جاءت حرب افغانستان بالصيغة الاكثر وضوحاً لمشهد الشارع السياسي: الشارع العربي، الشارع الاسلامي، الشارع الشرق اوسطي. شارعنا. الشارع الذي صنعته اجيال من المتنورين والتقدميين والمتطلعين الى المستقبل. الشارع الذي طالما كان الساحة الثالثة بعد البيت والمدرسة، حيث تعلم ملايين من البشر الف باء وعي الذات الجمعية وادركوا حقوقهم وواجباتهم واكتشفوا روح التضامن وتوصلوا الى الانتماء الى "الكل" الانساني. وبهذه الاسلحة استطاعوا محاربة العلل النفسية التي لا شك انها تصيب الجماعات كما تصيب الافراد: العزلة والوحشة والسوداوية والذهان والعصاب وعقد العظمة والاضطهاد والارتياب الخ.. لربما كنا تعلمنا التعبير الجماعي خروجاً من الخاص البيوت، الى العام الشوارع من الغرب. فقد يكون قادة الرأي والفكر الأوائل جلبوا هذه التعبيرات من اوروبا حيث درسوا واطّلعوا وتأثروا، وترجموا ذلك في وسائل على هذا القدر او ذاك من التطابق او التميز عما لدى الغرب. وقد يكون في تراثنا التعبيري جذور لهذا النوع من التجمع حول موقف او رأي او مطالب، ولعل احداً قد بحث في هذا الامر وتوصل الى نتائج او افتراضات. سجل الادب بواكير مشهد الشارع السياسي ثم عممتها السينما. فمن كان ابطال الشارع في العقود الاولى من القرن العشرين؟ قادة سياسيون ورجال الرأي والفكر والدين. طلاب وموظفون ونخبة المجتمع من المثقفين والمتعلمين الى جانب الحرفيين والتجار واصحاب المهن، من يسمّون "أبناء السوق" نساء ذوات خدر، ونساء متطلعات الى ادوار لهن لا تبدو بعيدة المنال. شباب مندفعون ورجال ناضجون وكهول. فما الذي كان يأمله أولئك؟ ما الذي كانوا يتطلعون اليه؟ المستقبل! اي مستقبل؟ المستقبل المتحرر من ارادة القوى المستعمرة. المستقبل النقيض لواقع التخلف والعجز والارتهان لسطوة الماضي. المستقبل الذي يحقق للوطن، للامة، الاقتراب، وربما الاندماج بمركز الاشعاع الحضاري المتمثل آنذاك بأوروبا. واما الراهن فقد جُعل رهينا بما يمكن للمجموع ان يحققه خلاله من اجل الوصول. ولذا كان الراهن برسم التضحية به من اجل المستقبل، لشدة ما كان واضح المعالم محدد الأبعاد بالغ القرب كثمرة دانية القطاف. اذ ما الذي يعيق القطاف المأمول؟ فها نحن شعب يدرك اهدافه ويسعى من اجل تحقيقها بالوسائل التي اختبرها واثبت فاعليتها النموذج المقتدى به. وها هو المستقبل بالنسبة الينا كشباب بالنسبة للكائن البشري في طفولته: آت لاريب فيه. ولعل ذلك هو سر ازدهار الامل في مرحلة الكفاح من اجل الاستقلال الوطني. فأولئك الذي افنوا اعمارهم فيها، والذين كانوا يتقدمون في اعقابهم وعلى هدي خطواتهم لم يعانوا اللاجدوى. كان الامل يلوح لهم. وكانوا - من اجل بلوغه، او حتى لمجرد الاستمتاع برؤيته يلوح من بعيد - مستعدين للتضحية بحقهم وبحصتهم في هذا الامل. والاهم انهم كانوا يضحون بطيب خاطر بحقهم في اليأس والتخلي والانسحاب الى ظلال التواكل والاتكال. في ما بعد. في حدود عقدي الستينات والسبعنيات كان مشهد الشارع يزدهي بأجيال القطاف. شباب من رجال ونساء بدوا كأنهم ينقلون اقدامهم عابرين الخط الفاصل ما بين الراهن والمستقبل. اما الماضي فقد بدا بعيداً جداً. ولم يكن لشيء ان يشكك في "حتمية الانتصار"! من كان يخرج الى الشارع في الستنيات والسبعينات؟ الأدباء والفنانون والمثقفون والطلاب والحزبيون والنقابيون. رجال ونساء على مقادير ملحوظة من الوسامة والاناقة. شباب تضيء اراداتهم الحرة وجوههم وتضفي على ملامحهم جمالاً وعلى خطواتهم ايقاع التوثب والحيوية والثقة بالنفس وبالآخرين وبالحياة. اين ذهب هؤلاء؟ واين من يفترض ان يمروا في اعقابهم وعلى هدي خطواتهم؟ هل هم انفسهم الذين يملأون الشوارع اليوم، وقد شوهتهم قوى خارقة ساحقة ماحقة؟ ام ان الناس كانوا على الدوام فريقين، اذا ما جرت المياه في طاحونة فريق احرز السيادة على ظاهرة الحياة، وانسحب الآخر الى خلف الأستار او تحت الارض او في الظلال العميقة. لعلّي اريد طمأنة نفسي المرتعبة من مشهد الشوارع اليوم، فأوحي اليها بأن بعض الرحمة وشيئاً من الامل يمكن ان يحققا معجزة قيام اولئك المنزوين في ظلال الخذلان ويدفع بهم الى الشوارع ليخففوا من وطأة هذا الاجتياح الهائل لضحايا القنوط، المندفعين نحو المجهول وهم يحسبونه مستقبلاً. ام لعلّي اريد تحاشي مواجهة حقيقة ان هؤلاء الذين يملأون الشوارع ويقودون التظاهرات ويرسمون بشعاراتهم وهيئاتهم صورة المستقبل الذي يريدون، انما يرون المستقبل "الحقيقي" الذي ارفض او اعجز عن رؤيته. فهل هم يمضون نحو المستقبل الذي "يريدون" ام الذي "يلوح" لهم بالفعل؟ وهل هؤلاء الذين يجتاحون الشوارع هم "كل" من يملك، او يدعي، الحق في "مستقبل" يريده ويدركه ويسعى اليه؟ وفي هذه الحال، أين الآخرون؟ أين نحن؟ أين مستقبلنا؟