل فطيرة ويشرع في التهامها سائراً، في عجلة، الى مرامه. وشرعت الأطعمة الحادة تحتل موقعاً مرموقاً الى الطعام الغربي حتى ان بعضهم ادمن الفلفل والبهارات وأشباهها من مفاخر آسيا. كذلك فإن جمعاً متزايداً من الناس في الغرب صار يرتدي، على سبيل التباهي مثلاً، الكوفية الفلسطينية او اجزاء من اللباس الآسيوي التقليدي. ويكتسب الرقص الشرقي جاذبية ما تنفك تزداد، فصارت له قاعات تتردد عليها فتيات تسكنهن الرغبة في هز خصورهن والتمايل على ايقاعات راقصة تتسرب من الناي او العود. ويكون حصيلة كل هذا فرحاً مفاجئاً اشبه بما ينتاب الاطفال ازاء عالم غريب يدخلونه. ولا يخفي كثير من الناس شعورهم بالانجذاب ازاء القادم الذي جلب معه هذا السحر الفسيح من الألوان والفضاءات. غير ان المشهد ليس كله بهجة. فالحال ان للميدالية وجهها الآخر. وكثير من شيء يصير مزعجاً في كل حال. فإذا دهش المرء لحفلة عرس، ترتدي الغرابة، فانه سرعان ما يقنط اذ تتجاوز الجماعة حدود المألوف، من الفسحة والبرهة، فتحتل مساحات من المكان ليست لها وتصل بأصواتها الى آذان تريد الركون للراحة وتأخذ من وقت الآخرين جلّه. ومن هذا تصير الأصوات صراخاً وتتحول الأغنية الى عذاب لا تحتمله الأعصاب. ويشكو انفار كثر من سلوك ينم عن انانية مفرطة وعدم احترام لذوق الآخرين وأحوالهم. وإذ تتلاحق حوادث عنف، في فرض العادات، وتتراكم السلوكيات المفروضة فرضاً على ارض لا تحتمل الكثير منها يصير الامر ازعاجاً كريهاً. ويصير الشرقي، من هذا، رمزاً لطيش منفلت وأنموذجاً لفظاظة لم ترق. وحين تتسرب الروائح القوية من مطبخ جارٍ شرقي يختزن جاره الأوروبي حنقاً يجتمع حتى يصير كراهية تنفجر في اي لحظة. اما الصرخات الهائجة لجيش من الاطفال والفتية، يملأون الردهات وشرفات المنازل، فإنها القشة التي تقصم الظهور والأعناق معاً. ولا يبقى سوى مشهد الشبيبة، اللاجئة، وهي تختال في الشوارع كتفاً لكتف وتروح تبثّ، بلغاتها وحركاتها، عبارات وهتافات يراد منها معاكسة الفتيات، حال ما هو سائد في بلدانها الأصلية، لا يبقى سوى هذا المشهد كي تكتمل الصورة المنفرة، زد على ذلك ان هؤلاء لا يأبهون لما ترسخ من احوال وما تكرس من اعراف فيروحون يزرعون، أنى ذهبوا، ما تأتيه ايديهم من اغراس شائكة تدمي اصابع غيرهم. فالحدائق العامة والسواحل والشواطئ وضفاف الأنهر ليست اماكن سائبة يفعل المرء فيها وبها، ما يشاء. والبيئة وأحوالها اصبحت في متن ثقافة عامة وسلوك جماعي. فلا يمكن الافراط بلوازم هذا وذاك. غير ان اصحابنا من الشباب الشرقي لا يأبهون لشيء يكبح نوازعهم. فتجد جماعات منهم تزعق وهي تقفز، على سبيل اللعب، فكأن لا غير سواها في الكون. وتمتلئ السماء بالدخان يصعد من ركام من الفحم تهيأ للشواء في مكان غير معد لشيء من قبيله. وهكذا حتى يصبح السلوك عبارة عن سلسلة من خروق شاذة لقوانين، غير مكتوبة ولكن مفهومة، في مكان كان يفتخر بالهدوء والأناقة. وإذ تنفتح ملفات الحوادث الجنائية يلوح المشهد كله طافحاً بالبشاعة. وفي كل يوم، على وجه التقريب، يظهر الى الملأ خبر، او اثنان وربما اكثر، فتفيض بما يحمله اللاجئون على اكتفاهم من اثقال يفرغونها هنا. وقد يكون الوهم الذي أنشأه الشبان، في بلادهم الاصلية، عن اخلاق الغربيين وعلاقاتهم المتبادلة الشيء الاكثر فتكاً بالذهن والسلوك معاً. فأول ما يبادر اليه هذا اللاجئ الشاب هو، من دون تردد، السعي الى "اصطياد" فتاة يصادفها أنّى كان. وكثيراً ما عمد رجال الشرطة الى ملء ملفات عن حالات اعتداء كان ابطالها شباناً ورجالاً، قدموا تواً من بلاد زعموا انهم مضطهدون فيها ومصادرة حريتهم في نطاقها. وفي اضبارات البوليس لن يصعب ان تعثر على جرائم وجنايات اقترفها عدد قليل، او كثير، من الشبيبة المهاجرة. ويروح الناس يشكون مما يفعله هؤلاء بحق غيرهم من تجاوز للحقوق وخرق للقوانين وإقلاق للراحة وسعي الى السرقة ونازع الى نشر البلبلة وترويج لمواد يحرّمها المجتمع والقانون معاً. ويرقد بعض هؤلاء في نظارات البوليس او في الزنزانات، انتظاراً لسريان العقوبة او للطرد من البلاد. وإذ تنفتح بوابات السجن في وجوههم، على اثر افعال منكرة اتوها، يروح هؤلاء يتصنّعون البراءة ويتجلببون بجلباب الدين فيقولون ان دينهم يحول بينهم وبين القوانين وأنهم لا يستطيعون الرضوخ لما ينهيهم عنه دينهم. وكذلك فهم يرفضون طعام السجن ويخرقون نظامه، بزعم رغبتهم في الصلاة او الصوم، فكأن النفاق الذي كان يضرب اطنابه في بلادهم جاء لاجئاً معهم. وتقع اللعنة الأكبر، كما هو الحال على الدوام، في طريق الفتيات اللواتي أتين البلاد لجوءاً مع اهاليهن. وإذ ينتقلن من حال الى حال ومن قوانين الى قوانين فإن نظرة الأهل لهن تبقى على حالها. فهن يمثلن، كما كان الحال دائماً، الشرف والفضائل جميعاً. وكذلك فإنهن مضطرات الى الرضوخ لما كان عليه واقع الحال في ديار الأهل وليس هنا، في بلاد اللجوء فيتزوجن ما يختاره لهن الأهل الأب في غالبية الأحوال ويرتدين ما تسمح به نظرة مجتمعهن السابق وليس اللاحق. فكأنهن حاضرات هنا بأجسادهن ولكنهن قائمات هناك بأرواحن وأحوالهن. وفي احوال كثيرة يصير متاحاً استقدام فتاة من هناك لشاب يقيم هنا، من دون ان تقوم بين الاثنين علاقة وتواصل. وغالباً ما تأتي الفتاة، مثلها مثل غرض يرسل في طرد بريد، فتتزوج واحداً لا تضمر له حباً او رغبة. فإذا تململت وتأففت واعترضت نالت الضرب والإهانة. ويحدث ان يتلقى الشاب "هدية" من اهله تقوم في فتاة اختاروها له من حيث لا يدري، فيروح من ثم يكتوي بنار الهدية. وهذا ما حدث، مثلاً، للشاب سعد.ك المقيم في هانوفر بألمانيا. فاستيقظ على واحدة تدق باب بيته وإذا بها "زوجته" التي بعثها له اهله مع اوراق الزواج، وهو صار يهرب منها مثلما يهرب الإنسي من الطاعون. وأما المغربي عزالدين.م فقد اخذ زوجته الآتية، تواً، من يديها وفرض عليها ارتداء الحجاب، مع انها لم تكن ترتديه في بلدتها الأصلية، وصار يشبعها ضرباً حتى لم تعد قادرة، ذات مرة، على المشي. وهي اتصلت بالبوليس فأخذوها وأودعوها مركزاً يهتم بشأن النساء اللواتي يتعرض للعنف من ازواجهن. وتبقى هذه القيم، العتيقة والبالية في كثير من وجوهها، تثقل على الجميع. ويكون الجاني والضحية، في الوقت نفسه، أسيرين لأهواء ثقيلة تأتي من هناك لتهب هنا مثل ريح عاتية. ولا يبقى الأمر يتعلق بمجرد سوء تفاهم صغير ينقضي، بل سرعان ما ينشر الرعب لواء الدم والموت. وما حدث للفتاة الكردية، هناء، التي قدمت مع اهلها من بلدة دهوك الشمالية في كردستان العراق يعد آية هذا الحال. فقد أتت صغيرة وكبرت، مع عائلتها، في السويد من دون منغصات. ولكنها، إذ شبّت عن الطوق وكبرت وملكت شخصيتها ومضت تتصرف بمثل ما تتصرف به رفيقاتها، من السويديات، بحرية وعفوية نهضت الشياطين الراقدة في اعماق الأهل: الأب والأخوال والأعمام. وضُرب حول الفتاة نطاق جهنمي من الرقابة ورسمت لها الخطوط الحمر والمحرمات. ولكنها، في غفلة منهم، خرقت النطاق ورفضت وصايتهم على شخصيتها وأرادت ان تصون شخصيتها، وكذلك حريتها. ودأبت في السير مع رفاق عمرها، من الشبان والشابات، ومضت تتبادل معهم لوازم اللهو والفرح. واعتبر الأهل هذا السلوك "سويدياً اكثر من اللازم". فلم تعد هناء، في أعينهم، تسلك ما تقتضيه "عادات الأكراد" ومتطلبات السمعة. فأخذ خالها، على عاتقه حل المعضلة، على طريقته، وكذلك طريقة الأجداد: حمل سكيناً انهال به على هناء فمزّق جسدها وفتك بروحها. وظلّت المحاكم السويدية، وكذلك الناس هناك، منشغلة بأول حادثة "جريمة شرف" تقع على اراضيها. ويقبع الخال في السجن، اما هناء فقد انصرفت الى العالم الآخر. وأما مشكلة الشابة قادرة الصومالية مع تقاليد الأهل وعادات المجتمع الذي ينتمي اليه الأهل فإنها تضمر، الى جانب المأساة، هزلاً سخيفاً. وهي كانت جاءت صغيرة، ايضاً، وسكنت مع اهلها في اوسلو، بالنروج. ولم تبلغ سن البلوغ، حتى طلب منها اهلها، على جري عادة متبعة في الصومال وبعض البلدان الافريقية، ان ترضخ لمشيئتهم وتسلّم لهم جسدها حتى يدمغوه بخاتم الشرف: ختان النساء. غير ان قادرة رفضت، وهي استقوت في الرفض بقانون نروجي يحظر مثل هذا الاجراء. وحملت قادرة جهاز تسجيل وتصوير صغير وذهبت الى إمام جامع كيني فسألته رأيه في الختان. وهي كانت خبأت الجهاز تحت سترتها. فأخذ الإمام يوصيها بالرضوخ لطلب الأهل وهو قال بالحرف: يجب ان نظهر للنروجيين شيئاً في وجوههم ونمارس شيئاً آخر في السر ينسجم مع عاداتنا وتقاليدنا. فلمّا سلمت قادرة الجهاز، المصوّر والمسجّل، لمحطة تلفزيون نروجية فأذاعته على الناس أسقط في يد الأهل والإمام المزعوم. واعترف الإمام، في مقابلة تلفزيونية، بخطأه مثلما اعترف بأن له زوجة أخرى في كينيا، غير تلك التي تقيم معه في النروج.